العيب فينا!
2017-01-04
قضايا مجتمع ومناسبات
545 زيارة
بقلم الأستاذ أحمد الحسين
نعيبُ زماننا والعيبُ فينا/ وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ/ ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا
وليس الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ/ ويأكلُ بعضُنا بعضًا عيانا
كلماتٌ من ذهبٍ تُكتبُ في صحائفَ من نور، قالها الإمامُ الشافعيّ-رحمه الله-منذ عشرات السنين، لكنها تعبّر عن زماننا وواقعنا الحاضر المأزوم، وكأنَّ الإمام الشافعيّ يعيش بين ظهرانينا ويرى ما وصلت إليه حالُنا، وما نحن فيه من تراجع على كلِّ المستويات.
إنَّ كيلَ الإتهامات للزمان والظروف أمرٌ قديمٌ جديد، يحاولُ الإنسانُ من خلاله التّنصّلَ من مسؤولياته ومما تقترفه يداه بحقِّ أخيه الإنسان مُظهرًا نفسه وكأنه معصومٌ عن الخطأ،بينما هو غارقٌ في خطاياه من رأسه حتى أخمص قدميه.
لقد تحوَّلت مجتمعاتُنا اليوم إلى ما يشبه الغابة،القويُّ يقهرُ الضعيف، والكبيرُ يدوسُ على الصغير، والحاكمُ يجورُ على المحكوم،تفشَّت فينا الرذائل،وتساقطت عنّا الفضائل،وبتنا ننعقُ وراءَ كلِّ ناعق،نلهثُ وراءَ أفكارٍ لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع،وتركْنا خلفَ أظهرِنا ما جاء به دينُنا الحنيفُ من قيم حضارية شهد لها البعيدُ قبلَ القريب،والعدوُّ قبلَ الصديق، ما عاد الأخُ يحبُّ أخاه،ولا الجارُ يحترمُ جارَه،ولا الصديقُ يفي لصديقه،ولا الحبيبُ يُخلصُ لحبيبه،،تفشَّت فينا القيمُ الماديَّة،ورحنا نلهثُ،مسعورين،وراء المكاسب والمصالح والمنافع الدنيويّة على حساب القيم والأخلاق والمبادئ،أعمت بصائرَنا الأحقاد،وملأت قلوبَنا الضَّغائن،ورحنا ننهشُ لحومَ بعضنا البعض كالكلاب المسعورة،قَسَتْ قلوبُنا وخَلَت من الرحمة،فهي(كالحجارة أو أشدّ قسوة).حياتُنا زاخرةٌ بالغشِّ والخداع والزَّيف،أصبح الدينُ ستارًا،عند البعض،يستترون به ليُشبعوا غرائزَهم ونزواتِهم وجريهم وراءَ المناصب والمراتب والأموال،أمّا إذا أردتَ الحديثَ عن أُسرِنا،فحدِّثْ ولا حرج،أصبح التّفككُ الأسريُّ سيِّدَ الموقف،فخلفَ كلِّ باب قصة،ووراء كلِّ ستار حكاية،يدمى لها القلب،ويندى لها الجبين،وتدمعُ لها العين،ويغصُّ لها الحلق،عناوينُها مفجعة ومؤلمة،الخلافات الزوجية،الخيانة،الطلاق، عقوق الوالدين، تراخي السلطة الأبوية، التّباغض والتَّحاسد بين الإخوة…والقائمة تطول،فتطولُ معها الآهاتُ والتّنهّدات. وإذا أردتَ الحديثَ عن الجيرة،فالمأساةُ تًطلُّ برأسها عليك،مع أنّ دينَنا الحنيف أوصانا بالجار،يقول سيّدُ الخلق والمرسلين صلواتُ ربّي وسلامُه عليه:(ما زالَ جبريلُ يوصيني بالجار حتّى ظننتُ أنّه سيورِّثه).فأين نحن من هذا الهديّ النّبويّ؟!
لقد أصبح الجيرانُ في زماننا كالأعداء في ساحات الوغى،كلُّ واحد “يتمترس” في خندقه ويدُه على الزِّناد،وأسنانُه تعضُّ على لسانه،يطلقُ نيرانَ حقده وكرهه وطمعه على جاره صباحَ مساء.
إنّ الأمورَ تتفاقمُ وتفوقُ حدَّ التّصوّر،فبعضُ الجيران يلجأون إلى المحاكم،والبعضُ الآخر يحتكمون إلى السلاح؟!وكم من جارٍ قُتلَ على يد جاره،لا بل كم من أخٍ قُتلَ على يد أخيه؟!
