السبت , أبريل 19 2025
الرئيسية / ابحاث ودراسات عليا / المُدَجَّنـون والمـوريـسكيّـون : نظــرة في المصطلحين

المُدَجَّنـون والمـوريـسكيّـون : نظــرة في المصطلحين

بقلم د.عبد الرحيم الخليفي

(باحث تونسي)

***** المُدَجَّنـون والمـوريـسكيّـون : نظــرة في المصطلحين*****

* د. عبدالرحيم الخليفي

لقد أصبح من اللّزوم تعريف كلّ من “الـمدجَّنين” “Los Modejares/Mudejares” و”الموريسكيّين” “Moriscos Los” كمصطلحين تاريخيين ، لِما تركاه من أثرٍ في الكتابات التاريخيّة والحضارية ، وما نلاحظه من خلط واضح لدى بعض المؤرخين والباحثين في الحضارة الأندلسية() ، إذ بات تجاوز تعريفهما وتحديد الفروق بينهما مدعاة للغموض والشّكّ في فهم معنيَيْهما . فبالرغم من دأْب المؤرِّخين على التّمييز بين المصطلحين، والتأْريخ لهما ، والبحث في الدّلالة الاجتماعية والبعد السياسيّ لكلٍّ منهما ، فإن ما يمكن تثبيته هو أنّ الاختلاف قائم بينهما ، بَيْد أنّه ضمن سياق وحضاري واحد . إذ أنّ الفئتين “المدجنين” و”الموريسكيين” ينتميان إلى أصل إسلامي واحد ، فالموريسكيون هم أجداد المدجنين . «ينتميان إلى نفس المجموعة ذات الأصل الإسلامي والعربي التي تعيش في وسط مسيحي لكن مع اختلاف مهمّ : كان “المدجنون” مسلمين بصفة رسمية في المجتمع، بينما كان “الموريسكيون” مسيحيين من الناحية الرسمية . هذا الاختلاف أصله مسيحي بالتأكيد ، لأنه بالنسبة للموريسكيين لم يتغيّر سوى الوسط الاجتماعي : كانوا مسلمين تمامًا رغم أن بعض تصرفاتهم كان يجب أن تسير وفق ظروف اجتماعية جديدة تحددها البيئة المسيحية»( ) . لكن في هذا السياق إذا كنّا نوافق “دي إيبالثا” بأن المدجنين والموريسكيين ذوي أصول إسلامية إلّا أننا لا نوافقه بأن كلهم ذوي أصول عربية ، فهناك من كان مسلمًا لكنه ليس بعربي الأصل .

بعض الباحثين يرى «أنّ الكلمتين تشيران ضمنيًّا إلى وضع قانونِيّ»( ) ، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن هذا الوضع خاصّ بحِقبة تاريخية معيَّنة أولًا ، وثانيًا أن المصطلحين-المدجَّن والموريسكي- يشيران إلى ما يتجاوز الوضع القانونِيّ ، لِيَطولَا الأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضًا ، أي إلى العمق الحضاري ، ويشتركان -في الوقت نفسه- في صناعة هذه الأوضاع .

*****

أولًا° المُدَجَّنـــــون:

هناك خلْط الذي يحدث عند بعض الباحثين -كما ذكرنا- بين مصطلح “المدجَّنين” Modejares” أو “Mudejares” ، ومصطلح “موريسكيين” Moriscos . لكن في الحقيقة أن كلًّا منهما يحمل دلالته التاريخية والقانونية والدينية والحضارية والاجتماعية وكذلك السياسية . وفضلًا عن ذلك فإن مصطلح “مدجَّن” مشتق من الفعل “دجن يدجن دجونًا” ، يفيد في اللغة العربية : الإقامة بالمكان وإلفته . ومنه “المداجنة” التي تفيد “حسن المخالطة” ، ومنها “أدجن” أي أقام في بيته . وقال ابن السكّيت: داجِنٌ وراجِنٌ ، هو ألفَة البيوت والاستئناس . والـمُداجَنَةُ كالـمُداهنة . والداجن : المعتاد . ومنه “الدَّجْنُ : ظِلُّ الغَيْمِ ، ويومٌ مُدْجِنُ : دامَ عليه ظِلُّ غَيْمِه( ).
هناك اتجاه يشير إلى أن “مدجن” أصلها “متأخر” ، فيذكر أحد الباحثين أن كلمة “Modejares” أو “Mudejares” أو Moriscos يقابله في اللغة العربية ٱسم “ٱلْمتأَخّر” مفرد “متأخّرون” وهي مشتقة من الفعل ” تأخّر” ، ﻓــــــ”المتأخرون” (صفة) تُطلَق على العرب والمسلمين الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي ولم يهاجروا عن البلد ، ولم يلتحقوا بإخوانهم النازحين (الْمُرحَّلين) عند احتلاله من قبل الإسبان. ويقول : قال بعضهم : إن كلمة “Mudejare” من كلمة “مدجَّنين” أو “مدجَّلين” ، واعتبر هذا من قبيل الظن والتخمين( ) . ويرى باحث آخر أن مصطلح “مدجن” تاريخه غامض حتى الآن . ويبدو -كما يقول بعض المؤرخين- أنه استعمال دارج جرت به ألسنة المسلمين في تسمية إخوانهم الذين بقوا في بلادهم بعد استيلاء النصارى عليها . وهو مشتق من “دجن” أي أقام خاضعًا ، وكما انتقل لفظ “مستعرب” من ألسنة الناس إلى كتابات المسيحيين الذين أقاموا ببلاد المسلمين وكتبوا بالعربية وتكلموا بها، ثم إلى كتاباتهم في بلادهم ، فكذلك حدث للفظ “دجَن” ، غير أنه تـحرّف على ألسن الإسبان في بعض الأحيان إلى “دجَل” و”دجَر” ، وصار الموصوف به يسمّى “مدجَّل” (باللام بعد الجيم) في أحيان قليلة ، و”مدجر” (بالراء بعد الجيم) في معظم الأحيان . وعلى هذه الصورة انتقل إلى الإسبانية الدارجة فقالوا ” Mudejar” ، واختفى أصله باختفاء اللغة العربية بين المسلمين الذين تطاولت عليهم السنون في أرض النصارى( ) . ولكن يبقى هذا الرأي أيضًا في دائرة التخمين وقراءة في تاريخ اللغة .

