رواية وادي الغيوم للدكتور نسر تكشف أسرار انهزامنا!
2019-04-21
قراءة في كتاب
697 زيارة
بقلم الأستاذ حيدر حيدر
أمسكتُ الكتابَ بخوف، وقلّما يُخيفني كتابٌ. ولكن أن تُمسكَ بين يديكَ باكورة الأعمال الروائية لصديقٍ أقرب إليك من صوتكَ، يرتجفُ القلمُ، ويتملّكُكَ توجّسٌ مُبهَمٌ للهروب إلى الأمام.
لستُ ناقداً أدبيّاً أكاديميّاً يُسمَحُ لي بصوغ نقدٍ، كما أنّني لستُ ممّن يمتلكون تقنية السرد لأحكمَ على نصٍّ أدبيّ، ولكن سأسمحُ لنفسي بإفراغ كلّ ما اعتراني منذ اللحظة الأولى التي أمسكتُ فيها ذاك المولود الملائكي “وادي الغيوم” للدكتور الأديب والناقد والشاعر علي نسر.
لم أستغرب مداريّة العنوان الرحبة، فثنائية الضدّ التي أتقنَها بشغفٍ الدكتور علي نسر منذ معرفتي به أيام زمالتنا في التعليم، تُخوّله كما عوّدني، أن يجمع حوله كلّ التناقضات ويبقى متمايزاً عن الجميع. فذاك الوادي المليء بغيوم أفكاره وتطلّعاته حمل من الصفحة الأولى صنّارة صيّاد ماهرٍ يجذب القارىء إليه مطواعاً. علّقني بشباكه من الفقرة الأولى، حيث كانت أقرب إلى قراءة أفكارنا بصوتٍ عالٍ، ليخال كلّ واحدٍ منّا أنّه سيكون “يوسف قنديل” أو “صلاح”. فنجتمع معاً على اختلاف رؤانا ويدور صراع الأيديولوجيات المتناقضة ومنها المتنافرة في قالبٍ سرديّ ولغويّ متينٍ، تحكمه روعة الأسلوب الفذّ الذي خالَفَ الشائع من السواد الأعظم في رواياتنا الشرقية. فكان فريداً في تقليب المشاهد بسلاسةٍ لَبِقَةٍ دون انقطاع، رغم التفاوت في الأحداث المتسارعة على مدار النصّ وتماسك الوحدة الموضوعية فيه. وساعده أنّه موهوب بمَلَكَةِ اللغة التي جاءت طَوعَ بنانه، فتنسال الحروف مغناجة على صفحاته، ليُبدّلَ الأصوات في سمفونية فريدة تجعل منه رائداً من روّاد حركةٍ بنيويةٍ جديدة، تُؤسس لمدرسة سيكون لها دورها الجبّار على الساحة الأدبية.
“وادي الغيوم” التي تحمل في طيّاتها تأريخاً مقصوداً لمرحلة نضالية من تاريخ شعبنا، مسجّلة أدقّ تفاصيل الاختلافات والخلافات، حافظة سرّ حركة الشعوب بحركةٍ قسريّةٍ فُرضَت عليها، لتبني مستقبلاً وصلناه بغير قصد. ولعلّ الدكتور علي نسر اراد من خلال ذلك الإضاءة على سبب هزيمتنا بكثير من اللباقة دون تجريح، عارضاً بأسلوبٍ أنيقٍ كلّ الأفكار التي كانت سائدة مساحة هذا الوطن، وبالخصوص في الجنوب، مُعزّياً هزيمة الفكرة بأحداث دراماتيكية عبر هزيمة حامليها. ولم يلجأ إلى تبريرات ومسوّغات للأحداث، بل تركها تسيل مع حبره المُراق لتنضجَ لدى القارىء ثمرة التجربة بالعقل الممزوجة بالدروس والعِبر على اختلاف أخطائنا ونتائجها.
هي رواية التمازج والتمايز، حيث تنصهر الأفكار والأحداث في بوتقةٍ خاصة، كلٌّ يراها من منظاره ورؤيته، دون إصدار الأحكام المُسبَقة كما عوّدنا البعض، أو قُل الكثير. والتنافرات العقائدية أسهمت إلى حدٍّ بعيدٍ في إغناء النصّ السرديّ، عبر حواراتٍ صِيغَ بعضها باللغة المحكيّة (العاميّة) ليصبح النص أكثر التصاقاً بالقارىء، وبعضها باللغة الفصحى مع قالب شعريّ يحمل إبداعات الدكتور علي نسر المُحلّق في فضاءات المبنى والمعنى معاً.
“وادي الغيوم” طَرْقٌ صادمٌ لكثيرٍ من المفاهيم والموروثات. رواية جريئة فوق حدّ التصوّر من حيث التساؤلات المُبطّنة حيناً، والكلام الصريح أحياناً كثيرةً حول جملة الموروثات الدينية والثقافية والاجتماعية والعقائدية والسياسية، فطَرَقَ الدكتور علي نسر باب المحظور غير مرةٍ ليضعنا جميعاً أمام المسؤلية التاريخية بأنّه بادَرَ حيث لا يجرؤ الكثيرون، وعلينا المُضيّ قُدماً لنسير، إن لم نكن خلفه فلنقل معه، على درب مَنْطَقَةِ أفكارنا وعقائدنا وطقوسنا وعلاقاتنا الإجتماعية والإنسانية.
لن أسمحَ لنفسي بالتطاول أكثر من ذلك، وسأضع الحدود لي. ولكن، رواية “وادي الغيوم” جعلتني يا صديقي الدكتور علي نسر أخاف عليك. وهو خوفٌ بالحبّ. ولأنّكَ تُؤسس لمدرسة فريدة في عالم الرواية العربية، ولن أُبالغ إن قلتُ العالمية، ولأنّ مولودك البِكر في الرواية كان من الرِفعة والسموّ والألق فوق حدود الكلام، فإنّي أخاف عليك أكثر! لأنّني سأتألّم وأنا أراك تعصر روحك المعطاءة لتدُرَّ علينا بمولود جديد، ولأنّني سأنتظر بفارغ الصبر لأعود إلى ينبوع فكركَ أستسقي منه غَرْفاً بعد غَرْفٍ.
الدكتور الروائي والناقد والشاعر علي نسر، مباركٌ لنا بكَ يا صديقي، لأنّكَ “نسرٌ” ساقَ الغيوم إلى واديه ليسقي جدبَ أرضنا الثقافية في زمن القحط، علّه يعشوشب بين صخور أيامنا قليلٌ من طرابين الحبق الملائكيّ .. وننجو .
حيدر حيدر
20/4/2019