«حرير مريم» تذكر بالإنسان الفلسطيني التائه العالق بين برزخين
2017-02-13
ابحاث ودراسات عليا, الأدب المنتفض, قراءة في كتاب
737 زيارة
بقلم الأستاذ إسكندر حبش
مداخلة إسكندر حبش حول رواية (حرير مريم )
في مركز الحركة الثقافية بصور
نص مداخلة الأديب والناقد الإعلامي اسكندر حبش ، خلال الندوة التي أقيمت في مركز الحركة الثقافية في صور حول رواية (حرير مريم) للكاتبة وداد طه :
يٌشكل اسم “مريم” – وبعيدا عمّا يحمل، للوهلة الأولى، من دلالات وإشارات تُحيل إلى الرمز الديني – نوعا من ثيمة روائية نجدها حاضرة في عدد كبير من الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة الماضية. بالتأكيد، ليس الاسم هنا، نوعا من تزيين بلاغي أو لغوي، بل علينا – ومهما كان من أمر – ألاّ ننزعه، من سياقه المعرفي والتاريخي، لذا نجدنا، وحين يطالعنا أي عنوان يحمل في طياته هذا الاسم، نسير رأسا إلى تأويل مسبق محدد بشرطنا المعرفي، وبالتأكيد بشرطنا “الديني”.
لا تزال شخصية السيدة مريم، تملك ذلك الحضور الوافر، الذي يأخذنا معه برحلة في الزمان والمكان، ليصبح بذلك صورة أبدية عن المرأة “المقدسة” التي لا يمكن تجاهلها أو تخطيها، فهي قد تكون المرأة الوحيدة المتفق عليها (إذا جاز القول) في الكتب المقدسة، في الأناجيل كما في القرآن الكريم. فهي مريم العذراء والدة المسيح، وهي مريم بنت عمران والدة النبي عيسى، وقد اتفق الكتابان على انه لم يمسسها رجل، وقد أنجبت بلا دنس. لهذا فإن أي ذكر لاسم مريم في أي عمل أدبي، لا بدّ أن يقودنا إليها مباشرة، وأن يجعلها الإطار العام الذي لا بدّ أن يحيط بقراءتنا، مع العلم أن ثمة “مريميات” أخريات، لكنهن مغيبات، أقصد أن هناك ست مريميات ذكرن في الكتاب المقدس (بالإضافة إلى العذراء مريم) وهنّ: مريم أخت موسى وهرون، مريم المجدلية، مريم أخت لعازر، مريم أم مرقس، مريم التي تعبت من الخدمة، مريم زوجة كلوبا، لكنهن لا يحضرن لا في الذاكرة، ولا في هذا السياق الأدبي الذي يميل إليه الكتّاب: شعرا أو نثرا. هل لأن الأدب هو في النهاية فن كتابة الوجع. أقول ذلك وفي بالي المعنى القديم لاسم مريم، إذ مثلما يقال إن معناه الآتي من العبرية القديمة، هو “المرارة”.
هي المرارة إذاً، أو لنقل هو الوجع الذي تقودنا إليه الكاتبة وداد طه في روايتها الثالثة “حرير مريم” الصادرة مؤخرا عن “دار الفارابي” في بيروت. هو الوجع الفلسطيني، والتيه الطويل، عبر سير متشابكة لأشخاص، تتقاطع حيواتهم، ليشكلوا لنا لوحة ما عن هذه المرارة التي لا يزال الشعب الفلسطيني يعيشها ويتنفسها لغاية اليوم. وجع يمرّ إلى هذه اللحظة الراهنة بأربع مراحل، وفق تقسيم الكاتبة في روايتها حسب فصول الكتاب: المرحلة الأولى “هناك” والتي تتحدث عن نكبة العام 1948، وعمّا حلّ بالشعب الفلسطيني من قتل وتهجير، لتختار عائلة يقودها القدر إلى لبنان، لتعيش في إحدى المخيمات “هنا”، وهو عنوان الفصل الثاني الذي يصور بعض تفاصيل حصار مخيم “تل الزعتر” خلال الحرب في لبنان التي بدأت العام 1975، وما آل إليه مصير بعض الفلسطينيين في تلك المرحلة، بينما نجد في الفصل الثالث “الآن” صورة عن هجرة أخرى، هجرة البعض إلى أوروبا وما يعانون منه، وعدم اندماجهم في المجتمع الجديد، وبخاصة حين يكون المرء حاملا هوية وجرحا عميقا لن يندمل. بينما يبدو الفصل الرابع “الآتي” وكأنه رحلة لعودة ما، وإن كانت بعد رحلة غير مستوفية الشروط، بل هي خيار ما، خيار شخصي وفردي بالدرجة الأولى.