ويذكر باحث آخر ، أيضًا ، أن “لِي فارْمر” L.Farmer -الذي عُنيَ بالموسيقى العربية وتاريخها- يرى أن الكلمة عند الْمُطرّزيّ هي من الكلمة العربية “متأخّرين” . ويقول الشهاب الحجري (بيخارانو) أن الترك -ويقصد العثمانيين- يسمّون “المدجَّنين” “مُدَجَّلين”( ) (جيم بعدها لامٌ ، وليس نونًا) . وفي القاموس المسمى “Vocabulista in Arabico” الذي أُلِّف في شرقي الأندلس في القرن الثالث عشر ، يترجم لفط “Mudejar” بـما يفيد أنه “معاهد” ، مما يدلّ على أن أولئك الذين دجنوا كانوا يعتبرون “معاهدين”( ) . ومن هنا نعتبر أنه ليس صحيحًا ما أورده دي إيبالثا من أن مصطلح “مدجّن” لم يذكر في الوثائق قبل القرن السادس عشر ، وقد استند في ذلك إلى معجم عربي غرناطي e hispánico crítico etimológio casellano Diccionarioالذي أورد -في سياق تعريفهم- بأنهم مجرّد “دافعي الجزية” ، الذي لم يُحرَّر بالإسبانية حتى القرن السادس عشر كما يقول كوروميناس( ) . وهذه إحالة إلى الحالة القانونية من الناحية الاقتصادية في تسمية المدجنين ، وإن كان هذا صحيحًا لكنه ليس كل الواقع ، فهناك جزء كبير خفي تستند إليه التسمية هو الوضع القانوني والديني والاجتماعي كما سبق القول . كما أننا نستبعد أن يكون هذا المصطلح برز في القرن السادس عشر أو التاسع عشر، فلا نظن هذا الوصف “المدجنين” تأخّر عن الحالة التي كان يعيشها الأندلسيون منذ القرن الثاني عشر وامتدادًا إلى القرون الثالث عشر والرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر .

لكن مصطلح “مُدَجَّل” (باللام بعد الجيم المشددة) ورد في إحدى الرسائل التي وجهها السلطان العثماني أحمد الأول إلى دوق البندقية بتاريخ أوسط شهر جمادي الأول سنة 1023هــ/1614م. وقد وثّقها عبدالجليل التميمي دون أن يعلل هذه التسمية( ) كما أن المصطلح “مُدَجَّل” نفسه أورده الشهاب الحجري (بيخارّانو) (ت. بعد1048ه/1638م) في سياق كلامه عن نفي الموريسكيين فقال: «…ولما صح عند سلطان إسطنبول ، بخروج الأندلس ، الذين يسمونهم ببلاد الترك بمدجَّلين ، كتب كتابه السَّنيّ إلى سلطان فرنجة بالوصية عليهم»( ) . ولقد حاولت تتبع معنى “مدجّل” في اللغة التركية فلم أعثر عليها بالرغم من البحث في كثير من المعاجم التركية . وهذا يعني أنها ليست ذات أصول تركية وإن كانت وردت في النصوص العثمانية . ويمكن تعليل إبدال النون لامًا بأنه جاء نتيجة تحريف جرى على ألسنة الإسبان كما سبق الذكر .

“ٱلْمُدَجَّنون” -كمصطلح تاريخي- هم الْمُسْلِمون الأندلسيون -سكان البلاد الأصليين أي الأندلسيين- الذين كانوا يعيشون بصورة دائمة تحت حكم واحدة من الممالك الإسبانية والبرتغالية التي يسيطر عليها المسيحيّون الكاثوليك في شبه الجزيرة الإيبيرية( ) خلال القرن الحادي عشر وحتى أواخر القرن الخامس عشر . وكان يُطلَق عليهم أحيانًا اسم “جماعات المسلمين” . وليس صحيحًا كما يتصور بعضهم( ) من أن المدجَّن “هو من تدجَّن بإسبانيا ودان بدين المسيح” .
ليس للمدجنين سلطة سياسية ، لكنهم مُنِحوا وضعًا قانونيًّا خاصًّا من قبل السلطات الإسبانية حفَظ لهم خصائصهم الدينية واللّغوية ، وإلى حدٍّ مّا العادات والتقاليد . أي يسمح لهم بممارسة شعائر الإسلام في الأراضي الأندلسية المحتلة من قبل الإسبان المسيحيين على مدى العصور الوسطى ، إلى قبل عمليات التعميد الإجباري (904هـ/1499م) مع انبلاج الفجر الثقيل للقرن السادس عشر .

