السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / مقابلات وتحقيقات / حوار مع أبوليوس (صفحة الرواية الجزائرية)

حوار مع أبوليوس (صفحة الرواية الجزائرية)

بقلم أ. د. بومدين جلالي

حوار مع أبوليوس (صفحة الرواية الجزائرية)
أبوليوس: 01/ لِمَ تنطرح “المجايلة” كل مرة ؟ هل هي حالة مرضية أم حالة صحية وحيوية ؟
أ. د . بومدين جلالي: المجايلة كما قرأتها عند سيار الجميل وغيره ليست في ذاتها حالة مرضية ولا صحية، وإنما هي رؤية تكوينية في مسار تاريخي معين، ويمكنها أن تتصف بالمرضية أو الصحية أو مجرد الوهم بهما معا. فأما الحالة المرضية  فيمكن اختصارها في أحد أمرين: التعنت في تقديس الرواد في أي مجال من مجالات الإبداع ثم التنظير لاتباعهم في محاكاة مغلقة تجعل القديم جديدا دونما أن يكون كذلك في مبناه ولا معناه، كما تجعل الجديد قديما دونما أن يحل عقده تفوق السابق على اللاحق التي انخرط فيها انخراطا لاوعي فيه. ثم ما هو نقيض هذا وهو التعنت في تقديس المحدث الراهن والعمل جهارا نهارا على تقزيم ما سبقه ومهد الطريق إلى وجوده الذي يمكنه أن يتطور إلى إلغاء وقطيعة. وأما الحالة الصحية فيمكن أيضا اختصارها في نفي التعنتين السالفين وتعويضهما برؤيا موضوعية فيها بناء الحركة العمودية لتاريخ الظاهرة المعنية وهي في تفاعلها الأدبي مع محيطها الأفقي من غير أفضلية سابق على لاحق ولاحق على سابق، مع الوقوف على الخصوصيات الفردية والجماعية والإضافات الفردية والجماعية على مسافة تتابع الأجيال ومساحة تعدد مشاربهم وتنوع إسهامهم وتميز أدائهم الفني في صيغتيه الفردية والجماعية. وأما الحالة الثالثة التي سميتها بمجرد الوهم بالحالتين المذكورتين أعلاه – وهنا أخصص الكلام ليتجه إلى الدقة المختفية خلف الســـؤال – وذلك لكون الإبداع الأدبي عموما والرواية خصوصا لا يوجد في راهنهما لا حالة مرضية ولا أخراة صحية. فالإبداع الأدبي عموما ومن ضمنه الرواية – موضوع الحوار- يسير في متوازيات لا تعمل على إلغاء بعضها ولا على التعاون فيما بينها والتكامل في بناء تاريخها الثقافي، وذلك كما تعكسه الأعمال الإبداعية من داخل نصوصها. وعوامل هذا متعددة وليس هذا مجال الوقوف عليها بالعنصر بعد العنصر والشاهد بعد الشاهد. وهنا يطرح السؤال نفسه: من أين جاءت هذه التوصيفات الإكلينيكية التي ألصقت بالأدب عموما والرواية خصوصا؟ وللإجابة أقول: هذه التوصيفات وغيرها ليست مما تحيل عليه مدونتنا الروائية في ثنايا نصوصها وإنما هي صناعة إعلامية نقدية تقوِّل الناص ما لم يقله نصه فنيا، وعليه فالإشكال إشكال إعلامي نقدي وليس إشكالا فنيا فيما أعلم.
