البروفيسور الجزائري بومدين جلاّلي لمجلة إشكاليات فكرية: يختفي تدريجيا الأديب المناضل المضحي في سبيل فلسطين..!
2019-03-28
مقابلات وتحقيقات
556 زيارة
حاوره أ د أنور الموسى
يبدو أن إشكالية كبيرة تواجه القضية الفلسطينية تتمثل في قلة الأقلام الأدبية التي تدعمها مع أن الاحتلال الإسرائيلي هو جوهر نكبة العرب وسببه الرئيس… ترى هل فعلا تخلي الأدباء العرب عن فلسطين؟ وما وظائف الأدب الذي يمكن أن يساند الشعب الفلسطيني المنكوب؟ وكيف تغيرت النظرة الأدبية إلى القضية الفلسطينية؟
أسئلة أجاب عنها لمجلة إشكاليات فكرية البرفيسور الجزائري بومدين جلالي من الجزائر.. و تحت عنوان تخلي الأدب عن قضية فلسطين وجرائم الاحتلال..
– س 1 – هل ترى أن الأدب العربي الذي يوثق جرائم إسرائيل ويسجل مفاصل القضية الفلسطينية كافٍ؟
أ.د. بومدين جلّالي : –
الأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين غير الأدب العربي في مطلع الألفية الجديدة … كان أدبنا في معظمه يتأرجح بين النزعتين الوطنية والقومية لعوامل تاريخية معروفة، والآن أصبح في معظمه يتأرجح بين الذاتية والعبثية لعوامل أخرى طرأت على المجتمعات العربية في هذا الزمن المعولم الذي لم نفهم منه أمورا كثيرة، وهو ما أدى إلى شبه ضياع في متاهات استفهامات هذا التعولم غير البريء، وذلك على مستوى غالبية النخب التي تسمي نفسها “”مبدعة”” وعلى مستوى الكثير من أطياف مجتمعاتها، لا سيما الشابة منها… من هنا؛ يمكن أنّ نقول إن الأدب العربي التسجيلي التوثيقي للجرائمية الصهيونية الاحتلالية في فلسطين الأسيرة قد أنجز الكثير الكثير في الفترة الوطنية القومية لكنه لم ينجز إلا بعض ما يحفظ شيئا محدودا مؤقتا من ماء الوجه في الفترة الذاتية العبثية … ذهب عصر الثورات والمقاومة والصمود واعتبار العدو عدوا فاختفى تدريجيا الشاعر المناضل والروائي المناضل والقاص المناضل والمسرحي المناضل والفنان المناضل والمثقف المناضل وما إلى ذلك من تصنيفات لأهل الثورة والنضال والموقف … ما ينتجه العلمانيون العرب وأشباه العلمانيين السائرين في ركابهم الأعوج الأعرج دفاعا عن الهولوكوست المزعوم وتأييدا للمثلية الجنسية وتبريرا للإنجاب خارج مؤسسة الأسرة و… و… و… يفوق مئات وربما آلاف المرات ما ينجز عن قضايانا العربية المركزية وعلى رأسها قضيتنا الأم، قضية فلسطين.
– س 2- ما بواعث تخلي عدد كبير من الأدباء عن الكتابة للقضية الفلسطينية؟
أ.د. بومدين جلّالي : –
بداية؛ ليس كل الذين يطلقون على أنفسهم توصيف “”أدباء”” هم حقا أدباء. فما أكثر الكتبة الذين تفتقر كتاباتهم إلى رائحة الأدبية وما أقل الأدباء الذين وصلوا إلى نسبة معينة من الأدبية في أدائهم الجمالي ضمن مختلف الأجناس الأدبية الرائجة في فضاء الثقافة العربية … وداخل هذه القلة التي تمتلك شيئا من الأدبية لا نكاد نجد من اعتمد فلسطين تيمة رئيسة لإنتاجه الأدبي إذا ما استثنينا بعض أدباء فلسطين. وبواعث هذا التخلي الأدبي، واللاأدبي أيضا، عن القضية الفلسطينية عديدة ومستمرة في التكاثر، ومن أهمها ما يلي : –
أ – تخلي القيادة الفعلية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن مشروعها التأسيسي الثوري الأصلي الهادف إلى تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي وتغييره تنظيرا وممارسة إلى مشروع للتطبيع مع إسرائيل والتعايش المتعاون معها انطلاقا من المستوى السياسي ومرورا بالمستوى الأمني وانتهاء بالاقتصاد والاجتماع … وذلك تحت ضغوطات مركّبة ومقابل امتيازات شخصية لا علاقة لهذه ولا تلك بمصالح الشعب الفلسطيني في عمومه ولا بتحرير أرضه كلها أو بعضها من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي الغاصب للإنسان والمكان وموروث الزمان … وهذا ما جعل كذا أديب عربي قصير النظر ضعيف الهمة ينكمش على ذاته بحجة أنه ليس ملكا أكثر من الملك صاحب الأمر.