فالمدجنون هم أبناء الأندلسيين المسلمين ممن كانوا يعيشون تحت الحكم الإسلامي في شبه جزيرة إيبيريا عندما كانوا هم أصحاب السيادة والشرعية . وقد اضطرت الممالك الإسبانية احترام عقائدهم والإفادة من معارفهم ومهاراتهم ، خوفًا من بقية بلاد الأندلس الإسلامية التي كانت تربطها بالإمارات الإسبانية معاهدات صلح وحرب( ) وكذلك خوفًا من تدخّل القوّات المغربية من العدوة الأخرى ، وقد كانت هناك تجارب عاينتها إسبانيا . فهذا يعني أن هناك توازن رادع في القوى، مما جعل الأمر يبدو كأنه سياسة تسامح لكنه في الواقع كان دبلوماسية لتجنب الصدام واستثارة العالم الإسلامي في الوقت الذي لم يكن مناسبًا . كما أن الممالك الإسبانية كانت تعلم أن أي نكاية بالمسلمين المدجنين قد يوحّد كلمة المسلمين ويجعلهم يستنفرون للجهاد .
إن واقع “المدجنين” الاجتماعي والسياسي يختزن في حقيقته تلك المعاني اللغوية في اللغة العربية . فهم فعلًا بقوا مقيمين بالبلاد الإسلامية التي وقع الاستيلاء عليها من قبل النصارى الأراغونيين والقشتاليين، وأصبحت بينهم “حسن مخالطة” . أما من حيث المعنى السياسي ، فإن المدجنين كانوا يأملون في زوال تلك الوصاية السياسية للمالك النصرانية الإسبانية عنهم لَمّا تكون الفرصة مواتية للانقلاب ، فتلك السلطة هي شبيهة ﺑــــــــ”ظل غيمة” . وأما إذا قلنا هم “مدجَّلون” (بلام بعد جيم) فإن دلالة هذا اللفظ اللغوية تشترك مع الواقع السياسي الاجتماعي للمدجنين ، وهي التغطية والستّـر والتمويه، فهم كانوا يتمتعون بسلطة سياسية خاصة بهم من خلال نظام “الجماعة” ، وهو نظام غير ظاهر . كما أن اللغة الألخميادو التي كانوا ينتجون بها آدابهم الدينية والأدبية كان فيها كثير من معاني التمويه والتغطية بالرغم من أن اللغة العربية لم تكن ممنوعة آنذاك ، إلا أنهم كتبوا باللغة الألخميادو نظرًا لحالة الغربة التي كانت تعيشها اللغة العربية بين المدجنين ، فكان هدف المؤلفين والفقهاء هو الحفظ على الحدّ الأدنى من لغتهم . لكن نحسب أن كان لهم هدف آخر غير ذلك، فبإمكانهم الكتابة بالعربية ، إذ من يبذل جهده لمعرفة لغة مزدوجة -الألخميادو- بإمكانه معرفة اللغة الأم مباشرة .

مهما يكن من أمر الاستبحاث عن معنى “مدجن” ، فإن واقع “المدجنين” يعكس الحالة الاجتماعية والسياسية التي يعيشونها تحت سلطة غريبة عنهم ، تحدّ من حريتهم السياسية والاجتماعية ، مما انعكس على الحياة الاقتصادية ومن ثَمّ الثقافية لديهم . فقد فقدوا مدارسهم بسبب تردي أوضاعهم الاقتصادية نسبيًّا .

إن أوّل ظهورٍ لـمثل هذه الجماعات الْمُسْلمة المحكومة تحت سلطة النصارى الإسبان كان خلال القرن الخامس الهجري/الحادي عشر ميلاديّ( ) . أي أنه كانت هناك اتفاقية تضمن صيغة تعايش وتسالم بين الفريقين . وكان التمثيل السياسي في فترة المدجنين منوطًا ضمنيًّا بعهدة الجماعات وسلطاتها ، خاصة الفقهاء ، سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي . كان ذلك نظامًا قانونيًّا معروفًا ومعترفًا به (كان المسلمون يديرون شؤونهم وفق الشريعة الإسلامية) ، وكان يجري به العمل من حيث دفع الضرائب ، لكن لم تشكّل غرناطة “جماعات” بعد الغزو القشتالي مثل “الجماعات” التي كانت موجودة في ممالك قشتالة وأراغون ونابارّا( ) فالمدجنون كانوا يعيشون باستقلالية اجتماعية ونسبيًّا اقتصادية لكن دون كيان سياسي مستقل .
من الجدير بالذكر أن المسلمين الذين يقيمون تحت سلطة مسيحية كان الفقهاء يسمونهم “الضعفاء” ، أي أنهم يعيشون في واقع سياسي “غير طبيعي” لأن الوضع الطبيعي للمسلم هو أن يعيش حرًّا تحت راية نظام سياسي شرعي أي إسلامي . ربما استنبط الفقهاء هذه التسمية من عموم الآية : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [التوبة :91]. ووجه الاستدلال هنا دليل على عدم تكليف الضعيف بالجهاد . كما سماهم أحمد بن بوجمعة المغراوي الموريسكيين ﺑــــــ”الغرباء” ، الذين هم “ضعفاء” أيضًا لأنهم لا يقدرون على الجهاد لموانع مادية ولحصارهم أمنيًّا وعسكريًّا . وربما استند في تسميته هذه إلى الحديث النبوي الشريف : ((بدأَ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأَ ، فَطُوبى للْغُرَباءِ)) .
هذه هي الصورة المعبِّـرة عن قوّة المدّ المسيحيّ الإسباني ، ومعبِّرة -في الوقت نفسه- عن ضَعْف الجسم الأندلسيّ وما بلَغه من إنهاك وانحدار ، حتى أمسى المسلمون -الذين سقطت مدنُهم الواحدة تلو الأخرى- يعيشون تحت وصاية المسيحيّين “الحُكّام الْجُدُد” ، أي أصبحوا “مدجَّنين” ، ومن هنا أصل تسميتهم بهذا الاسم ، أي الإقامة تحت حكم الإسبان .

