ناطق الضاد يرفض ترك رحم أمه!
2016-12-18
نقد وفلسفات
619 زيارة
جنين يرفض ترك رحم أمّه!
بقلم د. أنور عبد الحميد الموسى
(قُبيل صدمةِ ميلادِ ابْنِها، شَعَرَتْ أمُّ الجنين بآلامٍ مدوّية. هالَها الحدثُ. ابنها الجنينُ مُصِرٌّ على المكوثِ برحمِها. حَنَتْ رأسَها. اقترَبَتْ مِنْ “أَمَلِها” رويدًا رويدًا. عَلِمَتْ أنَّهُ استيقَظَ عَلَى كابوسٍ مرعبٍ غريبٍ).
الجنين: أنبأتني حياتي الفردوسيّةُ، والدماءُ في عروقَي، أنّ حياتَكُم لا تُطاقُ؛ تسودُها نفايات الطائفيةُ أولا، والكراهيّةُ ثانيًا، والتشرذُمُ والتّعَصُّبُ والفسادُ ثالثًا… و… رابعًا…
الأم: لا تَخَفْ، بُنَيّ، سأمنحك حياة رغدة، لا تَقِلُّ أمنا وسعادة عن قصرك السحريّ المقدّس الذي أغلّفك فيه.
الجنين: ومن أين تأتي بالأمن والاستقرار الغائبين عن وطنكم المظلم؟
الأم: سأحميك بقلبي وروحي؛ فلا تقلق أيّها الابن الموهوب المتألّق كنجمة حالمة.
الجنين: أماه! تحمينني في وطنكم الكئيب المريض؟!… ثم أين هي حقوق المرضى الطيبين الذين يموتون على أعتاب المستشفيات؟ ولِمَ تكثر الأخطاء الطبية بحق الفقير الذي يموت مقهورا نتيجة الإهمال؟
الأم: سأعالجك بأرق اللمسات، وأرقى النظرات… وأسهر على راحتك ليل نهار… فوطننا بلد السياحة الاستشفائية، والنهضة الأدبية… والأخلاقية!
الجنين: لكن، أماه، داء الطائفية متفشّ فيكم من أعلى رؤوسكم حتى أخمص القدمين، ولا أمل من الفكاك من عدواه. فوطنكم موبوء، ووطني نعيم على نعيم… وأقطن في “جنات النعيم”!
الأم: سأبني لك منزلا في غابات الأرز، تنهل منه محبة الأوطان. سَتُسْحَرُ بجمال آثارنا ومحمياتنا، وشاطئنا وجبالنا، وبقاعنا وجنوبنا، وعاصمتنا وأنهارنا.
الجنين: (متذمرا)… لكنها تُسْرَق وتنهبب كالمزارع… وتحولت من أملاك عامة، إلى منافع خاصة!
الأم: ستغلفك الغبطة والسعادة، حين تُفاجَأُ بوطن التعايش والمحبة والمساواة والتعاون… والألفة والإباء!
الجنين: لكن… في وطنكم، سَتُشَوَّشُ أفكاري، فلا أميز عدوي من صديقي، ولا حبيبي من غريمي… وسأضيع كما تضيع ثروات وطنكم وأمواله، وقبل ذلك مياهه.
الأم: ستتعلم وتخترع، وتبني وتنتصر، وتحبّ وتنتقد بحرية وديموقراطية، وتؤلف وتنشر… سأدخلك مدارسَ وجامعاتٍ، ونوادي ورحلات، ثم تتخرج مطمئنّ القلب والبال…
الجنين: ديونكم لن تطاق… فحين أصبح شابا، تتراكم عليّ مليارات الدولارات!
الأم: (تبلع ريقها): سأطعمك بملاعق الذهب، وألبسك الحرير والديباج والبلور.
الجنين: أين فرص العمل في وطنكم؟ ولِمَ يهاجر شبابُكم، وينتشرون في غياهب المهجر والاغتراب؟
الأم: (ملامح الإعياء بادية على محياها): بعد تخرجك، سأفرح بزواجك وأولادك… وسيكون وطننا مزدهرا كالجنان.
الجنين: أين المسكن والملبس والمشرب…؟ أين الشقق الرخيصة؟ سمعت بأنها أضحت ضربا من الخيال!
الأم: (مغيرة الموضوع): سأنتظر أولادك الموهوبين… بعد عودتهم من مدارسهم إلى قصرك… أجمعهم في الليالي الدافئة، وأروي لهم أروع الحكايا والروايات.
الجنين (هازئا): لم يعد للخيال والأدب وجود في عالمكم، دمرتم الفضاء قبل الأرض. حطمتم الإنسان قبل الجماد. تلهثون وراء فتات الغرب. نسيتم تراثكم ولغتكم. أهملتم الحرية باسم الدين. تصفقون للقوي، ولا تنتصرون للضعيف…
الأم (مستسلمة): كفى… كفى عذابا… تؤلمني ألما شديدا… لا تحكم على الغيب كالمنجمين والمشعوذين قي ليلة رأس السنة…!
الجنين: كفى هراء، أماه، إنكم تصغون للمنجمين وتعدونهم “أنبياء”… زال عن وطنكم زمان القيم والمودة… وقُضَي على القضاء… لن أخرج من رحمك الفردوسي الأنيق… لن أخرج، لن أخرج…! وكفى…!
(صرخت الأم بملء فيها مذعورة… وهي تولول وتنوح… متجهة إلى أقرب مستشفى… لتجري عملية غريبة… ها هي الآن في العناية الفائقة، فيما يسبح جنينها في أحضان النعيم)!