يمكن القول إن ثمة مريمات متعددات في رواية “حرير مريم”. صحيح انهن لا يحملن الاسم عينه، لكنهن يشكلن صورة واحدة في نهاية المطاف، تجعلهن يجتمعن في إطار واحد: لمى التي كانت ترغب في الزواج من بيير، تتعرف إلى الخياطة مريم، إذ كانت تريد تصليح فستان عرس والدتها، لترتديه يوم زفافها لتشعر بأن أمها لا تزال حاضرة بالجسد، بيد أن القدر لم يرأف بحلمها، ليموت بيير في انفجار قبل لحظات من عقد القران. مريم التي تعطي اسمها للرواية، هي الشخصية المحورية التي تنسج قصص الآخرين وتخطيها، لتقدم مشروعية الكلام الروائي، فعبر مريم هناك ماجدة، التي علّمت مريم أصول المهنة (الخياطة)، مثلما نجد في المقلب الآخر، الأوروبي، شخصيتي كاترين صديقة أحمد التي يساكنها لسنوات، قبل أن يقع في غرام روز ماري ليتزوجها، وليكتشف فيما بعد، أنها لم تكن سوى شقيقته التي تاهت ذات يوم في رحلة المخيم، لتصل إلى ألمانيا، حيث تبنتها هناك عائلة.
وجوه النساء حاضرة، بقوة في هذه الرواية، من هنا، تبدو الوجوه الذكرية، وكأنها تدخل في لعبة مرايا مع مثيلاتها النسائية، أقصد وجود النساء الحاضرات. المرأة هنا، ليست سوى الشرط الوجودي الذي تنعقد حوله هذه الحياة المتشعبة كي تعكس، في نهاية الأمر، صورة الرجل، أي أنه لا يكتشف – أقصد الرجل، حقيقته وهويته – إلا عبر هذه اللعبة من الانعكاسات، فيما لو سلمنا جدلا بأن لعبة المرايا هي جزء أساسي من السرد. كل السرد الروائي في رواية وداد طه، يقوم على لعبة هذا المجاز، على لعبة هذه الاستعارة، التي تقترح علينا شطرا من شطور الموت الفلسطيني المتواصل، من الأمس، إلى الغد، أو إلى “الآتي”، وفق عنوان الفصل الأخير الذي تقترحه الكاتبة علينا.
الموت يغمر كل شيء. هذا صحيح. لكن يأتي الفصل الأخير وكأنه يبشر بأمل ما، تريده الكاتبة. أمل العودة إلى الأرض الأصلية. لكن هذه العودة مشروطة، وفق رؤيتي للأمر، وربما هنا يكمن خلافي مع الروائية في طرحها هذا، فيما لو اعتبرنا أن العودة إلى الأرض المحتلة تحتاج اليوم إلى جنسية أخرى، أقصد إلى جواز سفر أجنبي: ففي هذا الفصل الأخير يلتقي، في القدس، كلّ من الطبيب يحيى (من عكا، الذي يحمل جواز سفر أميركي) ولمى العائدة من بيروت التي صارت تحمل جواز سفر فرنسيا. صحيح أن الكلام بينهما يقودنا إلى مواقف “متشنجة” بعض الشيء بين الشخصيتين، وبخاصة حين نشعر بتلك المقارنة ما بين الذين بقوا في الأرض المحتلة العام 1948 وبين الذين غادروها، إلا أنهما يقعان معا – برأيي – في حيّز الشرط التاريخي المفروض عليهما وعلينا، أي هذه العودة والتحرك ضمن أراضيهما، لا تأتي بهذه الحرية “المشروطة” إلا بكونهما يحملان جواز سفر آخر، هوية أخرى غير هويتهما الحقيقية.
لا أريد الربط هنا، بين هذا الأمر وبين ما جرى مثلا من اتفاقات، بمعنى إحالة الرواية إلى شرط سياسي بحت، وبخاصة أن إحدى السمات الجيدة للرواية يكمن في عدم وقوعها بمطب كبير وقع فيه قسم كبير من الأدب الفلسطيني، وهو المطب السياسي البحت.
رواية تعيد تصويب بعض البوصلات عن راهنية الهجرة الفلسطينية، بالأحرى رواية تعيد تذكيرنا بهذا الإنسان الفلسطيني التائه، العالق بين برزخين، لا يجد في أي منهما مكان لممارسة إنسانيته إلا بالموت.