أبوليوس: 02/ يتهم عدد من النقاد الروائيين الجدد، بمحاولة قتل الآباء المؤسسين إبداعيا وتأثيرا على الرواية الجزائرية أو ما سماه البعض (القفز على المراحل السابقة)، في حين يتهم الروائيون الجدد النقاد بتقديس ما صار قديما لأسباب مختلفة، ما هي رؤيتكم للموضوع ؟ توجد اتهامات للرواية الحديثة بغرقها في التجريبية والحداثة، هروبا مرة وضعفا مرات، ما هي نظرتكم للموضوع ؟
أ. د . بومدين جلالي: بتجاوز فكرتي الهروب من الواقع وضعف المستوى عند هذا وذاك، تبقى الاتهامات المتبادلة بين النقاد والروائيين مجرد اتهامات من صناعة الإعلام النقدي ولا تتعدى أن تكون هامشا ثانويا ضجيجيا يقتصر دوره على الترويج بشقيه السالب والموجب في مسار الكتابات الفنية الروائية التي يفرضها مستواها الفني في مساحات القراءة، اليوم وغدا.. ولو كانت كتابات الروائيين مركزة على إبداعهم الأدبي أكثر من تصريحاتهم للاستهلاك الإعلامي، وكانت متابعات النقاد مركزة على المنجز الروائي أكثر مما قيل ويقال خارج المتون النصية الفنية لكانت الساحة الثقافية ابتعدت ابتعادا معقولا عن الاتهامات التي هي اختصاص بوليسي قضائي وليست اختصاصا نقديا أو إبداعيا. وعلى نقادنا وأدبائنا أن يدركوا الإدراك كله أن النقد لا وصاية له على الإبداع، وأن الإبداع لا اكتراث له بالنقد. فالناقد ليس إعلاميا، ولذا عليه محاورة النص لا الناص، وهو أيضا ليس شرطيا ولا قاضيا، ولذا عليه أن يخرج من ثقافة الاتهام وثقافة إصدار الأحكام ثم الاكتفاء فقط بثقافة مقاربة النصوص الفنية مقاربة خارجة عن المدح والقدح اللذين سادا في تاريخنا الثقافي منذ عصر الفحول وغير الفحول إلى يوم الناس هذا وتسببا في ممارسة ظلم ثقافي لا مثيل له في ثقافات غيرنا. ظلم جعل الشاعر شعرورا والشعرور شاعرا في كثير من محطات أمسنا الشعري، وهو يجعل اليوم من روائينا الكبار صغارا والصغار كبارا في كثير من حالات التجلي الروائي في ثقافتنا المعاصرة، وذلك بسبب ضغينة إيديولوجية أو سياسية أو لغوية أو جهوية أو حتى مادية… والروائي – أو المبدع الفنان كيفما كان حقل إبداعه – عليه أن يتخلى عن وضع أذنه عند فم الناقد، لا ليسمع رأيه وكفى، وإنما لينطلق مما سمع من أجل صناعة غضب هذا الناقد أو صناعة رضاه بحثا في الحالتين على أن يكون في صدر هذه الواجهة الإعلامية أو تلك، ومقابل هذا التخلي هو السير في ركاب الحرية الإبداعية التي تنتج الجديد والمتميز والمساهم في التطوير والتنوير والتعمير بكامل ما تقتضيه المسؤولية التاريخية…
أبوليوس: 03/ في ظل الطابوهات الثلاث، هل يمكننا الحديث عن حدود في الإبداع ؟ أو تسقيف تناولهم، خاصة الدين والجنس؟
أ. د . بومدين جلالي: من تجارب البشرية عبر تاريخها الطويل والمليء بالمآسي التي لا يمكن لأي إحصاء أن يقف عليها كاملة غير منقوصة؛ لقد وقف الإنسان المعاصر الواعي على ضرورة التعايش والسلم الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والثقافات والديانات واللغات وكل مناحي الحياة. ومن بين العناصر المساعدة على التمكين لهذه الضرورة الاجتماعية الحضارية هو التمكين أيضا للحرية المسؤولة المراعية لقوانين المجموعات البشرية وقيمها النابعة من مسار انتمائها وخصوصية وجودها. من هنا تصبح بعض الطابوهات – على اختلاف طبيعتها وتجلياتها وتأثيراتها بين المجموعات البشرية – من أساسيات تجنب الفوضى والمآسي وتدمير الإنسان للإنسان. وهنا نطرح السؤال التالي على أنفسنا: هل من وظائف الفن عموما – وبضمنه الرواية – المساهمة في تفشي التعايش والسلم الاجتماعي بين الناس، وفق نظرة جمالية ترتقي بالإنسان إلى إنسانيته، أو إثارة الشغب المؤدي إلى الصراع المسلح الذي سبق للبشرية أن جربته وذاقت مختلف ويلاته ؟… فاحترام الطابوهات مسألة مرتبطة باحترام خصوصية كل مجموعة بشرية أولا، كما هي مسألة مرتبطة أيضا بالاختيار بين السلم والحرب داخل المجموعة الواحدة، وبينها وبين المجموعات الأخرى… وأنا أختار احترام خصوصية مجموعتي، كما أختار السلم والتعايش بين مكوناتها، وبين هذه المكونات مجتمعة والمجموعات البشرية الأخرى، ما كان ذلك ممكنا.
