هجرة الأدمغة.. ورواية أدب رحلاتها (نموذج لبناني)
2017-02-14
قضايا مجتمع ومناسبات, مقابلات وتحقيقات
597 زيارة
تحقيق د. أنور الموسى
شباب مغتربون يسردون “أدب” رحلاتهم المرير
“سعيد.خ.” مهندس لبناني طرد مؤخرا من عمله بالخليج “لأسباب غير مفهومة”. عمل هناك ما يزيد على خمس سنوات في شركة هندسية استغنت مؤخرا عن خدماته، مفضلة استقدام مهندسين أجانب بمعاشات مضاعفة، يقول سعيد: “كان خبر التهجير مصيبة؛ لأنني أعيل أسرة مكونة من ثمانية أفراد. الترحيل دمر حياتي وآمالي، وأعادني إلى نقطة الصفر”.
سعيد واحد من آلاف الشباب اللبنانيين المنتشرين في أصقاع الأرض، ويشعر بعضهم بحياة غير مستقرة نتيجة التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة والعالم، وكأني بهؤلاء “المغتربين”، لا تكفيهم آلام الحنين والغربة…لتضاف إلى سيرتهم ضروب الطرد التعسفي والإهمال.
ومع ذلك، فإن حلم السفر لا يزال “بوصلة” تتجه نحوها خيارات الشباب، هربا من الأزمات المعيشية المتراكمة… وهكذا؛ أضحى معظم الشباب ضمن ثلاث فئات: مغتربين عن وطنهم، أو في وطنهم، وفئة تتأرجح بين مطرقة المكوث في البلد، وسندان السفر، حتى لو من طريق السماسرة أو الدجالين.
هاجس السفر
علاء.م.(23عاما) سدت في وجهه سبل السفر للخليج. استدان ذووه نحو ثمانية آلاف دولار: “لم أرَ أوروبا إلا في الأحلام؛ لأن السمسار خدعنا، فأوصلنا فقط إلى تركيا. سأحاول الكرة مرة ثانية بعد خسارتي نحو 5آلاف، وسأحبك السيناريو جيدا”.
قصة علاء تتكرر مع شبان لبنانيين وفلسطينيين وسوريين نزحوا مؤخرا إلى لبنان. يقول معين.غ. (سوري،20عاما): “أراسل سفيرا أوروبيا منذ مدة، وأشكو له وضع أسرتي، لعله يساعدنا في مغادرة لبنان… وأدعو الدول الخليجية إلى استقبالنا”.
فكرة السفر إلى الخليج أو اللجوء السياسي إلى الغرب، تراود آلاف الشباب: “فمجرد دخولك أوروبا تحصل على لجوء إن كنت هاربا من معارك سوريا”، يقول عامر.ش.(24عاما)، ويوافقه الرأي عباس.ح. ساردا قصص شبان لبنانيين وعرب، حصلوا على لجوء سياسي في دول أجنبية، لمجرد إقناعهم المسؤولين بأنهم من سوريا: “المطلوب من الشاب أن يمزق جواز سفره، ويحضّر سيناريو يقنع به الشرطة بأنه فرّ من المعارك أو مطارد”..متمنيا أن تساهم الدول الخليجية والعربية بحل الأزمة..
الواقع أن المهاجرين يتعرضون إلى مخاطر جمة؛ ليس أقلها تعريض حياتهم للخطر، وتضييق سبل اللجوء، يقول هشام صابر: “أعرف شابا ضبط هاربا فأعيد مهانا؛ فتعرض لتعذيب جسدي ونفسي مبرح في غير دولة، واتهم بالتعامل مع العدو والتفكير بعمليات إرهابية…”
مستنقع الغربة
المهاجرون اللبنانيون عرضة لتجاذبات سياسية. يقول عادل.ك.(يعمل بدولة خليجية): “حياتنا غدت قلقة، فتصريحات بعض السياسيين بحق هذه الدولة أو تلك، تدفعنا إلى التوتر، فنضع أيدينا على قلوبنا، خوفا من أن تتخذ الدولة التي نعمل بها إجراءات انتقامية بحقنا”، ويروي قصصا لزملاء له صرفوا لأسباب غير مقنعة… متسائلا: “لِمَ تنخدع دول خليجية بأفخاخ سياسيينا؟ فنحن هربنا من سياستهم التي جوعتنا، وبالتالي، من مصلحة السياسي أن نعود إلى خيمته لنذل!”
علي الجابر يؤكد أن آلام الغربية والحنين، انضاف إليها فيروس القلق من الطرد التعسفي. يسرد قصة زميل له ذهب لزيارة أهله بلبنان، ليتفاجأ عند نيته العودة، أن الشركة بالخليج تخلت عنه”.
وهكذا، أضحى المهاجر اللبناني تحت المجهر، قد يتخلى عنه الكفيل “لأتفه الأسباب”. يقول محمد.ع.: “نشعر أنفسنا في بعض الدول بأننا مراقبون”… ويوافقه الرأي علي.ق. موضحا: “القضية تعدت ذلك لتطال الأسماء المتشابهة. فصديقي دمر مستقبله؛ لأن اسمه شبيه باسم سياسي مطلوب…”
…وللشاب اللبناني مع الهجرة والاغتراب روايات وحكايا لا تحصى… وهنا تلقي هناء سعيد اللوم على الشاب الذي لا يبحث عن عمل ولو بسيط في وطنه، ليترك المجال لعمال أجانب، واللافت أنه في الغربة قد يعمل بأي عمل…
بدوره، يدحض نديم.م. ادعاءات زملائه، مؤكدا أن الطرد من الشركات ببعض الدول الخليجية، ليس سياسة موجهة ضد اللبناني، إنما هو أمر منوط بالشركات الخاصة، والدليل استمرار دول الخليج باستقبال الشباب اللبناني.