مع تصاعد حالة التفكّك السياسيّ الأندلسيّ « في أواسط القرن الثالث عشر الميلاديّ ، مع ما بلغته جيوش حرب الاسترداد المسيحيّة من ٱنتصارات كبيرة ، أصبح “التّدجين” صيغة بالغة الرُّسوخ في النّسيج الاجتماعيّ الإسباني في أواخر العصر الوسيط»( ) . وكانت أوضاع هؤلاء الْمُدَجَّنين تختلف من منطقة إلى أخرى( ) ، على أن ذلك تأثَّر بشعور الغَلَبة والنّصر لكلّ فترة زمنيّة( ) . ﺑﭑختصار ، يمكن اعتبار الدّجن( ) نظيـرًا لقانون “أهل الذّمّـة” مقلوبًا لكنّه مُشوَّه ، في عمليّة مبهمة لاستحضار آليات الخصم ، ومحاصرته من خلال عمليّة فرض وصاية فوقيّة لمنعه محاولةَ الانتشار مجدَّدًا .

لقد ٱمتدّ نظام الدّجن هذا حتى سقوط غرناطة (897 ﻫ/1492م) ، حيث وُعِد الغرناطيون هم الآخرون -كبقية إخوانهم الذين سقطت مدنهم- بنظام “دَجَنٍ تقليديّ” على النّمط السابق للانهيار( ) الأخير ، وقد كان وعدًا مكتوبًا (مدوَّن بوثيقة) والذي كان يضمن لهم ، نسبيًّا ، حقوقَهم الدينيةَ والاجتماعيةَ والثقافية من قِبَل السّلطات الإسبانية المسيطِرة .

لكن نظام الدَّجَن تم التخلص منه سريعًا فقد ٱنتهى بسرعة في غرناطة وبقية قشتالة (1499- 1501م) ، بسبب نقض اتفاقية تسليم غرناطة ، بالرغم من أنه تواصل في بلنسية() وأراغون حتّى سنة 1526م ، على الرغم من المضايقات التي تعرّض لها المسلمون البَلَنْسِيّون من قِبل المسيحيين بين عامَي 1276 و1291م وخلال سنوات أخرى تالية ، وكذلك في أماكن أخرى : جَلْفي، الزِّيرَة ، أوندا ، مورْفيدرو ، شاطبة() ، بني ذَنّون ، كاسْتِيلنو ، أوبيزا ، فورْتاليني ، غادينت ، بيكاسنت ، البيريك ، أُونيل ، وسويّانا( ) . ويمكن أن نرصد سببين للتعجيل بالتملص من اتفاقية غرناطة أولهما طمع الأسياد بممتلكات المدجنين ، وثانيهما- الموقع الارتيادي (الاستراتيجي) لغرناطة حيث هي قريبة من الضفة المغربية المقابلة التي يمكن أن يتواصل عبرها الغرناطيون مع إخوانهم المغاربة .
كانت سياسةُ الإسبان المسيحيين تجاه البلنسيين سياسةً متناقضة ، فالتشريع القانونيّ الإسباني «هو تشريع يرمي إلى طرد المسلمين كما يرمي إلى حصر حركاتهم ، وكان يضمن لهم حرّية ممارسة الشعائر الإسلامية ، كما يسعى في الوقت نفسه إلى القضاء على تلك الشعائر . وكانت تلك التناقضات توجد في أماكن أخرى ، لكنْ وجودَ أعداد كبيرة من المسلمين في بلنسية كان يعنِي أن سياسات المسيحيين المتقلّبة قد أدّت إلى مزيد من العنف وسفك الدماء في بلنسية مقارنةً بما كان عليه الحال في مناطقَ أخرى»( ) ، بل إن هذه الحالة أصبحت عامّة في الأندلس ، وأخذت طابع التصفية الشاملة بكل الأساليب : القهر ، والقتل ، والتشريد ، والاجتثاث من الجذور .

يرى “ل. ب. هارفي” أنّه في ٱصطلاح بعض المؤرخين ، وبخاصة عند “إيسيدور دي لاس كافيغاس” الذي يقول إنّ الصفةَ ، “المدجَّن” ، تمتدّ لتشمل مناطقَ مثل غرناطة قبل سقوطها ، هي «صورة مضلِّلة عند التوسّع في ﭐستعمال ﭐصطلاح “ٱلْمدجَّنين” بهذا الشكل» ، لأن خلال هذه الفترة كان للغرناطيين ٱستقلالهم ، حيث كانوا يمارسون سلطانهم على المسلمين الواقعين تحت سيطرة المسيحيين( ) . وهذا يعني أن مصطلح “المدجَّن” هو مصطلح يتضمن -بمعنى مّا- تراتبيةً “مواطنيّـة” ناتجة عن وضع قانونِيّ وعن نظرة دينية وسياسية وٱجتماعية ، بعيدًا كل البعد عمّا ذهب إليه “إيسيدرو دِي لاس كافيغاس” من تعميمٍ تاريخيّ من دون مراعاة الوضع السياسيّ ٱلْمائز لِمجتمع غرناطة .

