الدمعة الحمراء!
2019-03-17
قصة وسرد
315 زيارة
بقلم د. مصطفى بركات
الدمعة الحمراء
جلستُ ، عند الشَّاطئ ، أتوسَّدُ الرِّمال . أُراقِبُ جمال الغُروب ، وغُروب الجمال . وحَوليَ النَّاس يمرحون بقشور ذواتهم ، ويسبحون بسراب ملذَّاتهم ، ويتأرجحون بأمواج أهوائهم . أمّا رُوحي فحلّقتْ في الفضاء الرَّبَّانيّ ، تسبح في ذلك البحر الأرجوانيّ . بعدَ أنْ خلعتْ ثياب الأوْحال ، ولَبِسَتْ رداء الجلال ، الذي نسجته بنت السماء وهي تقرع لأبناء الأرض أجراس المساء.
وبينما كانت روحي ترتقي سُلّم التّأمّلات ، سمعتُ الشمس ، وهي تُلَملم أشعَّتها وتنادي بحسرة :
“هيّا ، يا فلذات كبدي ، فقد مَلَلْتُ هذه النَّاحية “.
وعندما سألتُها عن السَّبب ، تنهَّدتْ وقالت :
كيف لا. وهنا ، تُلْفَظُ أنفاس النَّهر، بين أَمْراس البحر؛ لأنَّ السَّماسرة شَنُّوا عليه إغارة ، وحطَّموا فيه مرآة الطَّهارة ، بأظافر القذارة. وحَوَّلُوه من فتىً حالم ، إلى فاتك ظالم. فسُحِقتْ براءة الأزهار، تحت أنياب الازدهار. وسُجنتْ خَيرات الحقول ، داخل مُعلَّبات المجهول !
كيف لا . وهناك ، في الرِّيف، ظهراً ، تَئِنُّ أشجار الأرز والصَّنوبر والسِّندبان ؛ لأنَّ أيدي التُّجَّار تقطع أعناقها ، في وَضْحِ النَّهار . وتبيعها كالعبيد ، في أسواق المدينة لأرباب “النَّراجيل” . ثمَّ تستبدلها بغابة من “الباطون”. فتتحوَّل أعراس العصافير إلى مآتم . وتُهاجر النَّسائم ،بعيداً ، لكن بأجنحة من دخان !
كيف لا . وهنالك ، في المدينة ، صباحاً ،كان “وزبرٌ” يطلب من زوجته “الرُّوسيَّة”، أن تأمر خادمتها “السِّيريلنكيَّة” ، لكي تلمّع له حذاءه “الإيطاليّ” ، وتكوي قميصه “البريطانيّ”، و “الجينز الأمريكيّ” ، وترشّ العطر “الفرنسيّ” ، وتحضّر الفطور “الصِّينيّ” ، وتُهيِّئ “السّيجار الكوبيّ” ؛ لأنَّه سيقود سيَّارته “الألمانيَّة”، ويذهب لرعاية مؤتمر دعم “الصّناعة الوطنيّة” !
كيف لا . وأنا أشاهد ، من عليائي ، عجوزاً مُشرَّداً ، يبحث عن مأوى ، ولو على الرَّصيف . وطفلاً جائعاً ، يُفتِّش بين النّفايات عن بقايا رغيف . وفقيراً معوَّقاً يزحف فوق مزابل الشَّيطان ، ينافس القطط والجرذان !
وأشاهد شُبّاناً يتسوَّلون على أبواب السَّفارات للحصول على تأشيرة هجرة ؛ لأنَّهم غرباء في بلادهم ، لم يجدوا عملاً في وطنهم المحفور على جبينه “أنا وطن الأغنياء. أصدِّر المبدعين الفقراء” !
وأشاهد فتاة مريضة ، تموت على مدخل المستشفى ؛ لأنها من طائفة الشَّقاء ، ومن حزب البؤساء ؟!
وأشاهد…أشاهد ،كلَّ يوم ،كيف يُشوّه أكثر النّاس جمال الطّبيعة بقبح أنفسهم، ويفسدون الوجود الرَّائع بشرّ أيديهم ! وكيف يُحوّلون العلم من أنامل نور، إلى معاول تحفر القبور !
قالت لي الشَّمس المسافرة ذلك ، ونظرتْ إلى أطفال الشَّاطئ بتفاؤل وأمل. ثمّ غابتْ تاركة على خدّ الأفق دمعة حمراء.
مصطفى بركات
من رواية عيون جائعة