وإذا أردتَ أن تتحدثَ عن (الصروح التّعليميّة)كالمدارس والمعاهد وما شاكلَ ذلك،فهناك الطّامةُ الكبرى،فقد تحوّلت هذه الصروح ُالتّعليميّة إلى ما يشبه الزّرائبَ والحظائرَ والأصلاحيات وعصابات المافيا،فمن مناهج َتغريبيّة أُسقطت علينا من نفايات الغرب الفكرية،إلى فسادٍ إداريّ مُستشرٍ،إلى انتشارٍ للمحسوبيات والواسطات والرِّشوة،إلى تغليبٍ للنّفس التّجاريّ على حساب التربية والتعليم،أمّا بالنسبة للطّلاب،فالحالُ أبلغ ُمن المقال،تدنيّ مستويات التّحصيل الدّراسيّ،والتّسرّبُ المدرسيّ،وشيوعُ حالة الفوضى والتّسيّبُ بسبب التّرهّل الإداريّ وقلّة الضّمير عند المسؤولين،أمّا المعلّمُ فقد أصبح الحلقةَ الأضعف،تُركَ وحده في ساحات المواجهة،تنهالُ على رأسه المصائبُ من كلّ حدبٍ وصوب،تُركَ لمصيره يواجهُ التّحدّيات،فهوعالقٌ بين المطارق والسّندان،مطرقة الإدارة التي تمطرُه بالواجبات والمسؤوليّات والدّورات والمهمات المتعددة التي تحتاج إلى طائفة من الموظّفين،ومطرقة المجتمع الذي لا يُقدِّرُ،في كثير من الأحيان،جهدَ المعلم وتضحياتِه وجسامةَ المسؤوليّات الملقاة على عاتقه،ومطرقة الطلاب،حيث قلّةُ الإحترام،والتّطاولُ،والسّخريةُ والاستهزاء.
وإذا أردتَ أن تتحدّثَ عن الحكام،فهناك ثالثةُ الأثافي،فقد باع الحكّامُ شعوبَهم بثمن بخس،وأسلموهم لقمةً سائغةً لأعدائهم،وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ رخيصةً لأعداء هذه الأمة، وأن يكونوا أذنابًا للمستعمر.لقد ابتلانا الله بحكّام لا يستحيون من الله،ولا يخجلون من عباده،باعوا دينهم بدنيا غيرهم،أفقروا النّاسَ وجوّعوهم وصادروا لقمةَ عيشهم،كتموا أنفاسَهم،وكمّوا أفواهَهم،(قاتلَهم اللهُ أنّى يُؤفكون).
أمام هذا الواقع المؤسف المُحزن،يحقُّ لنا أن نتساءل،أين ذهبت قيمُنا الأخلاقيّةُ التي تربّينا عليها منذ الصّغر التي تظهرُ في الكثير من العناوين المشرقة الوضّاءة؟ التَّعاون،التّحابب، المناصرة، التّماسك الأُسريّ، العلاقات الطّيّبة الحميدة بين الجيران، احترام العلم والمعلّم، التّفوّق الدّراسيّ رغم الظروف القاسية،العدالة والمساواة، التّضحية والإيثار، إنّ هذه العناوين وغيرها تنمّ عن قيم عميقة تربّينا عليها وعشناها ونمت كالزّرع الطّيّب في أرواحنا وقلوبنا وأعماق وجداننا،كم نفتقدُها اليوم،وكم نحن بأمسّ الحاجة إليها في زماننا وأيّامنا،وكم نبكيها دمًا،ونتشوّقُ إلى عيشها من جديد ونجعلَها نهجَ حياة،وطريقةَ تفكيرٍ وعيش.
نحن في مركبٍ واحد،إن نجا نجونا جميعًا،وإن غرق، لا قدّر الله، غرقنا جميعًا،ولكن،وبالرغم من الصّورة القاتمة،إلاّ أنَّ بصيصًا من النّور يتلألأُ، فهذه الأمّةُ لا تخلو من خير،وفيها من يقبضون على الجمر كي تعودَ الأمورُ إلى سابق عهدها،وإنَّ ذلك حاصل،بإذن الله،ولكنَّ الطريقَ محفوفةٌ بالمخاطر والتّحديات، ولكننا سنصلُ إلى نهاية سعيدة،وليس ذلك على الله بعزيز.وصدقَ الشّاعرُ حيثَ قال:
أُعلّلُ النّفسَ بالآمالِ أرقبُها/ ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
الأستاذ أحمد لحسين