ب – تخلي أنظمة دول الجامعة العربية إجمالا وتفصيلا عن القضية الفلسطينية لأسباب مرتبطة بديمومة الحكم هنا وهناك مضافة إلى تحقبيق بعض المصالح الشخصية المتنوعة، وذلك تحت هيمنة ضغوطات أوروأمريكية صهيونية صليبية مدعومة بتغريب داخلي كان محركا لكل الخيانات الكبرى التي حدثت في التاريخ العربي الحديث والمعاصر … والأكثر من ذلك أن معظم الأنظمة المشكّلة للجامعة العربية لم تكتف بالتخلي عن القضية الفلسطينية وإنما تجاوزته إلى التفنّن في صناعة جل المآسي الفلسطينية، سواء كان ذلك في ثنايا النسيج الداخلي الفلسطيني أو ضمن نسيج فلسطينيّي الشتات … وقد حدث هذا رغم أنوف أكثرية المواطنين المستضعفين والمواطنات المستضعفات في هذا البلد أو ذاك ممّن كانوا ومايزالون مقتنعين دونما أدنى اهتزاز بتحرير فلسطين العربية الإسلامية كاملة واسترجاع سيادتها التاريخية وقداسة قدسها مسجدا وعاصمة… وهذا ما جعل الأديب العربي الحامل لشيء من الجبن يشعر بالخطر على حياته ويلبس الحذر أمام الكثير من التيمات ومنها تيمة فلسطين حرة سيدة في قرارها.
ج – نجاح الحركة الصهيونية الإجرامية – صانعة إسرائيل المحتلة لفلسطين – نجاحا باهرا في السيطرة على مختلف مصادر القرار الفاعل في المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، وذلك بالدهاء الإستراتيجي حينا والمكر التوريطي حينا والرشوة المالية حينا والتصفيات الجسدية حينا وزرع التخريب حينا وترقية الفشل حينا وقلب المفاهيم حينا وتثمين الخيانة حينا وتغذية النزاعات حينا وهكذا دواليك وفق ما قالت به بروتوكولات آل صهيون في عملها الدؤوب لاستحمار بني الإنسان بصورة عامة والمسلمين والعرب يصورة خاصة… وهذا ما قلب النضال الثوري التحرري الجهادي إرهابا والمساندين له بالأدب وغير الأدب عصابيين دمويين يجب قتلهم أو سجنهم أو تشريدهم أو تهميشهم في أحسن الأحوال … والأديب العربي في راهن هذا الزمن ينسحب أمام أقل من عُشر هذا التهديد.
د – تأثير العولمة التي أصبحت مرادفة للقولبة والأمْركة تأثيرا سلبيا تعدى أقسى وأقصى الحدود السالبة القاتلة لكل إيجاب، وذلك من جراء التلقي التسطيحي واللانقدي لهذه العولمة المؤسسة على الاستصغار والاستحمار والاستدمار من أجل فرض ما يريده المركز المهيمن المتجبر وإلغاء ما يريده الطرف المستضعف المتواضع … وهذا التأثير السالب الذي عمل على إثبات فكرة القابلية للاستعمار بالدليل القاطع وقدم الحجة وراء الحجة على صلاحية نظرية نهاية التاريخ وما يرافقها من حرْب ضرورية لتطبيقها في الواقع العالمي – كما قال بذلك مفكرو المركز الأمريكي – جعل الطرف العربي برمته وما يحيط به من أطراف مشابهة له قاب قوسين أو أدنى من الخروج نهائيا من مسرح التاريخ الحي والدخول إلى أخبار التاريخ المندثر … وهذا التراجع العربي الوجودي في السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والاجتماع وما إلى ذلك من تمظهرات صناعة الحياة الحرة الكريمة انعكس متجليا في إنتاج الأدباء التسطيحيين اللانقديين الذين انزووْا في ذواتهم المسكونة بالخضوع والخنوع وراحوا يعانقون تفاهات الغرب وشذوذاته جاعلين منها تيمتهم الرئيسة متناسين قضايا أوطانهم وأمتهم ووجودهم الحقيقي ككل، وعلى رأسها تيمة فلسطين التي بها نكون وبدونها لا نكون.
