عناق!
2019-03-31
قصة وسرد
739 زيارة
بقلم الكاتبة سارة بيطار
لم أُدرك يوماً حقيقة ما يمكن أن يشعر به المرء في حضن كهذا. لطالما انتظرت وتمنّيت، ولطالما احتضنت لعبتي باحثةً عن بعض الدفء والحنان، أرنو اليها دائماً في أوقات الفقد والحزن. كنت أشعر بأنها ستبادلني المشاعر يوماً، فتتحوّل إلى شيءٍ من لحمٍ ودم. كان البرد لديَّ شعور مزمن. أمّا الآن، فقد استحال الصقيع إلى حطب مشتعل بلهيب العواطف التي حَلمتُ بها بصبرٍ لا يطاق، كنت كصائمٍ أرهقه العطش، في يوم يكاد لا ينتهي.
أطال عناقه.. يعلم أنني أتلذّذُ به الآن كمّصاصة دماء لم تذق زادها منذ زمن طويل، أراد تعويض سنين الحرمان، كانت ذراعاه مشبعتين بالدفء، بأنفاسي التى كلّت اللحاق بأطياف الوهم، وبعطره العربي الذي لم يتغير أو يتوار عنّا يوماً.
لا أدري إن شعر بدموعي التى اختلطت بشذىً طاب لي، وبقيت صامدةً رغم خجلي منه.. من نفسي.. ومن أي أحد قد يمرّ رغم تيقيني بأن جميع الطلاب أنهوا حصصهم، و هرولوا مسرعين يتسابقون إلى حافلاتهم وذويهم الذين ينتظرونهم بكل حبٍّ ولهفة. وحدي أنا، بقيت جالسةً من دون اكتراث أحد لبقائي في المقعد الأخير من صفنا القابع في نهاية رواق المدرسة الثانوية المختلطة.
لم أُخطّط للمكوث هنا، لم أخطط لأن ألقاه في تلك اللحظة التي كنت فيها رثاءً لا سبيل له في نجاةٍ، أو أمل.
أتراهُ الله أرسل ملاكه الآن؟
كنت أجهش في بكائي الصامت رغم أنه لم يخلُ من بعض التشنجات بين الحين والآخر. غطّى شعري المنسدل كُتلتي التي تجمعت على المقعد بفوضى تشبه تلك المتوغلة في روحي، وكانت بضع خصلات منه تستمر في مشاكستي فأمسحها بغضب مع الدموع التافهة التى ما طفقت تنهمر رغماً عني!
أجفلتُ فجأة، إذ وجدت يداً تمتد إلى رأسي بكل حنانٍ، رفعه من الطاولة التي كانت تسبح بماء مالح يمتزج بالكحل، قال لي وقد جلس بقربي بينما أوسعت له مكاناً بإيماءة منه:
ما لي أراكِ وحيدة؟ لم بقيتِ في الصف بينما انصرف كل الأساتذة والطلاب؟
شعرت برغبة في السكوت، لكنني قلت متأتئةً:
لا أشعر برغبة في العودة إلى المنزل!
ولمَ أرى عينيكِ بهذا الحزن يا حلوة، ما سبب هذه الدموع؟
نظرتُ إليه بانكسار وخيبة، كيف أشرح حزني لهذا الرجل الغريب؟ أنا العاجزة أحياناً عن الشرح حتّى للأوراق التى لا يقرأها غيري، لم يكن لي من الأصحاب سوى فتاة تركتني منذ عامٍ حينما قرّر أهلها، وتبِعَتهم هي من دون تفكير، فالزواج بالنسبة اليهم أهم أحلام الفتيات. كما أن إهدار الوقت في التعليم الثانوي والجامعي سيؤخر مستقبلها الواعد، وربما قضى على فرصتها التى لا يجب أن تضيع، إذ تقدّم لخطبتها شابٌ ذو نسب ومال. طأطأتُ رأسي واضعةً كلتا كفّي على وجهي، أُخفي الأسى الذي اعتراني بانجراف. رحتُ أُفكر بأي حيلة أخرج بها من مأزقي. لا أريد أن يعلم بما قاله أولئك الأشقياء عني، لن يردعهم عقابه في اليوم التالي. لقد حوّلوا حصّة العلوم إلى عرض هزلي موضوعه وزني وشخصيتي. أنا لم أُؤذِ نملةً في هذه الثانوية، يتناولني حفنة من المدلّلين ضمن أحاديثهم كفستق التسلية، يتغامزون كلّما رأوني، يهمسون باسمي مع جمل كثيرة لا أسمع معظمها، لكنني أفهم سياقها بالكامل، فعبارات وجوههم الساخرة، وإشارات أيديهم ونظراتهم المتهتكة، كلها كانت تدور في فلك واحد، إنني فتاة بدينة وضيعة لا قيمة لها!
لم أدرِ في أي لحظة قرّر أن يشدني إلى صدره، فقط .. وجدتني هناك، أنعم بهذا الشيء الناعم كصوف حملٍ وديع، وكملمس الوسائد الإسفنجية لأطراف هرّة.
