السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قصة وسرد / لحظات رؤية مغبشة!

لحظات رؤية مغبشة!

بقلم الكاتبة مهى هسي

كنت أراقب الثلج وهو يتساقط ببلادة من خلف الزجاج، أحتسي كوب الشاي الساخن مع النعناع وأغطي جسدي بشال أبيض كانت قد أخاطته لي أمي قبل سنوات، قالت لي وقتها: “البرد يا بنيتي… البرد… لا يأتي من الخارج”.
شعرت ببرد غير اعتيادي فضممت بعضي إلى بعض، وحاولت قدر الإمكان إزاحة تلك الذكريات الأليمة، ارتشفت من الشاي بسرعة وكأنني أشرب كوباً من النبيذ. أحرقت لساني ولربما انهمرت دموعي وقتها بسبب سخونة الشاي.
لم أهتم كثيراً وحاولت قدر الإمكان الاستمتاع بتلك اللحظة. فكرت قليلاً بمعنى اللحظة وكيف العالم يدور بنا ونحن ثابتون نهزم الأيام الرتيبة بأشياء صغيرة. تلك اللحظة تماماً يغلق السماعة موظف استلام الشكاوى في شركة الكهرباء، يسرق أحدهم كبلاً نحاسيًّا، وينطفئ الضوء في منزل ما، فيقبّل رجلٌ ما امرأةً ما. المازوت يصدر صوت تك.. تك.. تك، وهو ينزل ببطء في المدفأة، وحتماً ثمة من قرر رمي نفسه من طابقٍ عاشر، أو فقط حاول إطلاق رصاصة في رأسه، بينما صاحبة الميتم بهدوء تحرك شوربة العدس على الغاز.
ألتصق بالزجاج، وأفكر كيف يبدو الخط الواصل بين نقطتينا على الخريطة، أحدثه مرة بالتخاطر ومرة بصوتٍ عالٍ:
– خطوة للأمام، لا… لا إلى الوراء قليلاً، وجهك لا يتجه للشرق عليك الدوران. هكذا تماماً! ها قد رسمنا خطًّا مستقيماً بيننا.
أنا وهو نقطتان على استقامة واحدة في الكوكب الشاسع، نقف كطفلين وضعا زورقاً ورقيًّا في البانيو، ننفخه باتجاه بعضنا ثم نغش وندفعه بالأصابع، إنها لعبة المسافة التي صارت إدماناً، يجب عليّ هزمه وإلا قتلني. تتجدد كل يوم، وكلما حللت جزءاً منها انكشف آخر، زورقي بطيء وبالكاد يتماسك، وهو يسند ذقنه إلى يديه في الضفة الأخرى عاجزاً عن مساعدتي.
المدينة هنا لا تبدو كالعروس في ثوب الزفاف كما يقولون كلما هلّ الثلج، وإن كانت كذلك فهي عروسٌ متروكة في آخر لحظة، أرملة زفاف، عاشقةٌ محطمة. لا أستغرب سوى هذا العدد الكبير من الناس في الباص وفي الجامعة وفي مراكز توزيع الغاز والخبز أو المساعدات الانسانية، أعداد هائلة من السكان قُتلت، أو هاجرت، من أين إذاً جاء كل هؤلاء؟
أضحك كالبلهاء وأكمل الحوار معه:
– لا تضحك، أنا جدية في ما أقول! فقط لحظة واحدة ريثما أخلع الأكف الصوفية.إنها تزعجني!
مضحك فعلاً، أن فتاة بلهاء تحدثه كي تحدث نفسها، وأنها تخرج في البرد القارس مطوّقة بالصوف كي تمشي تحت الثلج، ثم يراها تسرع في المشي كالهارب من شيء ما. مضحك أن العالم الافتراضي هو كرتنا الزجاجية، نجلس أمامها كالسحرة وأيضاً كالمسحورين، نرى الناس كأنهم خلف بخار طنجرةٍ تغلي، هلاميون، ضبابيون، ثم نترك وجوههم وملامحهم تنصهر مع أصواتهم وضحكاتهم وصرخاتهم، لتصير همهمةً ممزوجة في قدرٍ معاً، ونتفرغ لتفصيل ملامح شخص واحد، ومسح كل الضباب الذي يمشح وجهه. ما هي النكتة السمجة التي تكررها الحياة، فتجعلني وأنا في كامل انسجامي، في نقاء تام، أبكي.. أبكي وأحزن كأنما انقضت الحسرة على قلبي وأخذت تنهشني، وكيف يحصل أننا لسنا معاً، نعرف فقط أننا رُبطنا بخيط واحد ثم قذفتنا البلاد كلًّا في جهة.
في هذه اللحظة تماماً، تتزحلق شاحنة على الطريق السريع، يضع بائع الكعك كثيراً من الزعتر فيها ويراقب انتشار المتسولين، الثلج لا يصدر صوت تك.. تك… تك، وأنا لا أرمي نفسي من أي طابق، فقط أفكر في كل الجوارب التي تمزقت، وكل الصحون التي انكسرت، كل القبلات والعناقات والسرقات، وأفكر في عدد الأمهات اللواتي تركن شوربة العدس تحترق على الغاز وكل الأشياء التي تحدث في تلك اللحظة.. تماماً! ولربما كل تلك الأشياء “أثر فراشة” درويش، تذكرت الكتاب وأسرعت إلى غرفة النوم وانتشلته من تحت الوسادة، وقع كوب الشاي من يدي واصطبغ الشال الأبيض ببقع بنية، بهدوء خلعته وتركت بقايا الزجاج على الأرض، رميت الكتاب على السرير وخرجت من المنزل بثياب رثة ، لم أشعر بالبرد قط، بل شعرت بدوران الأرض ونسيت ما حصل في ذلك الوقت، كل ما أذكره أن رؤيتي كانت مغبشة وطعم شوربة العدس كان لذيذاً، وصوت صاحبة الميتم المزعج كان رقيقاً ولطيفاً مثل صوت أمي وصوت مذيع الأخبار المنذر بالخطر كان رقيقاً ولطيفاً مثل صوت ابن الجيران.