السمراء النحيلة!
2019-03-23
جامعيون ومواهب, قصة وسرد
734 زيارة
بقلم الكاتبة مها هسي
السمراء النحيلة
أتأمل تلك السمراء النحيلة وهي تتمايل بين يديه، “السمراء النحيلة” ارددها وأضحك كالبلهاء لأنها العبارة التي قرأتها في كتاب “رائد الإنشاء” وأنا في عمر السبع سنوات.. وأعجبتني حتى أنني استخدمتها في معظم مواضيع الإنشاء في المدرسة.
توقف الباص فجأة وكدت أسقط أرضاً، فتمسكت بالعمود الصدىء جيّداً بينما يردد الشاب الواقف عند الباب: “عبيروت… عبيروت…” ضحكت على نفسي موهمة الركّاب بأن الموقف لا يحتاج لأكثر من ضحكة، فنحن نسقط آلاف المرات في اليوم وإن لم يكن حرفيًّا. حتى إنّ “السمراء النحيلة” قد سقطت على الأرض والمسن الجالس على المقعد امامي لم يهتم لأمرها، تأملته جيداً وكأنني أحاول أن ألبسه شخصية المسن في رائد الانشاء، كان يحدّث الشخص الجالس الى جانبه بصوت عالٍ. سمعته يروي قصة زوجته التي ماتت على باب المستشفى بعد ان رفضت إدارة المستشفى استقبالها لأنه لا يملك المال الكافي. يردد قصة عذاباته وهو يرفق كل جملة بشتيمة “يلعن أبوهم ارهابية كلاب” ثم يسعل. أضحكتني الشتيمة! شردت عن المرافق والأقدام التي تركلني وعن يدي المتمسكة بالعمود الصدىء وتكاد تنخلع. شردت بالسمراء النحيلة وتذكرت درس الإرهاب في كتاب القومية الذي كان يقول إن “أميركا” ومجلس الأمن قد رفضوا وضع تعريف واضح للإرهاب، وهذا طبعاً لحماية أفعالهم من تسميتها بالإرهاب، ولكن حقاً… من يستطيع تعريف الإرهاب؟ من يستطيع حصره في سلوك واحد؟ فكرت بالسؤال جيّداً. ما الذي يرهبني أنا تحديداً؟ ربما مشهد السياسيين على التلفاز وهم يضحكون… جارتنا في المبنى يرهبها صاحب المنزل وتسميه “البوم”، جرة الغاز ترهب سكان مبنى بأكمله، ألسنة الجيران ترهب مجتمعاً كاملاً، البرد يرهب وطناً كاملاً، لا أعتقد أنه قد بقي مكانٌ للسلاح كي يرهب أحداً. وما زال هناك الكثير من الناس في هذا البلد الكثير… بحيث تشعر بأن الإنسانية تتشقق موشكة على الانفجار، أن تخرج إلى الشارع يعني أن تضع قناع الخضوع وتهيئ نفسك لمسرحية الهرج الجماعية التي تندفع مشاهدها في كل مكان مثل سيلٍ جارف، من الصعب أن تسمع هنا جملة واحدة لا يطفح منها الحزن أو الغضب، أو اليأس على أفضل تقدير… نعم اليأس أفضل من سواه في بعض الأحيان، لديّ صديق يقول دائماً “المهم عيش بكرامتي”، وصديقة تقول “بس بدي يا يرجع من الغربة ومرمغ راسي بصدره”… جارتنا تريد أن تبتلع الأرض هذا “البوم” حتى ترتاح من ابتساماته المقززة وهو يمد لها فاتورة الكهرباء. لا حصر للإهانات التي نتعرّض لها في كل مكان! إن أغلقت الباب على نفسك، دخلت عليك الإهانة من الشباك. أتذكر أنني منذ بضعة أيام كدت أنفجر غيظاً من راكب في السرفيس، أعطيناه أربع ورقات على دفعتين، وفي المرتين استبدلهما بمئة كاملة قبل مناولتها للسائق، لم أستطع قول شيء له، لكن فعلته تعني أن أربعة أشخاص سيتعرضون لصراخ السائق ليلاً: “من وين بجيب خمسينات؟ روحوا اطلعوا بتكاسي”… تكاسي؟ إن راتب أفضلنا سوف يطير مع الريح إن اضطر لأخذ تكسي مرتين متتاليتين! أقصى أرستقراطية هذا الشعب هو أن يمنح الشبّان مكانهم للآنسات ويجلسوا على المقعد الجانبي أو المعاكس، وإن لم يفعلوا ترافقهم النظرات الساخطة الغاضبة للآنسات طيلة الطريق… نعم، الآنسات بحاجة إلى بعض الرقة والحنان حتى لا ينفجرن حزناً وبؤساً، والرجال بحاجة فقط إلى بعض الراحة، الراحة من المقاعد المعاكسة ومن الصراخ في وجوههم وفي صلب رجولتهم، في النهاية رغم كل شيء، ما زال الجميع سائرين في الركب الهائل، وفوقهم يحلّق فراغٌ عظيم، فراغٌ مذهل ومرعب، قد يكون مليئاً بالأرواح، من يعلم؟ علينا نحن أيضاً أن نداري مشاعر الوطن، الوطن الذي يطهوه السياسيون على طريقتهم على حد قول زياد الرحباني: ” بما انه العيشة سودا مش بيضة قررنا نجتمع ونسلق بيضة”… رأيت السمراء النحيلة ترتفع، كان الرجل وبصعوبة يحاول إنقاذها ثم صرخ وهو يسعل ويلوّح بها “وين بعدك ماشي بدي انزل هون”، قام وهو يجر جسده المرتجف، ساعده الشاب الواقف عند الباب للنزول، لاحقته بنظراتي من الزجاج يبتعد رويداً رويداً حتى سقطت منه ” السمراء النحيلة” وسقط هو أرضاً…