بقلم البرفسور أ.بومدين جلالي
أمّتنا المريضة الحالمة…
أمتنا المعاصرة المهتمة كثيرا أو قليلا بالوحدة هي المجموعة البشرية التي تنتمي بالأصل التاريخي أو الانتماء الحضاري إلى الفضاء الإقليمي الأسيوي الإفريقي المعروف بتسمية تعتمد على توصيف الكل باسم الجزء الأكبر هي “”الأمة العربية””. وهي تتكون من أعراق متعددة أكثرها عددا العرق العربي، ومن ديانات مختلفة أكبرها انتشارا الديانة الإسلامية، ومن ألسنة أصيلة ودخيلة متباينة أكثرها تواجدا اللسان العربي. وهذا التعدد والاختلاف والتباين مبدئيا لا مرض في مجموعة، ولا خطر يأتي منه، لأنه مصدر الثراء الأول والدافع الرئيس إلى الحلم الوحدوي الكبير إذا ما وجد مَن يعترف به – كما هو- ويستثمر استثمارا حسنا عقلانيا في تعايشه وتآلفه وتعاونه وتكامله من أجل بناء نسيج متحضر قائم على المحبة والاحترام والعدل والحياة الكريمة للجميع.
بعد هذا التقديم المدخلي؛ لنا أن نتساءل:
إذا كانت الاختلافات – المشار إليها – لا تمثل مرضا في الأمة ولا تشكّل خطرا على مستقبلها، فما هي الأمراض الجسيمة التي أدت بنا إلى ما نعيشه يوميا من تفكّك وترهّل وصدامات مُميتة وتبعية دائمة للآخر وتخلّف مستمر ؟
بحسب معايشتي بوعي متطور للأحداث طوال نصف قرن من الزمان، وبناء على قراءاتي الواسعة عن قضايانا وجولاتي الكثيرة في بلاد العرب وتواصلاتي بعناصر حاملة لرؤى غير متجانسة من معظم مكوناتها، إضافة إلى تجربتي الشخصية المتواضعة في هذه الحياة المعقدة؛ يبدو لي أن الأمراض الخطيرة التي تهدد الأمة وستقضي – إن لم تُعالجْ – نهائيا على حلمها الوحدوي وحتى على بعض كياناتها ذات الهشاشة الواضحة وعلى معظم قيمها الصانعة لخصوصيتها التاريخية الحضارية، هي في خطوطها الشاملة العريضة ما يلي : –
أولا: – سطحية النخب وانعدام مصداقيتها بين الناس :
معظم نخبنا العربية، بمختلف تقسيماتها السياسية والعلمية والثقافية والدينية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والتربوية والإدارية والرياضية وغير ذلك مما هو متواجد في مختلف قطاعات نشاطات الدول العربية وشعوبها، لا يُطلق عليها توصيف “النخبة” إلا من باب المجاز المؤسس على الوهم والبعيد بُعدا رهيبا عن الحقيقة المثبتة بممارستها في الواقع. فالكفاءة مهتزة قليلا أو كثيرا إن لم تكن منعدمة تماما، والرؤى لا تتجاوز الجزيء الضئيل مما يراه البصر المجرد دون البصيرة، والغاية لا تتعدى المصلحة الخاصة وفي أحسن الأحوال يضاف إليها بعض مصلحة العصبة أو العشيرة، والآفات الأخلاقية كالكذب والتحايل والتزوير والطغيان والغش والشره والخداع والابتزاز وتمييع ما لا يقبل التمييع وتأجيل الضرورات وما يجري مجراها من مصائب هي وسائل التواصل وتقنيات التعامل … وهذه السطحية المصحوبة بالنزعة الهوائية المخالفة للشرائع والقوانين والأعراف والتقاليد، والمرفقة بكل المثالب الفاتكة بتطور المجتمعات وتماسك بنياتها الأساسية أدّتْ إلى زوال مصداقية المسؤول والعالم والمثقف وكل شخص ذي وزن مادي أو معنوي، وهكذا فقدت الفئات والمجتمعات والأمة مختلف الرمزيات المؤطرة لسَيْر الحياة وأصبحت تضرب خبط عشواء دون سداد ولا رشاد ولا دليل ينير السبيل.