جواز الزواج
شباب كثر يفضلون السفر “القانوني”، خشية الخيبة وأفخاخ السماسرة، يقول إبراهيم الصالح: “سافرت عبر دعوة لزيارة وجهها خالي، وهناك حصلت على فرصة عمل لائقة”.
وهناك فرص أخرى يقتنصها الشاب للهجرة الشرعية؛ عبر طلب الهجرة، وموافقة على “تيكت” سياحي، والفرار لدى المشاركة في ألعاب رياضية، وفيزا التعلم، أو موافقة على عمل…ويذكر الشاب مدحت الأفندي فرصة مستحدثة: التعرف إلى أجنبية عبر الإنترنت، والزواج منها حقيقة أو على الورق، تيسيرا للسفر، أو الدفع لأجنبية… لتنفذ السيناريو”.
يسرد كمال مشرف حكايا زملاء له تعرفوا إلى أجنبيات أو عربيات يحملن جنسية أجنبية: “عند زيارتهن لأقاربهن بلبنان، يتقدم لهن عشرات الشباب… بدافع السفر، بعض الزواج ينجح، وبعضه الآخر يخفق، وأعرف شابا ترك زوجته وتزوج بأجنبية بدافع السفر”.
والواقع أن هناك أهالي كثرا يزوجون بناتهم لمسافرين من دون سؤالهم عن العمل، يعلق نادر السعد: “أراها مشكلة القيم… فمجرد كون الشاب مسافرا، يصبح عند بعض الأسر محط إغراء وإعجاب… ليتبين لاحقا أن عمله قد يكون غير قانوني، أو أخلاقه ذميمة!”
...والمتخرجون
يتخرج من الكليات عدد هائل في شتى الاختصاصات. وهنا، يقع الشاب عادة بإحباط نتيجة ضيق السوق وقلة آفاق المستقبل، فتهفو عينه للسفر: “هناك تجد عملا بمعاش مغر، فالمعاشات، إن وجدت، متدنية جدا بلبنان”؛ يقول الخريج حسين عياد متذمرا، ويؤازره في الموقف شقيقه عدنان: “تنعدم الدافعية لدى الشاب… فيلجأ الى الخيال والسفر. مخرجي الوحيد بعد التخرج السفر. أفضل الدولة الأجنبية لا العربية كي لا أتعرض لردات فعل سياسية…”
روي جرجس يلوم الطالب نفسه: “المفروض قراءة العرض والطلب، فالمزاحمة الأجنبية والعربية في سوق العمل، ستفاقم المشكلة بالمستقبل، وستزداد طلبات هجرة اللبنانيين”… يعارضه الرأي كمال أيوب: “من الإجحاف إلقاء المسؤولية دوما على الآخر، فالمشكلة تتحملها الدولة، وهي متجذرة عندنا قبل الأزمة السورية”.
مغترب متروك
مايا.ش. تصب جام غضبها على المسؤولين في الخارج الذين لا يتابعون شؤون الجالية كما يجب: “إلى من سيشكو المصروف تعسفا…؟ لِمَ لا تحميه الدولة؟ وأين مبدأ المعاملة بالمثل؟”
قصي عبود يسرد قصصا لمعارف له تتعرض منازلهم للتفتيش في دول أجنبية وعربية: “هناك مذهب… مغضوب عليه، فمجرد الشك بك من خلال نشاط سياسي أو ديني، تصبح محط أنظار المخابرات…”
الكلام السابق ينفيه جمال.ز.، لافتا الى أن تلك الادعاءات خطيرة، فأعمال التفتيش لا تقتصر على اللبناني، مؤكدا ضرورا الالتزام بالأنظمة المرعية: “أقيم هنا منذ 12عاما، ولم يعترضني أحد”.
عدنان قصاب شعر بالملل من السفر: “أفضل السفر للدول العربية، فالأجانب عاداتهم تختلف عن عاداتنا..لا أرغب بتربية أولادي وبناتي هناك؛ لأني أعشق القيم الشرقية والترابط الأسري والزراعة ببلدي”…لافتا الى أنه يزور بلده سنويا:”لكن في كل مرة يخيب أملي”!
وعند صابر العلي البعد من الوطن يكوي صاحبه: “والدي توفي وأنا مسافر، موقف موقف مؤلم! كنت أتمنى أن أحضنه”.
ولدى جاكلين الهجرة قد تغير الإنسان رأسا على عقب؛ وهذا خاضع للتربية… لكن بالإجمال، تقاليد البلدان الأجنبية مختلفة… واللافت فيها انتشار النظام.. لكن قيمهم الإنسانية، لا نراعيها في بلادنا”.
ويدحض غالب حمود ما يتخيله الشباب من “فردوس” في أثناء السفر: “كنا نخال الخليح وأوروبا نعيما وتجميع أموال. الواقع صدمنا؛ فمن يكد يحيا حياة ميسورة، فيما ينحرف آخرون يرغبون بجني المال من طرق غير مشروعة، بعضهم يصل الى مبتغاه… ولكن، ما ثمن ذلك؟!”
(تحقيق نشر في جريدة السفير، بتصرف)