بقلم أ.د. بومدين جلالي
من جلال ثورتنا النوفمبريّة المجيدة
“” حقّ دم الشهداء “”أي : أقسمُ بدم الشهداء … هكذا كانت أسلوبية الجزائريين والجزائريات حين النطق بالقسَم طوال سنوات ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 … وهي أسلوبية منفردة الوجود في تاريخ الشعوب الناطقة باللسان العربي، إذْ لم يستخدم غيرهم من الناس صيغة هذا القسم العظيم الدال على القداسة والتمجيد والإكبار للذين خرجوا من الرجال والنساء صفوفا صفوفا إلى التضحيات وسقطوا في ميادين الشرف الخالد وهم يصرخون بأصوات لا ينتهي مداها ولا يتوقف صداها، أبدا، أبدا : “” الله أكبر، تحيا الجزائر … الله أكبر، تحيا الجزائر … الله أكبر، تحيا الجزائر … “” …
وما كان هذا القسم خروجا عن طاعة الله – عزّ وجلّ – ولا انصرافا عن القسم باسمه الأعظم كما ورد في الثابت من النصوص، وإنما كان اجتهادا شعبيا عفويا أمْلته ظروف الثورة الجهادية وتسابُق صفوة الرجال والنساء إلى رحاب الشهادة إنقاذا لدين الله من الحقد الصليبي الصهيوني وتحريرا للعباد والبلاد من همجية فرنسا الاستعمارية الاستدمارية التي فاقت كل الهمجيات المعروفة في التاريخ ، وهو اجتهاد قياسي على قسم الله تبارك وتعالى بما فضل تفضيلا من مخلوقاته على غيرها لعظمتها وتميّزها وأهميتها، وفق إرادته سبحانه …
كانت ثورتنا جليلة عظيمة بحق وحقيقة؛ ومن تجليات عظمتها التي لا تضاهيها عظمة تاريخية أخرى أنّ الشعب الجزائري الأعزل من السلاح إلا فيما ندر، الجائع في بطنه جوعا وصل به إلى التنقيب عن بعض القوت في نتانة قمامات الكولونياليين الذين استولوا على كل شيء، المريض في ذاته عضويا ونفسيا من غير وقاية ولا علاج، المُعَرّى في جسده من كل ما يقاوم عوامل الطبيعة، المُجَهّل تجهيلا قصديا بثقافته وتاريخه، المقهور في عزّته وكبريائه قهرا بشعا طوال ما يربو عن القرن من الزمان، المحروم في معظمه من أبسط وأدنى حقوق الحياة، المراقب مراقبة دائمة في كل حركاته وسكناته … هذا الشعب – الذي فقد معنى الوجود أو كاد أن يفقده بصورة نهائية لا رجعة فيها – قد استطاع في لحظة ثورية وجودية هائلة أن يقوم من رماده ويتجاوز قيود عُسره ويقدّم رُبْعه كاملا مَهّراً للحرية الحمراء … مليون ونصف المليون من الشهداء والشهيدات في ظرف زمني وجيز جدا، هذا فضلا عن المعطوبين والسجناء والمنفيين والمطاردين واليتامى والأرامل والثكالى والذين سلّطتْ عليهم فرنسا المجرمة تعذيبا جهنّميا ما رآه بنو الإنسان من قبل …
لم تكن ثورتنا الجليلة العظيمة ثورة شخص من الأشخاص ولا عشيرة من العشائر ولا قبيلة من القبائل ولا مدينة من المدائن ولا عرق من الأعراق ولا جهة من الجهات، وإنما كانت ثورة جزائرية وطنية شاملة … فمن الحدود التونسية شرقا إلى الحدود المغربية غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الحدود الصحراوية جنوبا مع ليبيا والنيجر ومالي ومريطانيا والصحراء الغربية، وداخل أصقاع الجزائر شبرا بشبر، وحتّى هنالك في أرض العدوّ الاستعماري نفسه؛ لقد شارك ذو البشرة السمراء وذو البشرة الزرقاء وذو البشرة السوداء وذو البشرة الشقراء من الأحرار والحرات جنباً إلى جنب … فالعربي موجود، والأمازيغي موجود، وغير العربي الأمازيغي موجود، من الجنسين ومن مختلف الأعمار ومن كل الفئات المجتمعية بغير استثناء، والقناعة واحدة، والهمة واحدة، والمصير : إمّا الشهادة وإمّا النصر … ولم يتخلف عن هذا الركب العظيم – بما استطاع كل فرد عصرئذ إليه سبيلا – إلا مَنْ دخلوا في غضب الله تعالى ولبسوا لعنة خيانة الوطن والتنكر للانتماء، وهؤلاء استثناء قليل شاذّ لا يُقاس عليه …