أبوليوس: 04/ تطرح دائما قضية الحوار بين الذات والعالم في الرواية، خصوصا في السنوات الأخيرة أين صرنا نشهد انتصارا للذات وغرقا للكُتّاب في سيرهم الشخصية على حساب تمثيل العالم وتصوير المجتمع …أين تتموقع تجربتكم في إطار هذه الثنائية؟
أ. د . بومدين جلالي: بالنسبة لي في مجال الرواية، لقد كتبت ثلاث محاولات روائية. نشرت منها واحدة هي “جلسات الشمس” وأدخلت إلى عالم أرشيفي الخاص الإثنتين الأخريين، وكنت في هذه التجربة المحدودة منتقلا بين الطرفين المشار إليهما في السؤال… وفي رأيي الخاص يبقى الروائي كأي مبدع آخر محكوما بما تمليه عليه حريته الأساسية وقناعته الفكرية ومسؤوليته الثقافية وقدراته الفنية، بعد ذلك وضمن ذلك للمبدع أن يستثمر تيمة ذاته أو تيمة عالمه، فالأمر سيان إذ الذات يراها صاحبها بعين العالم والعالم يراه بعين ذاته، وهما وجهان لعملة واحدة تتغير مكوناتها ومدلولها ورؤاها من مبدع إلى مبدع، وإلا ما كان المبدع مبدعا.
أبوليوس: 05/ هنالك من يرى أن الرواية أصبحت في عصر العولمة ميدانا لإثبات الذات والدفاع عن الهوية والمبادئ الوطنية والخصوصيات المحلية، أما الرأي الآخر فيرى في الرواية منبرا يتكلم من خلاله الجميع… كيف ترون هذه الثنائية من خلال ممارستكم؟
أ. د . بومدين جلالي: لقد سبق لي أن تحاورت مع منطلق هذا السؤال في كتابين أحدهما طبع والآخر قيد الطبع: “العولمة وموقفنا منها”، و “قراءات ثقافية”، والملاحظ أن صمود الذات بخصوصيتها ومحليتها أمام العولمة المرادفة للقولبة كما يقول الجابري لا تقتصر على الرواية وحدها وإنما تتعداها إلى كل مجالات العطاء الحضاري المتنوع المتكامل من غير أن يقلل ذلك من قيمتها أو يلغي دورها في الصراع الدائر الذي أسست له نظريات مثل “المركزية الأوروبية” و”نهاية التاريخ” و”الحرب الضرورية”… وهنا أعود إلى المسؤولية التاريخية عند الروائي وغيره من النخب في الانطلاق من خصوصيته واستثمارها حتى لا تدوسها الخصوصيات الأخرى، مثلا نجد الروائي الكبير نجيب محفوظ قد استثمر تيمة “الحارة” القاهرية في معظم أعماله، وكان هذا الاستثمار الجمالي الاجتماعي ذو الخصوصية التي لا غبار عليها هو أحد العوامل التي أدت به إلى الوصول إلى العالمية والحصول على جائزة نوبل والدخول إلى رحاب الخالدين. هذا عن الرواية والخصوصية، أما عن الشق الثاني من السؤال “الرواية منبر يتكلم من خلاله الجميع”، فالإجابة هي: لا… فكل رواية كتابة قصصية طويلة ولكن ليس كل كتابة قصصية طويلة هي رواية… للجميع حق التكلم بالقلم ولكن ليس للجميع حق الانتساب إلى الرواية ما لم تتجاوز كتابته الحكي العادي الموجود في السيرة والتاريخ والإخباريات وما يجري هذا المجرى…