لكن “ب. هارفي” نفسه أيضًا وقع في هذا التعميم ، حين قال : « إن القرنَيْن ونصف القرن، من أواسط القرن الثالث عشر الميلادي إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي ، هي فترة المدجَّنين في أوضح صُوَره»( ) . فليس صحيحًا قول “هارفي” هذا ، بأن “نظام” الدّجن امتدّ على مدى قرنين ونصف القرن . فالتدجين -في غرناطة- كان طيْفًا سياسيّاً تجلّى لبضع سنين بعد اتفاقية الاستسلام، لكنه سرعان ما تلاشى وٱمتزج في لُجَج الحالة الموريسكية بمجرّد فرض إجراءات التنصير (1499م) وتفتيت المجتمع الأندلسي عن طريق عملية مسخ مزدوجة : تهجير المدجَّنين -الموريسكيين لاحقًا- وتوطين مسيحيين قدامى محلّهم ، أي عندما تقلّبت حياة المدجّن من العيش في ظل قانون مسيحيّ يحمي حقوقَه الدينية وخصائصه الثقافية ، إلى حياة تشرّد وكتمان دينه ، وكل خصائصه الحضارية والثقافية ، أي حياة بلا قانون ، وإذا ما وُجد قانون فهو مسخّر لتدمير المدجّنين .
لم تمضِ أقل من عقد من الزمن على معاهدة “مرج غرناطة” ، حتى أُجبِر المدجَّنون على دفع مغارم ثقيلة ، وبدأت السلطات الإسبانية تضيّق عليهم ،فأصدرت قرار ينقض الاتفاقية وينصّ على تنصيرهم الاجباريّ في نهاية عام 1499م . فتسببت هذه الإجراءات القهرية بأحداث ثورة البُشَرّات Albujarras ، التي نتجت عنها تداعيات خطيرة على الأندلسيين المدجَّنيـن . فكانت هذه الثورة مؤشرًا على انقلاب سياسي واجتماعي آخر في حياتهم ينذر ببدايات التعايش المستحيل بين خلطاء الوطن ، وأن هناك انقلابًا تاريخيًّا جذريًّا .
ملاحظة: المربعات داخل المتن هي بالأصل علامات ترقيم للشواهد لكن للأسف لم يقبلها الفايسبوك.

***** الموريسكيـــــون *****

د. عبدالرحيم الخليفي
لقد أصبح يُطلَق على المسلمين الذين تم تنصيرهم كرهًا في ممالك شبه الجزيرة الإيبيرية ﭐسم “المسيحيّين الْجُدُد” أو “الموريسكيّيـن”، وذلك بعيد سقوط غرناطة. فهم أولئك ليسوا إلا مسلمو الممالك الإيبيرية (قشتالة وأراغون ونابارّا)( ) أنفسهم. ولقد عانوا، منذ السنوات الأولى للقرن السادس عشر، اضطهاد محاكم التفتيش، التي فرضت عليهم عقوبات مالية ثقيلة ومصادرة ثرواتهم باستمرار( ). وقد وجدت محاكم التفتيش موردًا ممتازًا لاستمرارها في الاسترزاق على حساب فئة مغلوبة ولم يكن في سلوك هذه المحاكم أي ضوابط دينية أخلاقية ولا سلطة فوق سلطتها.
باتت هذه التسمية (الموريسكيون) -كما يُجمع أغلب دارسي التاريخ والحضارة الموريسكيّين- أوسع ٱنتشارًا عندما أصبح التنصير حالةً عامّة في الأندلس سنة 1525م( )، وعندما تم تحويل كل المساجد إلى كنائس وتمت مصادرة الأوقاف( ) من قبل السُّلطات الإسبانية التي منعت -أيضًا- ٱستخدام اللغة العربية، وأصدرت قوانين تميّز ٱلْموريسكيّ/ “ٱلْمسيحيّ الجديد” عن “المسيحي القديم”، وبخاصة في بَلَنْسِيَةَ، فضلًا عن غرناطة. ليس صحيحًا تعريف “ليفي بروفنسال”، والذي اقتبسه من الطبعة الأولى من موسوعة الإسلام: “الموريسكيّون” «ٱسم يُطلَق في إسبانيا على المسلمين الذين بقَوْا في البلاد بعد أن استولى [الملكان] الكاثوليكيان فرناند وإيزابيلّا على غرناطة يوم 2 كانون الثاني عام 1492 [الاثنين 2/3/897ﻫ] وبعد زوال حكم آخر ملوك بني نَصْر»( ).