ثانيا: – انفعالية العامة وسقوطها في النفاق الاجتماعي:
بعد أن دمّرتْ النخب – بخاصة الفاعلة منها في صناعة القرار أو التأثير فيه – جلّ ما هو جميل وجليل من القيم العربية الإنسانية المؤسسة لوجود فكرة الأمّة كالاحترام والمودة والتسامح والتعايش والتعاون والتكافل والمسالمة والاحتكام إلى النص والعرف والمصلحة العامة وما إلى ذلك من تمظهرات رابطة بين أفراد الجماعة الواحدة كما هي رابطة بين الجماعات والمذاهب والطوائف والجهات والدول والأقاليم المتباعدة، وبعد أن فقدت العامة من الناس معظم رمزياتها المرافقة لمساراتها في الحياة كما تمت الإشارة إليه قبل حين؛ لقد تزعزع وتزلزل الواقع المجتمعي بعنف شديد فضاعت منه تجارب تراكمه التاريخي – بما فيها من قيم عظيمة – ولم يجد أمامه إلا الانخراط في هوائية الأنظمة التي حَكَمَتْه بقوة الحديد والنار والمراوغات المتعددة المتلونة بألوان تبدو للمغفّل قبل أن يسترجع عقله أنها قمّة ما وصل إليه الإنسان من رقيّ وازدهار وكرامة … هكذا صنعت النخب صاحبة القرار جماعات بشرية مغفلة، وبعد مرور الحقب الزمنية وظهور النقد المحتشم وبعض المعارضة المضطربة التي تمتص الغضب أكثر مما تقدم البدائل الممكنة الواقعية والقابلة للتطبيق بالوسائل السلمية المتاحة؛ لقد تفشّى النفاق الاجتماعي بين غالبية الأفراد والفئات والمجتمعات حتى أصبحت لا ونعم تعنيان إجابة واحدة وأصبح الخير والشر لهما مدلول واحد، وضمن هذه العاصفة الرملية المرعبة لقد راجت العداوات والعنصريات والمؤامرات والصراعات بين مختلف مكونات الأمة إلى درجة أن يقتل الأخ أخاه ببرودة ما بعدها برودة من أجل أمر تافه من توافه الحياة.
ثالثا: – انعدام إمكانات العيش مستقبلا في أمان وكرامة :
الأمة – بكل مكوناتها في المشارق والمغارب، ومن الشمال إلى الجنوب – تعيش في غالبها على ريع البترول أو الغاز أو الخامات المعدنية الباطنية أو الكابريهات وسياحة الجنس أو تجارة المخدّرات والممنوعات والخردوات والمهربات خارج القانون أو الرشوة والصفقات المزورة وغير ذلك مما يدخل ضمن هذا التوجّه المعتمد على ما هو زائل عاجلا أو آجلا. وبالإضافة إليه؛ لقد فقدتْ معظم معالم خصوصيتها الحضارية التاريخية في الفنون والتعلّم والمعمار والنشاطات التقليدية القادمة من جذور التراث والمرتبطة بعمق الهوية. وفي المقابل؛ أصبحت لا تأكل حتى تشبع ممّا تنتج فلاحتها، ولا تلبس من غير أن يتعرى معظمها مما تنسج أياديها أو معاملها، ولا تركب ما تصنعه مُرَكّباتها من ألفه إلى يائه، ولا تسكن في معمارها الأصيل الذي يتماشى مع نفسيتها وثقافتها … ومن جراء هذا وغيره لقد تسرّب إلى تلافيف أرواح أبنائها وبناتها قلقٌ وجودي متخوّف تخوفا شديدا ممّا سيأتي به مستقبل الزمان. فبعضهم هاجر إلى أوربا وأمريكا واستراليا فرارا من هذا القلق، وبعضهم استثمر في تعليم ذريته تعلّما عاليا متخصّصا من باب عسى ولعلّ؛ والكثير منهم صبر وصابر بروح دينية عالية أو أنه لم يجد غير الصبر والمصابرة، والقليل منهم طرق باب المسؤوليات باحثا عن المسؤولية أو متقربا من أهلها من أجل المشاركة في الحصول على أكبر نسبة ممكنة من الريع المؤقت، بطرق شرعية وغير شرعية، ضمانا للمستقبل المخيف. وكانت نتيجة هذا الفعل أن تجمّعت الأموال عند هذه القلة القليلة وتفشى العوز أو الفقر المدقع أحيانا عند أكثرية غيرهم، وهنا ظهرت الاحتجاجات والاضطرابات التي لم تقل كلمتها الختامية بعد، والتي يُحتمَل أن تأتي كلمتها على ما تبقى من الاستقرار إذا لم يُعالج وضعها في أقرب وقت ممكن بالعودة إلى إنتاج الثروة الدائمة محليا وعلى أساس العدل والمحافظة على كرامة الجميع.