أبوليوس: 06/ لقد شاع الحديث عن الأدب الاستعجالي… ووقع الكاتب الروائي والناقد معا في إشكالية: هل نتفاعل مع الواقع لكي نندرج في إطار الحوار الحالي الذي يحيط بنا فنكون استعجاليين؟ أم نترك الأحداث تعتمل ولا نتناولها إلا بعد مدة فنتهم آنذاك بالتغريد خارج السرب؟ مارأيكم؟
أ. د . بومدين جلالي: يقابل الأدب الاستعجالي في الرواية والمسرح والسيناريو وغيرها شعر المناسبات في تاريخنا الشعري الطويل، أغلبه مهتز الشعرية فنيا وذائب كليا في المناسبة التي حركت صاحبه… ومع مرور الزمن يتضح أنه أدب من الدرجة الثانية أو الثالثة ويتآكل تدريجيا ولا يبقى له ذكر ولا أثر إلى حين التأريخ للظاهرة المعنية أحيانا وليس دائما… وعلى هذا، فالمبدع في نظري ليس إعلاميا في جريدة يومية أو نشرة إخبارية مماثلة في فضاء أثيري أو تليفزيوني أو أنترناتي. المبدع شخص آخر وعليه أن يبق ذلك الشخص الآخر في حياته الأدبية حين يجلس للكتابة ملتقطا الجمال بعناصره الرامزة المحيلة على حياة من الواقع لكنها ليست الواقع كما حدث ويحدث في تاريخيته المضبوطة بمعايير لا يأبق منها آبق… ويبقى من حق أي كاتب أن يكتب استعجاليا لضرورات هذا الزمن الاستعجالي، كما يبقى من حق النقد أن يصنفــه – كما فعل حين توصيفه بــ “الاستعجالي” – ضمن إطار آخر من أطر التصنيف… وفيما يخصني، أنا أقترح أن يدرج هذا الأدب الاستعجالي كله أو بعضه على الأقل ضمن دائرة الأدب الموازي الذي يضم الرواية البوليسية والرواية الوردية وغيرهما من الكتابات ذات الطابع المتموقع بين الأدبي واللاأدبي، والموازية للأدب الرسمي والأدب الشعبي معا.
أبوليوس: 07/ يريد الذوق العام للقراء أن تكون الروايات اتباعية تستعيد عادات الكتابة المعروفة… ويريد ذوق النقاد التجريب والتجديد وخرق آفاق الانتظار… وهو أحد النقاشات التي طرحتها مداولات البوكر العربية مؤخرا… أين تتموقعون بالنسبة لهذا التجاذب في الذوق والتقنية؟
أ. د . بومدين جلالي: ليس كل القراء مصابين باتباعية الذوق القديم والقديم فقط، وليس كل النقاد مصابين بهوس التجريب التجديدي الذي لا يقف عند حد من الحدود.. فالمسألة نسبية إلى درجة ما، وتضيق هذه النسبة أكثر فأكثر إذا نظرنا إليها من زاويتي واقع النقد وواقع القراءة. فالنقد في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة ليس نقدا بالمعنى الدقيق العميق الذي يحيل عليه هذا المصطلح في الثقافة النقدية العربية القديمة وفي الثقافة النقدية الغربية الحديثة. فنحن لحد الساعة لم نتمكن – أو لا نسعى لنتمكن – من تطوير نظرية في الفن والإبداع وإنتاج مناهج خاصة نابعة من خصوصيتنا المعرفية عبر رحلتها الثرية في القرون السالفة. وكل ما استطعنا فعله خلال القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة هو أحد أمرين لا ثالث لهما. بالنسبة لتراثنا النقدي لقد تراوح اهتمامنا به بين التأريخ له ومحاولة الوقوف على تقاطعاته مع النقد الغربي الحديث وبين شرح بعضه شرحا تعليميا موجها للاستهلاك