ومن العجائب والغرائب التي جعلت ثورتنا جليلة عظيمة بأقصى ما تذهب إليه دلالة اللفظين التوصيفيّين أنّ فرنسا الاستعمارية الاستيطانية لم تترك مقدار ذرة مما في يدها وأيادي غربها الصليبي الصهيوني العنصري لمْ توظفه في بلادنا لتبقى أرضا فرنسية ويبقى شعبها رقيقا خادما لمن أخذوا أرضه وحاولوا تدنيس عرضه … فالحلف الأطلسي بمختلف امتداداته الأوروأمريكية يخطّط ويموّل ويساند إعلاميا وعسكريا وديبلوماسيا وسياسيا على ترسيخ أكذوبة “”الجزائر الفرنسية””، والموساد الصهيوني الإجرامي يساهم في الاستخبارات ويتابع الفدائيين داخل مدن الجزائر، والجيش الفرنسي المتكون من اللفيف الأجنبي ذي التاريخ الدموي ووحدات الأسلحة العاملة برّا وجوّا وبحرا بما يتبعها من المجندين إجباريا للخدمة العسكرية والقياد الذين عاثوا فسادا والحركى الذين باعوا الذمة والهمة فارتقوا إلى درجة أشرار الأشرار في كل الأزمنة والأمكنة إضافة إلى الكولون واليهود والأقدام السوداء والدرك والشرطة، كلهم قاموا بالمهام التي كلفتهم بها فرنسا من غير تردد ولا تراجع ولا مساءلة للضمير … تجاوزت القوات الاستعمارية المليون مسلح وانطلقت بهستيريا عنصرية في حرب إبادية فظيعة ضد شعبنا المستضعف … قامت بتمشيط الجزائر بقعة بقعة … أنشأت المحتشدات الشعبية وأحاطتها كما أحاطت القرى والمدن والحدود بالأسلاك الشائكة المكهربة … وبالإضافة إلى الاستخدام الخرافي لكل الأسلحة الخفيفة والألغام المضادة للإنسان خاصة؛ لقد استخدمت بوحشية ما بعدها وحشية خلال سنين عددا مختلف أنواع مدفعياتها ودبّاباتها وطائراتها القاذفة للفسفور والنبّالم وبوارجها البحرية المحاصرة حصارا مطلقا لشواطئ طولها 1200 كلم، كما استخدمت كل ما يمكنه أن يُروّع الجزائريين والجزائريات ويُغريهم في آنٍ معاً بالانفصال عن ثورتهم ومساندة أكبر جنرالاتها شارل دي غول الذي تحوّل من مقاوم للنازية الإجرامية الألمانية في العالم إلى رئيس للنازية الإجرامية الفرنسية في الجزائر … وآخر ما قامت به فرنسا الاستعمارية من أجل القضاء على ثورتنا ذات الجلال وذات العظمة يتمثّل في مصيبتين خطيرتين من مصائب تدميرها الممنهج لمن قالوا “” لا “” لوجودها .. أولى تلك المصيبتين هي تفجيراتها النووية التي كانت الصحراء الجزائرية ميدانها وكان سكان المنطقة والكثير من السجناء الثوريين فئران تجارب لها، وثانية المصيبتين هي تشكيلها لعصابات إجرامية من العسكريين والأقدام السوداء بمُسمّى “”” المنظمة المسلحة السرية O.A.S. “”” في المدن الكبرى بالشمال الجزائري، وقد قتلت تلك المنظمة في ظرف أشهر قليلة مئات الآلاف من المدنيين العزل رمْيا بالرصاص في الشوارع والساحات العامة وتفجيرا بالقنابل في المواقع الإستراتيجية المختلفة …
ومع كل هذا، ورغم كل هذا؛ لم تمتِ الثورة ولم تضعف بل عظمتْ قوّتها وتضخّمتْ فاعليتها بالتحام الشعب كله بها … والأجلّ والأعظم من كل هذا التاريخ المجيد أن الثورة الجزائرية تمكنّت من تطهير أرضنا المقدسة من دنس فرنسا الاستدمارية بطرد حوالي مليوني شخص، هم جيشها وكولونها وأقدامها السوداء ويهودها والكثير من حرْكاها ومؤيديها، وذلك بين ربيع عام 1962 وصائفته … وسيتربّع وضعنا الحالي على قمة الجلال والعظمة إذا ما تمكّنا من توفير الشرطين التاليين :
1 – إعادة تفعيل ”” بيان أول نوفمبر 1954 “” وتطبيق مشروعه قولا وفعلا بوطنية كاملة.
2 – التخلّص النهائي من العقد التي رسّختها فرنسا الاستدمارية في شعورنا ولاشعورنا طوال قرن وثلث القرن.
رحم الله شهداءنا الأحرار الأبرار ………. والمجد لجزائر المجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حرّر يوم 16 أكتوبر 2017
إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي – الجزائر