– س 3- ما وظائف الأدب الذي يكتب لفلسطين؟ وهل يؤدي دورا ما في الصراع؟
أ.د. بومدين جلّالي : –
قديما كانت التيمة الفلسطينية بتنوعاتها اللامتناهية حاضرة بقوة في جل الحواضر العربية والتي فيها عرب وعند معظم حملة الحرف العربي الإبداعي المرتبطين بانتمائهم والملتزمين بقضاياهم الرئيسة، وكان مجمل ذلك الإبداع الذي يكتب لفلسطين يندرج ضمن أدب الصمود والمقاومة … فهو مرّة تذكير بتجذر الشعب الفلسطيني في أرضه وتاريخه وهويته وتميّزه الأصيل، وهو مرّة تعبير عن مأساة الإنسان الفلسطيني سواء كان ذلك في الداخل تحت وطأة الاحتلال وهمجيته أو في الخارج تحت واقع الضياع في مختلف فضاءات الشتات، وهو مرّة تبشير بجدية الثورة الفلسطينية وشرعيتها المطلقة والآمال الواسعة العميقة المترتبة عنها، وهو مرة دعوة صريحة واضحة إلى مساندتها ومؤازرتها لا من العرب والمسلمين فقط بوصفهم أصحاب القضية على قدم المساواة مع أهل فلسطين الأسيرة بل من جميع بني الإنسانية المؤمنة بالقيم العظمى للإنسانية السليمة وعلى رأسها التشبث بالحرية ونبذ الظلم كيفما كان نوعه، وهو مرّة ابتهاج بنضالاتها الجهادية وانتصارتها على الأرض، وهو مرّة تمجيد لأبطالها وتخليد لشهدائها، وغير ذلك من تنوع التيمات وتفريعاتها المصاحبة للأداء الثوري المقدام الصادق والمشجعة له …
أما في الزمن الراهن فالكتابة الأدبية لفلسطين أصبحت نادرة وهي غالبا مرتبطة بمناسبات معينة أو بأحداث ذات وقع إعلامي كبير، والمسيطر على جزء له أهميته من هذه الكتابات هو ما يمكن تصنيفه ضمن استمرار البكائيات الطللية الأندلسية الناحبة على ما ضاع أو اقترب من الضياع بسبب الوأد المقصود لثورة الشعب الفلسطيني وتفشي الخذلان الداخلي الخارجي والانشقاقات في الصف واعتبار الجهاد إرهابا وتصهين الكثير من الزعامات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية وما يجري هذا المجرى …
وفيما يخص دور ما يكتب لفلسطين في الصراع القائم فالأمر لا يستدعي إيضاحات شاسعة إذ في القديم كان لتلك الكتابات أدوار متعددة وليس مجرد دور واحد وحيد فقط، وكل تلك الأدوار كانت هادفة بطولية محركة للإقبال على التضحيات الكبرى من أجل تحرير فلسطين المدافعة عن عِرضها وأرضها، أما في الزمن الراهن فيتلخص دور معظم الكتابات (النادرة) المخصصة لفلسطين المكبّلة باحتلال صهيوني استيطاني متجبّر وخذلان عربي متصهين في عنصرين لا ثالث لهما، أولهما ملْء فراغات حيّز صغير في الفضاءات الافتراضية والصحف الصفراء أثناء المناسبات الفلسطينية، وثانيهما المزايدة على الشعب الفلسطيني المسلوب من كل حقوقه وممارسة بعض الإيهام شبه الثقافي عليه…
– س 4 – ما الدور الذي يمكن أن يؤديه الأدباء في مساندة القضية الفلسطينية؟
أ.د. بومدين جلّالي : –