المدرسي، وما استطعنا استثماره لإنتاج فكر نقدي جديد نابع من انتمائنا الثقافي والحضاري. وبالنسبة للنقد الغربي المستورد ضمن ما استوردناه في مختلف قطاعات الحياة المعاصرة بسبب عجزنا عن الإبداع والإنتاج، فبعدما أصبح هذا النقد الغربي بينا بواسطة الترجمة أو بالنقل الحرفي من مصادره النظرية الغربية دون الإعلان غالبا عن ذلك النقل، لقد تراوح اهتمامنا به بين تطبيق مناهجه على بعض نصوصنا وتاريخنا الثقافي تطبيقا مسطحا متأرجحا ضمن المستويات البعيدة عن النجاح الذي لا يتماشى والتسطيح المسيطر على هذه التطبيقات وبين تصنيف تلك التطبيقات في هذا المنهج أو ذاك والتأريخ لها والتعليق عليها مدحا أو قدحا… ولا شيء غير ذلك. وهذه الكتابات النقدية الواسعة يحركها في الغالب حافزان أساسيان وآخران استثنائيان. الحافز الأول الأساسي هو الرسائل الجامعية والبحوث المتوسطة التابعة لها بغية الحصول على الشهادات ثم الترقية في المنصب، وهي لا تدل على معرفة كبيرة إذ أصبحت في معظمها – كما يعرف الجميع – شهادات تحمل أصحابها والعكس غير صحيح إلا فيما ندر. والحافز الثاني الأساسي هو الكتابة من أجل التجارة والشهرة وقد أدى هذا إلى السرقة الأدبية المقصودة قصدا أحيانا كما أدى غالبا إلى تحويل البحث النقدي إلى كتابات شبه إعلامية مسطحة. والحافز الاستثنائي الأول تمثله الكتابات النقدية المؤسسة على نعرة إيديولوجية أو فئوية أو جهوية وهي بعيدة عن النقد القويم بمسافة ضوئية كبيرة. والحافز الاستثنائي الثاني والأخير يتمثل في الكتابات النقدية التي تسعى بكفاءة وجدية أن تجعل من النقد نقدا، وهي قليلة جدا وأصحابها خارج كل اللوبيات التي تسيطر على النقد الأدبي باللغة العربية.  والقراءة عند حملة الحرف العربي ذوي المستويات الجامعية الذين يعدون بعشرات الملايين من المحيط إلى الخليج، وبالملايين ضمن الحيز الجزائري وحده، إنها تكاد أن تنعدم تماما ويصبح لفظ “القراءة” لا يحمل أي معنى. وتتجلى هذه الملاحظة الكارثية في أمرين هامين، أولهما الإحصاءات العالمية -(نحن لا نمارس الإحصاء ولا نملكه أصلا)- ومنها خاصة ما تقوم به اليونيسكو تقول في غالبيتها إن القارئ بالعربية لا يقرأ في المعدل العام إلا 12 صفحة في الحول، أي ما معناه أن القارئ عندنا لا يقرأ أكثر من صفحة واحدة شهريا. وثاني الأمرين الهامين هو أن طبع الكتاب في المساحة القارئة باللغة العربية يتراوح في معظم حالاته بين 500 و1000 نسخة ولا يتعدى ذلك بقليل إلا نادرا. وعلينا بعد هذا أن نفكر في 1000 نسخة في أحسن الأحوال للملايين من القراء في حدود القطر الواحد، ومع هذا لا من يشتري هذا الكتاب، اللهم إلا المختص في موضوعه أو مؤسسات الدولة كالمكتبات العمومية ودور الثقافة وما إلى ذلك. وبناء على هذا، فإشكالية قارئ يحب القديم وناقد يبحث عن الجديد هي إشكالية دونكيشوتية لا غير.