إن في هذا التاريخ (2/1/1492م) الذي أورده بروفنسال ليس لنا سوى أن نلاحظ زيادةً كبيرة في عدد المدجَّنين( )، إذ أنّ هناك مرحلة انتقالية استمرت من 1492م حتى سنة 1501م (تاريخ انتهاء ثورة البشرات)، وهي المرحلة الْمُدَجَّنِيّة، وليست الموريسكية بالمعنى التاريخي. أما بالنسبة إلى مصطلح “الموريسكي” فيجدر القول إن المؤرخ “فِرْنانْد بروديل” كان من بين المؤرّخين الأكثر دقّة في تعريفه: « تدلّ لفظة “موريسكيين” على أولئك المنحدرين من مسلمي إسبانيا المتنصّرين منذ 1501 بقشتالة، ومنذ 1526 بمملكة أراغون»( ). ويقول ميغل أنخيل ب. إيبارا: «ظهر لفظ “موريسكي” بعد مرسوم التنصير القهري الذي أصدره ثيسنروس Cisneros في 14 فبراير 1502/6 شعبان 907 هـ. تضم هذه التسمية جماعات متعددة في مواقف مختلفة، بادئ ذي بدء هناك: موريسكيو مملكة أراغون، مع التفريق بين أهالي أراغون من رعايا سادة الإقطاع الذين عاشوا في مناطق الخصبة لنهر الإبرو والفالنسيين [البلنسيين]، وهم جماعة متجانسة ذات نفوذ في مملكة توريا القديمة. أما القطاع الثاني فيتضمن الموريسكيين القشتاليين، ممن تعود أصولهم إلى المدجنين، والذين اندمجوا بصورة تامة في نمط الحياة المسيحية وتمتعوا بقدر وافر من حرية الحركة. المجموعة الأخيرة مكونة من موريسكيي أندلوثيا() ممن ظلوا يعيشون في مسقط رأسهم بعد غزو غرناطة في عام 1492، وهي جماعة مسلمة إلى أبعد الحدود من حيث عاداتها وتقاليدها ونمط حياتها»( ).
فمن خلال الإجراءات الجديدة -(التنصير، وفرض مغارم) والتمييز بين المواطنين في (غرناطة وقشتالة سنة 1501-1502م، نابارَّا (نبّرة) 1515م، أراغون وبلنسية سنة 1525- 1526م)- دخل المسلمون منعرجًا تاريخيًّا آخر مختلفًا تمامًا عن حالة الدَّجَن، وهي بدايـة الحقبة الموريسكية ﺑٱلمعنى ٱلتاريخي( ). والتواريخ المذكورة تشير في عمقها إلى تحولات على مستوى العلاقات بين المسيحيين والمدجنين. فالإجراءات الجديدة -كما سبق الذِّكر- ضدّ مدجَّنِي الأندلس هي الحدّ الفاصل بين العصر المدجنيّ والعصر الموريسكيّ.

في هذا السياق «لا بدّ أن نذكر أنه من ضمن الشواهد اللّغوية الإسبانية الْمُسَلّمة عددٌ من الكلمات التي تدلّ على الشعب برمّته أو بعض طبقاته الاجتماعية، أمثال: Mamluco [مملوكيّ]، Marrano [مغربِيّ]، Mudejar [مدجَّن/ متأخِّر]، Mosarabe [مستعرِب] وTagarino [ثغري] وأخيرًا كلمة الموريسكيّ [Morisque]»( )، هي تسميات كلها ناتجة عن تحوّلات تاريخية استندت إلى أبعاد دينية وجغرافية وثقافية وإجراءات سياسية، فتحددت على أساسها إحدى التسميات. بيْد أن التسمية الأخيرة (الموريسكيون) تبقى الأكثر إثارة للجدل حول مصدرها الأصليّ، بخلاف مصطلح “المدجّنين” الذي كان واضحَ المصدر، فهو عربيّ الاشتقاق من لفظ “دَجَنَ” أي أقام بالمكان وألفه واستأنس( ) كما سبق الذكر. ويضيف دي إيبالثا يشير إلى أن اصطلاح “مدجن” تفيد “الشخص الذي بقى في أراضٍ مسيحية على أن يدفع ضريبة، لذلك فإن كلمة “مدجن” في القاموس العربي اللاتيني في أوائل القرن السادس عشر معناها -كما يشير دوزي (1/425)- “من يدفع ضريبة”( ). لكن هناك اتجاه آخر -كما سبق الذكر- يشير إلى أنه تعني “المعاهد”، و”مدجن” أصلها “متأخر”، أي الذين تأخروا من المسلمين الأندلسيين عن الرحيل من بلادهم.

لكن ما يمكن قوله إن مصطلح “الموريسكيّين” أخذ تفسيراتٍ متعددةً، ﻓﭑلكلمة عند بعض ٱلدارسين تعنِي تصغيرًا لكلمة مسلم أو “مورو” Moro، والإسبانُ عنَوْا بذلك: المسلمين الأصاغرَ( ). ويرى ميكيل دي إيبارا، المتخصص في “الموريسكولوجي” أن كلمة “موريسكي”Morisco مشتقة من كلمة “مسلم”، أما مورو فهي تصغير لها وتحمل معنى الشأن الضئيل في كثير من الأحيان. وكلمة موريسكي معناها أن الشخص يختلف عن المسلم العادي Moroالوثني، إذ تم تعميده وينظر إليه المجتمع الإسباني على أنه مسيحي. كلمة “موريسكي” إذن مشتقة من كلمة مورو Moro ومعناها “المسيحي الجديد الذي كان مسلمًا قبل ذلك»( ). وفي “معجم الْمَلَكيّة الإسبانية” تُطلَق لفظ “الموريسكين” «على المغاربيين الذين بقوْا وتعمّدوا بعد ٱستعادة إسبانيا»( )، كما أن هذا ٱلاسم -إضافة إلى كوْنه يشير إلى تراتبيّة مواطنيّة، مثلمَا هو في حال الدَّجَن، إذ بات «مواطنًا ثانويًّا، لا يرتقي بردّته، بل تنحطّ مكانتَه بسببها»( )- حمل أيضًا دلالةً جغرافية تشير إلى أصل هؤلاء وهو “مراكش” (المغرب)، بٱعتبار أن ٱلفتح جاء من هناك، وإلى هناك سيعود إلى “بلده” من حيث أتى حسب التفكير الإسباني المسيحي.

