السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / الأدب المنتفض / قصة موسم زيتوننا… ونار مستوطنين!

قصة موسم زيتوننا… ونار مستوطنين!

بقلم المدرسة افتخار عبد الله (غزة)

لا شك في أن فرحتنا بقدوم موسم الزيتون لزيارة قريتنا كانت كبيرة، ولكن فرحة عائلتي بصورة خاصة كانت أكبر، فهو الموسم الوحيد الذي يبعث أمله فينا.

ولعل مبعث فرحتنا لم تكن بيع ثمار قطفتها، وقبضت ثمنها مبلغاً من النقود، فقد خيل إلينا أن موسم الزيتون بزيارته قد بعث فينا حكايات أجدادنا الراقدة في مقابر الماضي، الذي يستوحي صورة موسم الزيتون الأخضر المعبق برائحة الأرض من أعماق ذاكرة التراث الفلسطيني…
لقد قدم موسم الزيتون يوماً،… إذ كانت عائلتي قد أعدت بعض أدوات قطف الزيتون والفراش تحت جذع الزيتونة الأم، بقصد تجهيزه قبل أن تقطفه وتلقي به على الأرض، إيذاناً بانطلاق الموسم، فهذا دأبها ودأب كل قرية في كل موسم.
ومع أن عائلتي تؤكد أن وضع الفراش لم يكن يشكل عقبة في طريق انطلاقها إلا أنها انطلقت، فما أمسى المساء إلا ولاحظت عائلتي انتهاءها من قطف الزيتونة الأم فهرولنا نجمع قطافها… عن الفراش فلم يتبق شيئ، فقد مرت ساعتان على ارتداء الشمس ثوب الغروب، وذرعت الأغصان أصداء متكررة، والواقع أن أصوات الخفافيش لا تتوقف حتى في وجودنا.
لم تكن ثمة عقبة تمنعنا من مواصلة عملنا، ولقد فرحت عائلتي كثيراً بالخير الوفير، وتخللت فرحتها ذكريات يوم سريعة أضحكتها ففرحنا كثيراً، ولكن فرحتنا لم تؤخرنا عن صلاة ركعتين شكراً لله.
قلت: إن ذلك كان قبل سنوات، وقد كدنا ننسى الموسم إلا حين نتناول طعامنا الغني بزيت بلادي الأخضر، وكان آخر شيء نتوقعه أن نجبر على تناسي طعم الذكريات الجميلة بحقلنا الواقع على مشارف القرية المطلة على إحدى معسكرات العدو، فنجد الموسم راحلاً أمام أعيننا وقد ترك بقع زيته الحزينة داخل أجسامنا، فانفعلنا ولكن أبي لم يبك ؛ بل راح يغرس أشتال الزيتون لتبعث فينا الأمل عندما تبزغ بأوراقها الأولى، ويقلم الأغصان المكسورة، ويجبر العروق برقعة تعيد لها رونقها وصفاءها، فصحنا دهشين وما صدقنا أعيننا، وانطلقنا نركض خلف بعضنا معبرين عن فرحتنا الجديدة حتى تعبنا فتوقفنا وما تزال البهجة ترتسم على وجنتينا إذ انساب الفرح أعماقنا واختلج صدورنا بعدما عادت الحياة لموسمنا، وكيف سيزورنا الموسم قريباً…

لقد أذيع في النشرة الإخبارية أن جحافل من قطعان المستوطنين قد اجتاحوا حقل الزيتون الواقع على مشارف تلك القرية ذات ليل، ولما طوقوا أشجاره، لاحظوا _ بمقدار ما سمحت لهم مصابيح اليد _ أن ثمة أشجاراً تدلت عناقيد أغصانها بلونين أخضر وأسود، وكادت أغصانها تتوشح بوشاح أسود منقط بحبات خضراء.
وقد وقفوا أمام المنظر الخلاب يتضورون حقداً وحيرة خائفين مترددين ثم لم يتحرجوا آخر الأمر من اغتيال اللونين الأسود والأخضر، فعاثوا تنكيلاً وتدميراً، شاعرين بأن الأمر لا يخلو من همجية وعنجهية، ولقد ترقبوا فرصتهم طوال هذه المدة، ولكنهم عزموا مؤخراً على أن يقترفوا بشاعة إثمهم، وأن يجعلوا جريمتهم دليلاً مقروناً بخيوط أفكارهم العنكبوتية التي سرعان ما ستنقطع… فلما همّوا باقتراف جريمتهم المعتادة اختاروا هذا الحقل لاستئصال عناقيد وتقطيع أغصانه، إلا أنهم حين اندفعوا وشرعوا في التنكيل والتدمير، أحسّوا كأن نار ? الحقد تحصد بقايا رحمة حصاد الهشيم، كيف يبدؤون حقداً دفيناً في وطن بديل (مستعار)؟!
وهكذا أشعلوا نار الجريمة الحاقدة مختارين حقل عائلتي البهي راجين من فعلتهم تحقيق وهم وطن بديل في أرض تعشق المستحيل وتبتلع الدخيل!
ذلك كان مضمون اقتراف الجريمة، ولقد كانت فرحتنا ببراعم مبشرة في حقلنا تفوق حزننا على اغتيال بهائها، أما عائلتي فقد انفعلت كعادتها، وأما أبي فإنه لم يقل شيئاً بل حدق النظر في الزيتونة الأم وراح يروي حكاية جدي لها، ثم مسح أغصانها وفروعها برفق، وأخذ بالفأس يحفر خندقاً حولها ويرويها بماء الحب.
أجل لقد غدا أبي متفائلاً صابراً محتسباً الأجر والثواب عند الله تعالى…