يبدو لي أن الأديب الذي يحمل هذا التوصيف بمبناه الجمالي ومعناه الرسالي يدرك الإدراك كله أنّ الأدب رسالة إنسانية سامية في أداء لغوي جميل … وسمو الرسالة تحدده القضايا الرئيسة للجماعة في ظرف تاريخي معين، وجمال الأداء تحدده التطورات الفنية السليمة للجنس الأدبي الذي يكتب فيه الأديب المعنِي …من هذين المنطلقين الجوهريين يمكن للمتلقي العربي الناقد المحتكم إلى عمق المعرفة بالعلوم الضرورية والمصاحب للموضوعية المترفعة عن المجاملات والمساندات والمزايدات مهما كانت بواعثها سوف يصنّف معظم الكتبَة العرب في مطلع الألفية الثالثة التي ننتمي إليها في صنف المستأدبين الذين أساؤوا إلى الأدب والأمة معاً لا في صنف الأدباء الذين أحسنوا إلى الأدب والأمة معاً …
فمن حيث المعنى الرسالي؛ لا يُعقل أن تسيطر على نسبة معتبرة من السرد الروائي العربي ( التخصيص للتمثيل لا غير ) مشهديات الجنس الفاضح المثير لغرائز الصبيان والمتصابين حتى يخال المتلقي المتتبع للإنتاج الروائي ذي اللسان العربي أنه لم يبق للمجتمعات العربية في هذا العصر قضايا مركزية رئيسة غير قضية الجنس … وفي المعنى نفسه؛ لا يعقل أن تسيطر على أكثرية الشعر الوجداني العربي ( التخصيص للتمثيل أيضا ) تأوهات نائحة على موقف حبيب قال لا في لحظة من مسار الحياة حتى يخال المتلقي المتتبع للإنتاج الشعري ذي اللسان العربي أنه لم يبق للإنسان العربي من حاجز بينه وبين السعادة المطلقة إلا أن يقول له الحبيب نعم … قضايانا الأساسية وقضايا أدبنا شيء آخر غير الاستمتاع الشاذ بمشهد جنسي فاضح ورضوخ الحبيب بصورة استعبادية لا يقول بعدها لا أبدا …
ومن حيث المبنى الجمالي؛ لا يعقل أن يجهل المستأدبون التمييز التأسيسي بين مرفوعات اللغة العربية ومنصوباتها ومجروراتها ويدّعون جهارا نهارا أنهم من أدبائها، كما لا يعقل أن تغيب عنهم معرفة دلالة أدبية الأدب وكيفية ممارستها فنيّاً وهم يرتبون أسماءهم ضمن ألمع نجوم الإبداع في سماء الثقافة العربية التي باتتْ مظلمة بفعلهم …
وهنا نقف على الدور الوحيد الأوحد الذي يجب أن يؤديه الأدباء العرب مع فلسطين أو غير فلسطين، وهو أن يبتعدوا عن مستنقعات المستأدبين ويرتقوْا تدريجيا إلى رحاب أدبية الأدب ببعديْها الجمالي والرسالي، مع التشبث بعروبتهم لا بمعناها العرقي وإنما بمعناها الثقافي والحضاري والوجودي … وفي عمق ذاك أو ذلك الارتقاء المأمول يجد الأدباء – فرادى وجماعات، ودون توجيه من أحد – بحرية وقناعة ومسؤولية واقتدار ما يجب فعله وما يجب تركه.
وفي الختام؛ أقول : إن الأمر بات واضحا للأعمى والبصير على حد سواء … وبرغم الداء والأعداء، وكما حدث في كل الأزمنة التاريخية الواعية قليلا أو كثيرا؛ سيبقى النضال الأدبي واللاأدبي – بكل تجلياته الممكنة التي لها مشروعيتها الإنسانية – فرض عين لا فرض كفاية مادام في الوجود ظالم ومظلوم … وفلسطين مظلومة دونما شك ولا ريب