السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قصة وسرد / مجرد هراء!

مجرد هراء!

بقلم الكاتبة مهى هسي

مجرد هراء

أحب زمن الرسائل وأحب أن أكتب رسالة طويلة وأضعها في قنينة زجاجية لتصل وحدها مع الموج، ودوماً رغبت بكتابة رسالة طويلة لأجرب قدرة الحمام الزاجل. إلا أن الرسائل الآن صارت تصل قبل أن تنهي كتابتها، لذلك حين صرت مطمئنة أنه لن يقرأ، قررت أن أستغل فضول امرأة تجلس إلى جانبي في عيادة طبيب المعدة كي أعذبها بمحاولات اختلاس النظر إلى شاشة الهاتف وأنا أكتب الرسالة، ما أهبل النساء! كان بإمكاني أن أقول لها “خدي راحتك بإنو تقرأي أصلا انا رح انشرها عالفايسبوك”.. لكنني لم أشأ أن أحرمها استمتاعها بهذه المغامرة، فقد تركت أخبار الفنانين والمشاهير في مجلة “ليالي” التي تتأرجح بين يديها، لقراءة رسالة بالسر – رسالة حبيبة بلهاء- لكن يبدو أنها ضعيفة النظر على أية حال، تنظر بعين واحدة نصف مغلقة أساساً وتغمض الأخرى. أما أنا فضعيفة الحيلة أمام حبه، احبه مثلما أتنفس وأرى وأسمع، في كل ثانية من أيامي الطويلة، في كل حب عابر، في كل نسيان… في كل حافلة نركبها وحدنا! ولن يدرك يوماً كم يحزنني هذا، أن لا أجد مكاناً أرمي منه “أحبك” من نافذة من النوافذ الخشبية المهترئة في بيته القروي، وأن لا أكون حتى “بنت الحي” التي يبتسم لها في طريقه إلى بيت جده النصف مدمر.

ويحزنني أنني قد تحولت إلى مازوشية تماماً، أتأمل صوره التي تظهر لي في كل مكان، أقول لنفسي إنني “اشتقتله كتير” وأشعر وأنا أُجلَد بها، ببعض اللذة.
الطبيب في العيادة المجاورة يودّع مريضة ويستقبل ضيفاً، لم ينتبه لصوته العالي وهو يقول لضيفه: “لا تواخذني، نطّرتك برا بس كانت الصبية شالحة”… سمعه الجميع، والصبية المراهقة خجلت وكادت تموت من الخجل، فكانت تلف إصبعها بطرف كنزتها وتهز قدمها وهي مطأطئة الرأس. بينما أمها ابتسمت بإشفاق معه “شوية زعرنة” ورافقت ابنتها خارجاً. تبادل المرضى نظرات مضحكة بينما مذيع الأخبار على التلفاز يخطىء في تهجئة كلمات نصه، ويتغضن وجهه وهو يقول أن الغارات الاسرائيلية استهدفت مدن غزة، شردت قليلاً ثم رنّ في أذني خطاب مندوب فلسطين في مجلس الأمن، فأغمضت عيني وتخيلت كيف ستغدو هذه المشاهد في الذاكرة بعد خمسين عاماً! ربما مجرد كلمات وصور، ومثلما مرت النكبة والنكسة والمجزرة تلو المجزرة، سيمر أرشيف الصور والخطابات هذا، ولن يتسنى لنا أن نقول أننا على الأقل، وسط كل هذه المصائب، حصلنا على قصة حب صغيرة صادقة، أو قبلة جامحة، أو أنني على الأقل، احتضنت كتفيه الجميلين واحتفظت بملمسهما على جلدي.
سأتذكر دائماً أنني في مثل هذه الأيام، وقفت أكثر من ساعة مع صديق كهل في الشارع، ولم يكترث أنها كانت تمطر عليّ، وأنا لم أكترث أيضاً، وأنه تكلم كثيراً وكثيراً في الثقافة والسياسة، وأنا أحاول التظاهر أمامه وأمام نفسي، بأنني لا أفكر به طوال الوقت، وحاولت إخفاء ذلك بمقاطعته بجمل سخيفة، “عمو بتعرف إني عملت كتاب؟ عمو معقول البرد عم يوجعلي معدتي؟” عمو قولك الكهربا اجت؟”… “عمو….”، “معقول إيديه عم يضموا حدا؟”… “معقول ما عاد نلتقي؟”.. معقول أنت؟ معقول أنني حين نظرت إلى زاوية عينه وهو يثرثر، وقلت “هذا الرجل حبيبي”، كنت أحلم؟
معقول أن لا أنظر إليهما ثانية؟
أعرف أن كل شيء معقول، لكنها مجرد رسالة كتبت على صوت طرقات المطر على النافذة، مجرد هراء ستعلكه ألسنة صديقات المرأة التي بجانبي، مجرد صراخ في بئر ، مجرد ألم في المعدة!