السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / أبو يوسف ــ رحمه الله ــ والكنز المدفون

أبو يوسف ــ رحمه الله ــ والكنز المدفون

بقلم الأستاذ الدكتور أحمد دمج

أبو يوسف ــ رحمه الله ــ والكنز المدفون
كلمة في رحيل الأستاذ الصديق محمد يوسف دمج

في حياتنا أشخاص يصبحون جزءا منا، ولا يستطيع الموت، بجبروته، أن يغيبهم عن ذاكرتنا. الأستاذ محمد يوسف دمج واحد من هؤلاء. عرفته على مقاعد الدراسة معلما في الصف الثالث المتوسط، ومن الملفت أن صلتي به، في تلك المرحلة، كانت تشهد توترا معه داخل الفصل؛ فقد كنت تلميذا مشاغبا، ووئاما خارجه.
كان يشجعنا على القراءة، طلب منا، مرة، تلخيص قصة، فاخترت “الأجنحة المتكسرة” لجبران، وعندما اطلع على تلخيصي، قال مبتسما: من كتبه لك؟ ففرحت… كانت شهادة بأن عملي فوق مستوى طالب في عمري.
في المرحلة الثانوية قويت صلتي به حتى صرنا أصحابا ، وهواية اقتناء الكتب، والمجلات، هي التي قوت أواصر صداقتنا.
كنا نتهافت على مكتبة الضيعة بداية كل شهر لشراء المجلات، أذكر منها: “عالم الفكر”، و”عالم المعرفة”، و”العربي”، و”الكويت”، و”الثقافة العالمية”، و”المسرح العالمي”، و”فصول”، و”إبداع”، و”العلوم” …ولعل هذا الولع بالمجلات والصحف هو الذي دفعني فيما بعد في سن مبكرة إلى إصدار ” هتاف الشوق” أول نشرة إخبارية اجتماعية ثقافية في برجا.
كانت جلساتنا تدور حول الكتب؛ جديدها وقديما، وطبعاتها، ودور النشر، وحول كتابها وطبقاتهم، وكنا نتناول المخطوطات وفهارسها وأماكنها …كان رحمه الله مولعا بجمع المخطوطات. لقد جذبني عالم المخطوطات، فكانت باكورة أعمالي، وأنا على مقاعد الدراسة، تحقيق مخطوط ” المنهاج السوي” للإمام السيوطي.
كان ـ رحمه الله ـ ضنينا بكتبه لا يعيرها للغير، ربما اقتداء ببرنالد شو الذي كان ينصح القراء بعدم إعارة كتبهم للغير، يقال عنه ــ وربما على سبيل التندر ــ إنه لما علم أن ابنه أعار كتابا من مكتبته، ناداه إلى المكتبة قائلا له: انظر، هل ترى هذه الكتب؟ لقد استعرتها كلها من معارفي!
أعارني ــ رحمه الله ــ مرة كتابا، كان قد سبقني إليه ونحن نشتري كتبا قديمة من مكتبة خاصة عرضت للبيع، عنوانه “مختارات من الأدب الفرنسي”، وهو تحفة أدبية حوت قصصا لموبسان ترجمها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات بأسلوب مشرق. أعدته إليه، ثم ندمت لأني لم آخذ بنصيحة برنارد شو! وبقيت نفسي تهفو إليه من جديد، كما يهفو الظمآن إلى الماء العذب!
بقي هذا الهوى في اقتناء الكتب يلازمه حتى آخر أيام حياته. في آخر لقاء جمعنا حدثني عن أشعار يجمعها لأدباء عالميين حول السجن. يومها قلت له: يكون موضوعا جميلا في الأدب المقارن إذا قارنا هذا الشعر بشعر السجون في الشعر العربي. وهكذا أوحى إلي بفكرة لبحث جديد.
كان يسكن في منطقة تكثر فيها النواويس، وكان يعتقد بوجود كنز في إحداها، وكان حديث الكنز في سهراتنا يثير فينا الخيال والفضول، وأيضا، المرح..
رحل أبو يوسف المهذب الخلوق الطيب القلب عن دنيانا قبل أن يكتشف الكنز، ولكن الكنز لم يكن غاية حياته، ولم يكن هو يبالي إن ضل سعيه في اكتشافه، فقد كان قنوعا لا تغريه المادة، عزوفا عن القشور التي طبعت سلوك الكثيرين من أهل زماننا !
كانت الصداقة هي شجرة الأمان التي تفيأ ظلالها الوارفة، وكانت الكتب هي كنزه الحقيقي.