يرى م. دي إيبارا أن «المصدر اللاتيني لكلمة مورو هو maurus وهي كلمة كانت تشير في العهد الروماني إلى سكان المغرب الأوسط والغربي (المناطق الساحلية في المغرب بالإضافة إلى مساحة الجزائر بأكملها) وموريتانيا بقسميها التي تشمل طنجة في المغرب وشرجيل في الجزائر. لكن كتب التاريخ الأوروبية في العصور الوسطى لم تطلق اسم مورو للدلالة على المسلمين إلا بعد غزو المرابطين والموحدين للأندلس في القرنين الحادي عشر والثالث عشر(). اعتبارًا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن يُستخدم لفظ “مورو” للدلالة على “غير المسيحي” ويحمل لهجة عدوانية تجاه غير المسيحيين: موروس”() ومسيحيين، هناك “موروس” على الشاطئ، الطفل اﻟــــــ”مورو” أي غير المعمّد…الخ. وفي فترة الحماية() الإسبانية على المغرب وفي المناطق المحتلة في سبتة ومليلة() يحمل لفظ “مورو” صفة عدوانية وتحقيرية، ولهذا لا يُستخدم اللفظ في الأوساط الأكاديمية للدلالة على المسلمين أو على العرب.

لكن يجب ملاحظة أن كلمة “مورو” لها مدلول ودّي في بلنسية وأليكانتي (لقنت) ومرسية()، حيث تكتسب حفلات المسلمين والمسيحيين Moros y Cristanos شعبية كبيرة. من ناحية اخرى يعبّر لفظ “مورو” عن تعارض العالم الإسلامي في العصور الوسطى (الشرقي المسلم الذي يتحدث العربية) مع العالم المسيحي (الأوروبي المسيحي الذي يتحدث لغات لاتينية). لفظ “موريسكي” إذن يشير إلى أفراد ومجموعات محددة لتمييزهم عن مسلمين آخرين، رغم أن اللفظ يدل على أصل متشابك»( ). لكن هذه الدلالة ٱنزاحت بعد ذلك من ٱسمِ نسبةٍ إلى مكان، إلى صفةٍ تمييزية ذات دلالة مشبعة بالدين. ﻓــــــــ”الموريسكي” هو المسلم. وإذا كانت هذه التسمية -“موريسكيون”- لازمتهم حتى في البقاع البعيدة أي في العالم الجديد (أمريكا)، باعتبار أن الصراع كان مفتوحًا على مصراعيه، إلاّ أنه من الملفت للنظر أن الإسبان أطلقوا التسمية نفسها “Moros” على مسلمي الفيليبّين عندما وصلوا هذه البلاد خلال الربع الأول من القرن السادس عشر، وهي عملية ٱستدعاء فاقعة لحال مسلمي الأندلس، وكجزء من الحرب النفسية أيضًا .

ما يمكن تأكيده هو أن الوضع “القانوني” للمسلمين هو الذي حدّد تسميتهم التاريخيّة أساسًا، وهذا القانون نفسه يستند إلى رؤية تجاه عناصر مغايرة: دين ولغة وثقافة، وهي عناصر أساسيّة تحدّد معالم أُمّـة مغايرة، في عصرٍ مُشْبع بالدِّين، الذي يتصدر المنظومة الحضارية. ولعلّ هذه الدّلالة نجدها في تسمية “الموريسكيّين” أنفسهم ﺑﭑسم “المسيحيّين الْجُدُد” ذوي اللسان “الألخميادو”/ الأعجمي وذوي الأصل المغاربي. إن تسمية الموريسكيين باسم “المسيحيين الجدد” يحمل في طياته رؤية تمييزية -على المستوى الديني- مثبتة منذ بداية مشروع الإقصاء من الأندلس. ﻓــــ”المسيحي الجديد” ليس إلاّ “مسلمًا قديمًا” ينوء كاهله بـــ”إثم” إسلامه الذي لا خلاص منه إلا به. وهذا ما نلحظه في ملفات محاكم التفتيش التي كانت تسمي الموريسكيين -قبل هذه التسمية- “مسيحي جديد من أصل مسلم”. وهذا يعني أنه ليس عريقًا في المسيحية بل هو طارئ عليها، وإنما عراقته راسخة في الإسلام.
وعليه، باتت كلمة “موريسكيّ” تعني ذلك الـمسلم “غريب الأصل”، والذي أصبح مسيحيًّا جديدًا، أي مدجَّنًا نُصِّر عُنْوة( )، ومَكَث في بلده الأندلس. أمّا المصادر العربية -مثل أحمد بن بوجمعة ٱلْمَغْرَاويّ()، وهو أحد فقهاء المغرب- فتسميهم “غُرَباء”، وهي تسمية تكاثفت فيها كل الدلالات المشبعة بالأسى على ما آلت إليه أوضاعهم هناك. وبذلك يمكن القول إن لكلٍّ من المصطلحين -المدجَّن، والموريسكي- دلالته التاريخية، إضافة إلى دلالته السياسيّة والاجتماعية والقانونية والجغرافية، بينما مصطلح “الغرباء” -الذي أطلقه المغراوي عليهم-، مفعم بالدلالة الدينية، إذ لا شك في أنه مقتبَس من الحديث الشريف: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبـى للغرباء))( ). وتسميهم بعض المصادر العربية الأخرى تسميهم باسم “الأندلس”، مثل ابن عبد الرفيع الأندلسي، والحجري (بيخارّانو) ابن زكرياء الأندلسي الشهير بالرياش. وبهذا الاسم سـمّاهم بـها أيضًا بعض الـمؤرخين التونسيين، منهم: المنتصر بن أبي لحية القفصي، وابن أبي دينار. وتطابُق المنسوبِ (الأندلسيين) مع المنسوب إليه (الأندلس) تتكاثف فيه معاني احتضان الوطن في الوجدان.