أبوليوس: 08/ ما تعليقكم على الغياب الكبير للجزائر طيلة سنوات عن موعد البوكر العربية؟… هل من حقائق لابد من تعريتها أم أنها حقيقة مستوانا التي لابد من مواجهتها؟
أ. د . بومدين جلالي: هذا السؤال يأخذنا للحديث عن ثلاث مسائل مختلفة لنصل إلى إجابة ما، وهي البوكر، والعالمية، والغياب الجزائري عنها. ففيما يخص البوكر، لقد تم تأسيسها سنة 2007م في أبو ظبي بالإمارات باللغة الإنجليزية وليس بالعربية، وكانت امتدادا معلنا للبوكر البريطانية، وبتمويل أساسي من وزارة السياحة التي تضيف الثقافة إلى مجال اختصاصها كنشاط ثانوي، وتكون تيمات الروايات في قضايا تهم الغرب بالأساس كمحاربة الإرهاب ومنه المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، وكمحاربة العنصرية ومنها الوقوف ضد كراهية السامية التي لا تعني أكثر من الاعتراف بصهيونية اليهود والتسامح معها، وكالتسامح مع المثلية الجنسية المهددة للوجود الإنساني تهديدا مباشرا، وكالتحرير النسوي الذي لا يعني تطور المرأة العربية ضمن ثقافتها ودينها وقيم مجتمعها وإنما ضمن الثقافة الغربية الداعية إلى تحطيم كل القيم والأخلاق الإنسانية، ولجنة التحكيم في هذه الجائزة لا تتكون من النقاد العرب بمفردهم بل يضاف إليهم نقاد من الغرب بالأساس، وتقدم قيمة الجائزة بالدولار الأمريكي. وبعد هذا علينا أن نحكم: هل البوكر جائزة ثقافية عربية أم هي شيء آخر؟ وفيما يخص العالمية (الدولية) التي تطلق على هذه الجائزة International prize for arabic fiction، هل هي فعلا تحمل معنى العالمية/ الدولية وهي تابعة لغيرها ومخصصة لحيز ثقافي محدد. هذه الجائزة هي فرع عربي من أصل بريطاني، ومعقولية التفكير وممارسة الواقع تحيلان على أن الأصل عالمي بحكم سيطرة اللغة الإنجليزية على الثقافة والاقتصاد وغيرهما عبر العالم بينما يبقى الفرع محليا وضعيفا بحكم عدم سيطرة اللغة العربية حتي على فضاء الناطقين بها أصلا وفي أي مجال من مجالات الحياة، بما في ذلك أدبها الراهن. وفيما يخص الرواية الجزائرية وغيابها عن جائزة البوكر – عالمية كانت أو محلية – فعوامل ذلك متعددة متداخلة، منها ما هو ثقافي ومنها ما هو غير ثقافي. في الجانب الثقافي أقف على ثلاثة أمور تستحق الوقوف مطولا وهي الرواية في حد ذاتها، والنقد الدائر حولها، والإعلام المروج لها. ففي الرواية ذاتها، أنا من قراء الرواية الجزائرية والعربية والغربية، أتذكر أني قرأت أول رواية في حياتي وأنا في ربعي الثاني عشر وكانت رواية مترجمة إلى الفرنسية بعنوان “روبنسون كروزوي” للكاتب الإنجليزي دانيال دي فو، ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ باللغتين العربية والفرنسية خاصة إلى أن تجاوزت الستين حاليا، وبعد أن تخصصت في الأدب المقارن أصبحت لا أقرأ فقط قراءة استمتاعية وإنما أقرأ مقارنا بين ما أنتجته ثقافتنا وما أنتجت ثقافات من قرأت لهم. وبمنتهى الصراحة لم أجد رواية جزائرية واحدة قد وصلت في أدائها الفني إلى مستوى روايات غربية مثل “دون كيشوت دي لامانشا”/ سيرفنتيس، أو “مادام بوفاري”/ فلوبير، أو “العجوز والبحر”/ هيمنغواي، أو “جذور”/ أليكس هيلي، أو “الناب الأبيض”/ جاك لندن، أو “مائة عام من العزلة”/ ماركيز، أو “فاوست”/ غوته، أو “الإخوة كارمازوف”/ ديستويفسكي، أو “الأم”/ غوركي، أو “اسم الوردة”/ أمبرتو إيكو، أو غير ذلك من الروايات التي تندرج ضمن المستوى العالمي في الثقافات الأجنبية المختلفة، كما أني لم أجد رواية جزائرية واحدة وصلت في أدائها الفني إلى مستوى ما كتبه نجيب محفوظ، مع العلم أني قرأت أعماله كاملة والكثير مما كتب عنها بسنين قبل أن أساهم في المؤلف الجماعي العربي الذي خصص له بعنوان “نجيب محفوظ: ضمير الرواية العربية”… ربما يكون ذوقي الجمالي متشددا إلى درجة كبيرة، وربما