دام عناقنا الخرافي هذا نحو خمس دقائق، لربما كانت أطول.. أو أقصر. لم يعد للوقت أي نفع هنا، كل ما كنت أشتهي في هذا العالم يكمن بين ذراعيه. راح يمسّد شعري، ورحت أتغلغل في صدره بينما يتهادى مطر روحي على مهلٍ وكأنه يعاتب قدراً قاسياً قرّر للتّو أن يحنو على فتاة مراهقة، ما عَرفت راحة او أمل.
هو الأستاذ رامي ناظر طابقنا، لم أعرف رجلاً بمروءته ونبله. كان يهتم بالجميع، يميل إلى مساعدتهم أكثر من معاقبتهم، ويسأل عن الغائب باهتمام مضاعف، ليس ظناً سيئاً أو خوفاً من غش أو هروب، بل اطمئناناً لأنه يعد كل طالب عنده كابن له، كان دائماً يُحدثني باهتمامٍ واحترام، لكنني بالرغم من ذلك لم أجرؤ يوماً على تجاوز الخطوط الرسمية معه، وكنت أحسد الرفاق القادرين على ممازحته أو التعبير له عن مودتهم. كنت أنا الوحيدة التى تحمل حبّاً يخصها وحدها فقط، لا أعرف إن لمح معزّتي في عينيّ يوماً، لكنني لم أستطع أن أزِد عنها بأي وسيلة تعبير ممكنة، ولشدّ ما كنت أتعذب بسبب عدم إظهاري الامتنان لطيبته وحسن معاملته.
وفي لحظة.. تنتهي مدة السلام، يعود ليسألني بينما راح يردُّ خصلاتي إلى وراء أذنيّ ويمسح بمنديله كل السوائل التى امتزجت في وجهي. بدا سؤاله أخف وطئاً مما حاكته المُخيّلة عندما صَلّتْ كثيراً كي لا يُطرح على فتاة لا تجيد الحديث فيما يؤلمها أو في أي شيء آخر. فالإنطواء والعزلة وحدهما يعرفان أخباري وأسراري، وأحياناً بعض الأوراق. أما صلتي مع هذا العالم فمنقطعة منذ أمدٍ بعيد، لا تزيد عن قناعٍ من الهدوء والخجل، وبعض الجديّة المُحرَجة عند اللزوم. همس بصوته الرخيم:
ألن تخبريني بما آذاك الى هذا الحدّ؟
قابَلتُ سؤاله بالصمت، أغمضتُ عيني هروباً، ثم ما لبث أن وضع يده على خدّي، ففتحتهما لأرتد إلى مقعدي مذعورة!
كيف؟ .. كان ما أراه شبه مستحيل، إنه أبي!
لقد تحوّل الناظر الى أبي المتوفى منذ عشر سنين، هكذا بكل أناقته ووسامته التى كنت أتأملها في صوره وأتمنى لو أتمكن من لمسه ولو لبضع دقائق.
صرختُ بغتةً!
أبي.. أبي
وانجرفت لموجة دموع حارقة، ارتميت في حضنه ألامسُ أطرافه غير مصدّقة، لم أشعر بالذعر، كانت عيناه تعملان كمهدئ وباعث للأمان، راح يحدثني من خلالهما… ليته يتكلم فأسمع صوته!
سألني بقلق، “ما الذي أصابك؟”، أجبته بالطريقة نفسها ” أولا تعلم يا أبي؟”، قال ودموعٌ حنونٌ راحت تترقرق من عينيه الصافيتين بلون البحر” انا أعلم.. لكنني أريد أن أسمع شكواكِ يا ابنتي الغالية”.
هل أُخبر أبي عن ذاك الشاب الذي أحببته منذ عام دون أن يلتفت لوجودي حتّى؟ هل أقول له أنه كان يشارك أولئك الأوغاد في جَلْدي اليوم؟
أم أخبره عن زوجته التي هي أمي؟ تراه يخبرني إذا كانت حقاً أمي؟
لا أعلم إلى الآن اذا كانت حقاً كذلك، هي أشدّ قسوة من كل ما حولي، لم أرَ ابتسامتها سوى في النادر القليل، وكل ما عدا ذلك؛ فهي إما حزينة أو غاضبة.
قال وقد قرأ كل أفكاري” إنها والدتك يا ابنتي، كل ما أصابكما هو غلطتي أنا، أنا المذنب بترك امرأتين وحدهما في مواجهة الواقع دون أي أسلحة، لقد تركتها بعد ستة سنوات من زواجنا، تُربّي فتاة دون أن تملك مالاً أو عمل، فاعذري طباعها إذا أخطَأَت التصرف دون اعتبار لحاجتك إليها…
كنت أنظر اليه واستمع إلى روحه التى تبرّر لزوجته المسكينة، بينما تثور موجة غضب في جسدي.. أنا التى حُرمت حنانه قسراً، وَتابَعتْ هي بقسوتها حرماني عاطفة الامومة اختياراً، فما ذنبي؟
قال لي محاولاً تهدئتي: “ألم تشتاقي لوالدك؟”
عانقته بعنف، وقد خرجت الكلمات من فمي بصعوبة بالغة
إنني أحتاجك يا أبي.. أحتاج مساعدتك
قال: “أنت لا تحتاجين مساعدة أحد”. (أفقت، وكان هذا درسي الأقسى… والأفضل). سارة البيطار
4/1/2019