… قبل إعدامي!
2019-03-24
الأدب المنتفض, قصة وسرد
405 زيارة
بقلم أ. د. أنور الموسى
“يا إلهي.. ها أنا الآن أقف على خشبة الإعدام! يتدلى الحبل من وراء رقبتي. أشعر بملامسته رأسي الذي يكاد يختنق! إنه مغطى كليا بكيس أسود!
لا أسمع سوى تمتمات سجانين يقفان قربي: اقترب أجله! اقترب أجله! مسكين.. لم يزره أحد!”
أبعداني قليلا كي يرتبا المكان أفضل.. مع ازدياد وتيرة الهمسات و”الوشوشات”!
تمتمات كانت تقرع أذني كالسيوف. أدخلتني في غيبوبة الذكريات. بدأت أتذكر أمي! نعم، أمي.. لا أدري سبب دغدغة أغنية سعدون جابر أذني: يا أمي.. يا يا أمي.. يا أمي يا أم الوفاء.. طير أنت من الجنة!”
تزاحمت في راسي الذكريات. أمي! أمي! رجعت إلى صورتها قبل أربعين عاما، كان عمري سبع سنوات. كانت تصطحبني إلى”التحطيب”! كانت تذهب مع صديقاتها كي تجمع الحطب! لنتدفأ شتاء وتخبز لنا “خبز الصاج” وتغلي ملابس الصغار! وتسخن لنا الماء لنستحم!
كانت العيشة صعبة. إنها مرارة اللجوء. من يذقها يعرف معنى الفقر والنضال في سبيل البقاء…!
شريط ذكريات سريع مر بخاطري! حلم يقظة؟ ربما.. لكنه أسرع من الحلم!
… قطعت أمي الحطب بالمنشار! ربطته بحبل! رفعته معها ليستقر على ظهرها. جررت خلفها غصنا بلا ورق! مشينا مسافات. استرحنا مرتين…!
كل هذا النشاط كانت تؤديه أمي التي كانت تخبز وتؤدي أعمالا تعجز الآلات الحديثة عن فعلها: غسل وجلي وتنظيف وتربية ونقل و..
قلت في نفسي: ألهذا السبب قال محمود درويش أحن إلى خبز أمي! لم أتردد في الإجابة: نعم.. خبز أمي مجبول بالكد والكفاح ومقاومة اللجوء وتحدي المحتل!
.. كل ذلك كانت تفعله أمي…وقلت في نفسي ثانية مرددا أغنية سعدون الحنون: “تعلمت الصبر منش يا يمى.. الهوا انت والهوا محتاج أشمه…”!
وكذلك تذكرت أبي الذي كان الجندي المجهول.. و كان السند.كان يعمل ليل نهار ليوفر لقمة تطعم عشرة أبناء!
… وما إن بدأ شريط ذكرياتي مع أبي يراود مخيلتي.. حتى ضرب السجان رأسي بيده: تحرك تحرك..!
لم أرتجف! بقيت متحليا برباطة الجاش! خطوات قليلة اختصرت ذكرياتي مع أبي: كان رحمه الله يحميني ويرعاني في كل خطواتي! يضحك وهو يتألم. نظراته إلي تختصر الكون! أجده معي مع كل آه واخ! هو الآن ليس معي! نسيت.. قد استشهد!
كلمات السجان وهو يقودني دخلت أذني كالانفجار! اقتربت رويدا رويدا من حبل المشنقة! بعد إزالة الكيس الأسود… نظرت يمينا يسارا.. إذ بصديق لي يقف مع الجنود! يمنحه الضابط المشغل حفنة دولارات!
-أخ.. ما هذا؟ صديقي؟ لم هو هنا..؟ أحمد! هذا أنت…؟ أنت وشيت بي؟
… أطلقت عليه رصاصات احتقار… قبل أن أدفنه في الظلام، ويدوسه وطني… ويرحل!