أكون خاضعا لتأثير الأداء الفني في كثير من الروايات الغربية والقليل من الروايات المشرقية، وربما أنا منبهر بإعجازية الأسلوب القرآني وفنتازيا ألف ليلة وليلة اللذين ما بخلت بهما على تكويني… ومع هذا؛ إني أرى أن الرواية الجزائرية في عصريها الإيديولوجي والحداثي لم ترق إلى المستوى العالمي ولا حتى العربي. وأسباب ذلك كثيرة، منها ثقل الدعاية الإيديولوجية ثم ثقل الأزيائية الحداثية، ومنها عدم القدرة على اختلاق لغة جمالية حكواتية، ومنها قلق البناء السردي في جل الأعمال، ومنها احتقار المجتمع (المتلقي) باحتقار قيمه المؤسسة لوجوده وانتمائه، ومنها، ومنها … ربما يقول قائل: هناك روايات جزائرية تجوب الآفاق في الغرب والمشرق! هذا صحيح، ومرده ليس عالمية هذه الرواية وإنما انزواء أصحابها تحت جناح لوبيات المنطقتين بالأساس. وبعد الرواية أقف على النقد الدائر حولها -على افتراض أن هناك روايات جزائرية تقع في استثناء التوصيف السابق- فكما سبقت الإشارة إلى ذلك هو نقد أغلبه فاشل مبدئيا بسبب محركاته غير الثقافية أصلا مضافة إلى وقوعه في التسطيح والتكرار وانعدام الطموح في إنشاء شيء جديد ذي أهمية. ويبقى القليل الذي له أهميته ما، وبخاصة الذي يدور في فلك الرواية الجزائرية، فإنه بدوره عاجز عن دفع هذه الرواية إلى واجهة التنافس على الجوائز الكبيرة مثل البوكر ونوبل لسببين اثنين خارجين عن إرادته كما يبدو لي. أول هذين السببين هو أن النقد الروائي الجزائري الجاد -على قلته- لا يصل في لغته العربية إلى كامل العواصم العربية المشرقية ذات التأثير على قرار منح الجائزة إلى هذا أو ذاك نتيجة محدودية طبع المؤلفات وضعف توزيعها إن لم أقل انعدامه. وثاني هذين السببين أن النقد المعني لا يترجم إلى اللغات الأجنبية ذات النفوذ الثقافي وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، وبالتالي يبقى إنتاجنا، رديئا كان أو جيدا، في دائرة لا تبتعد كثيرا عن المجهول الذي لم ينشر أصلا. وبعد الرواية والنقد الدائر حولها، أقف على الإعلام الثقافي الذي يتخذ من الرواية الفنية مادة من مواده الإخبارية التي يبلغها بل يفرضها على العام والخاص دونما استثناء. هذا الإعلام المتخصص ذو الطابع الإشهاري غير متوفر بمعناه الكامل ومبناه الاحترافي في بلادنا… فإذا ما صدرت عندنا رواية أو كتاب نقدي يقربها من المتلقي عموما والجهات المشرفة على هذه الجوائز خصوصا، لا يجد هذا الإصدار أدنى اهتمام، وإذا ذُكر الحدث مرة واحدة بصورة محترفة في التلفزة أو الإذاعة أو الجريدة أو النات فذلك إنجاز ما بعده إنجاز، بينما نجد الرواية من الدرجة الثانية أو الثالثة في فرنسا تمر بمئات الحصص في مختلف وسائل الإعلام منذ لحظة إصدارها إلى غاية نفاذ نسخ طبعتها الأولى في مختلف أسواق اللغة الفرنسية الموزعة على مختلف القارات، مع العلم أن اللغة الفرنسية لا تنافس بقليل ولا بكثير مع العديد من لغات قارتها الأوروبية. هذا عن العوامل الثقافية، أما العوامل غير الثقافية فلا أطيل فيها لأنها معروفة عند الخاص والعام وتتلخص في مختلف ما يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة في دعم إنتاجها المادي واللامادي، وهنا أقصد دور وزارة الثقافة ومجهوداتها في الترويج لثقافة بلدها والوقوف معها أين التنافس، وهذا منعدم في بلادنا. إذن لدينا رواية مستضعفة، ونقد فاشل غالبا، وإعلام غير محترف دائما، ومؤسسات ثقافية مشلولة، وهذا ما يؤهلنا للغياب عن البوكر وغيرها بجدارة واستحقاق، وإذا فازت إحدى رواياتنا مستقبلا بجائزة من الجوائز الكبيرة فسيكون ذلك لخضوعها وخضوع مؤلفها خاصة لاعتبارات أخرى ليس هذا مجال محاورتها. والأولى بنا حاليا أن نقرأ وضعنا الراهن في الرواية والنقد وخارجهما قراءة ناقدة تهدف إلى التجاوز والارتقاء.