بقطع النّظر عن كل تعريف، فإنّ كِلا المصطلحين يدلاّن دلالة مباشرة على انتكاستَين عظميين. لكن كما يقول “ل. باتريك هارفي” إن هذه التفرقة «تطرح … مشكلةً خطيرة. أَوَلَسْنا نرى، ونحن نستعمل مصطلح “موريسكيّ”، أن الموريسكيّين كانوا أقلّ تمسّكًا بالإسلام من بقية المسلمين؟ أَوَلسنا باللّجوء إلى هذا المصطلح بصدد تهميش هذه المجموعة وحرمانها من حقوقها؟… ولا أمِيل إلى الاستغناء عنه [عن مصطلح “موريسكي”]، ولكن علينا إدراك مدى الخطر الإيديولوجيّ الذي نمثله إذا ما واصلنا ٱستعمال هذه اللفظة، فلنتجنّب الوقوع في مغبّة التفكير بأن اللّبس في منـزلة الموريسكي من المجتمع، هذا اللّبس الذي فُرِض عليه بفعل التعذيب إنما يعلِّل بطريقة أو بأخرى ما حدث لهم. قد يكون ذلك من الظلم عينه»( ) لا بالنسبة إلى الموريسكيين فقط، لكن أيضًا بالنسبة إلى المدجَّنين، أَوَليس التدجين هو الصدمة الأولى التي تلقّاها الشعب الأندلسي أجمع، والذي أصبح موريسكيًّا فيما بعد والذي كان في أصله مسلمًا ؟ أوليس المدجّنون الأوائل() هم أنفسهم أجداد الموريسكيين؟
لقد استمسك المدجَّنون بالإرثَ الإسلامي، كأسلافهم المدجنين الأولين، فالإسلام هو الخيط الذي ٱنتظمت فيه هذه الجماعة: دين واحد وحضارة موحِّدة تنتمي إليه وإن ٱختلف واقعها في أبعاده الحياتية، إذ أنّ هذا الواقع كان تأثيره يختلف من جماعة إلى أخرى حسب الوضع “القانونيّ”() الذي يتجاوز قانونيتَه إلى الوضع الاجتماعي والدينِيّ والسياسيّ. وهذه الأوضاع نفسها هي التي تعكس عمق التصدّع وأشكال الانكسارات، بل الانفراط الكبير للعقد الأندلسيّ. وفي قراءة أعمق من التاريخ ،-كما يلاحظ ف. بيانويبا- نجد أن الوعي الموريسكي قد تأسس على الاحتجاج على ما كانوا يعتبرونه إيقافًا من جانب واحد لقانون التدجين( ) .

ٱلحضور المدجَّنِيّ، ومن ثَمّ الموريسكيّ، هما وجهان لحضارة واحدة يجسّدان عمق التحوّلات الفاجعة التي أصابت الإنسان المسلم في الأندلس: الوجه الأول هو المدجَّن، وهو الوجه المشوَّه لإنسان عُطِّل دينه وسُلِبت شرعيته السياسية وتلقائيته الاجتماعية، وأصبح يعيش تحت سلطة ثقيلة هي مرفوضة من وجهة نظر إسلامية، إذ أن فريضة الجهاد بأساليبها المتنوّعة (الجهاد ﺑﭑلمال وبالنفس) تقطع كل مبرّر للتقاعس عن واجب التحرر والتحرير.

والوجه الثاني موريسكيّ متّشِح بوشاح التقيّة التي تعبّر عن خاصيّة النّفس المقهورة لأنها لا تستكين، محاوِلةً التربّص لاقتناص الفرصة المواتية لاسْترداد مَجْدٍ سليب. وهذا الموريسكي لم تُسلَب منه شرعيته السياسية فقط بل انتُزع منه دينه وشرعيته الاجتماعية أي وجوده أصلاً على الأندلس، أرض أجداده، إضافة إلى انتزاع كل ما يملك.

في العصر الحالي استخدم المؤرخون مصطلحَ “مُدجَّن” بشكل يختلف تمامًا عن مصطلح “موريسكيّ”، إنه يشير إلى المجموعة البشرية نفسها ذات الأصل الإسلامي والعربي التي تعيش في مجتمع مسيحي لكن مع اختلاف مهمّ: كان “المدجنون” مسلمين يعيشون بصفة رسمية في المجتمع، بينما كان “الموريسكيون” مسيحيين من الناحية الرسمية. هذا الاختلاف أصله مسيحي بالتأكيد، لأن بالنسبة للموريسكيين لم يتغيّر سوى الوسط الاجتماعي: كانوا مسلمين تمامًا رغم أن بعض تصرفاتهم كان يجب أن تسير وفق ظروف اجتماعية جديدة تحددها البيئة المسيحية( ).

يمثّل المدجّنـــــــــــون المحطّة قبل الأخيرة في خَطّ نازل من قمّة الفتح إلى دَرَكِ الاسترداد، وصولاً إلى الحالة الموريسكية ثم الطرد الكبير. لكن المحطّات المنوَّه بها كانت محطات حضارية زاخرة بالمقاومة ورفض حالة التدجين والاستعباد بعد أن استفاقت الأمّة مما كان يُكاد لها من إيقاع الفِتَن. فحالة الدّجن، ثم الحالة الموريسكية، ومن ثَمّ الطرد الشامل والنهائي، هي علامات فارقة في تاريخ الأندلس، وفي التاريخ الإنساني، جديرة بالدراسة والتمحيص أكثر. فكيف حدث هذا الانقلاب التاريخي والحضاري؟
* *