بقلم الجامعي محمد حسن دهيني
ألهذا الحد كنت ُرخيصا ًيا أبي كي تشتري لي قلباً بخمسين دولارا؟!
لـِمَ فعلتها ؟ لو تركتني ، على بوابة الحزن ، قرب وحش العتب ، والضياع ، لكنت أفضل ، من الان بكثير ، على الأقل كنت أستحق ( الفاتحة ) .
أوجع القصص هي تلك التي تبدأ من نهايتها، والنهايات يرسمها الابتداء.
تحملني الذاكرة ، على حمالة الجرحى وتذهب بي الى حيث لا مكان الا الحبر ، عشر سنوات مرّت مرور اللئام ، على ظهري ، أفضل يوم بها كان متعباً ، حد ّ البكاء.
هذه الحياة التي فتحت لك ذراعيها ، هي ، ذاتها تلك التي عصرتك ، لم يكن قتل الشهيد الحريري خيرا، فموته شلّ البلاد التي لا ترأف بنا طرفة عين ، تجمدَ الصيف في شرايين الحياة وتعطل موسم عملك يا أبي ، فالناس الذين اتخذوا من المكيف، صديقا ، قليلون جدا .
غير أنك كنت قد وضعت حجر الأساس في بيتنا الجديد ، ثلاثة طوابق ، مع عامودين ضخمين ومثلث يجمعهما.
بعد ان ضاق بنا البيت القديم الذي ان اتسع على ضفتيه لا يصلح للسكن.
لم تكترث الحياة ، لتعبنا واوجاعنا…كان لها ان مدّت يدها ، وزرعت في ظهرك ، مرضاً ، أقل ما يمكن القول عنه ، (خبيث) ، شلّ حركتك ، لحوالي شهرين ، انه الديسك الذي يقطع من الضعف قوة ليدمرك ، رويدا رويداً.
تراكمت المصائب علينا واحدة تلو الأخرى ، وبين البيت الجديد ونفقة العلاج ، ضاعت جيبتك يا أبي على الطريق وفي الدواء والحجارة .
كنا سبعة في البيت ، أم حنون ، وأب ، نصف مشلول فيه من الحب قلب نبي .
وأنا وأخي وثلاث بنات .
حينها لم أكن رجلاً لأكون قادرا على العمل كنت في الحادية عشرة من طيشي ، لكن ، عظمة الكبرياء في عيني مسّت روحي . وصيّرتني رجلاً ،
إن حكى أجاد ، وإن عمل فلح .
في آخر الليل ، وبعد أن نام الجميع ،حسمت ُ أموري ، واقتربت من أبي ، المغمض عينيه تجبّرا ، جلست قربه وهمست : أريد أن اشتغل.
اجابني ب لا ، التي كنت اتوقعها دائما منه. وأكمل ما دمتُ طيبا يا ولد. لن تعمل عند الناس .
لم أكن ايه حينها لفكرته تجاه الموضوع. كل همي أن احقق ما أصبو اليه .
بعد حديث طويل وبعض الحِيل التي ابتكرتها ، حققت هدفي وقبل معي ، لكن. بشرط ، هو ان اعمل عند صاحبه في صيانة الجرافات والمعدات الثقيلة. .
ولن يقبل الا عنده رغم قساوة هذا العمل .
أظن انه كان يريد أن اتعلم درسا ً
مفاده ان العمل ليس كلمة في الفم. بل هو. مسؤولية تجاه رب العمل والنفس والعائلة ، وكان يريدني ان اتعب لأترك ما عزمت عليه واعود للبيت ولدا ارعن.
ولكن على من يا أبي هذه الحيل؟
قلت بيني وبين نفسي ، إلعب غيرها .
بدأنا العمل الذي لم أكن اتوقع انه متعب الى هذا الحد ، ولكن طينتي العنيدة أبت ان تعترف او تتألم امام. أحد . كنت احرص على ان اظهر كل قوتي امام صاحبه ، ليمدحني في ظهري امام ابي ، فيسعد مني ، ويفخر ان. ترك رجلا في حلبة الحياة .
مرت عشرة ايام ، وكان نصيبي من جيب معلمي خمسين دولارا. كان تساوي عندي الدنيا وما فيها ، رجعت للبيت وانا. مصاب بنوبة. فرح. فبكل قطعة فيها ارى اتساخي وعرقي ، وألم ظهري ، الذي يسعدني .
زرت كل اترابي ، الصغار، لأريهم اانني اصبحت غنيا بتعبي وعرق جبيني. وكنت لا أعير الشخص منهم الورقة الغالية اكثر من مرة .ليظل يحبها ويترجاني .
وبعد هذه المعمة الكبيرة
عدتُ ، للبيت ، وما إن وصلت ، تفقدت ثروتي العظيمة ، فلم.أجدها ، ضربت قلبي نوبة حزن ، وعلقت الدمعة ما بين الرمش والرمش ، وبدأتُ ب لا حول ولا قوة الا بالله ،( يا رب وين راحت هالخمسين ) .
دخلت لغرفتي ،
حملت الفانوس وخرجت أبحث عنها على الطريق وأبحث مع اصحابي ، ولكن لا أثر للخمسين .
رجعت للببت وبي حزن. يعقوب ، ولا أحد يشم رائحة هذا الحزن الا عاشق ، يعرف معنى الفقد ، شمّ ابي حزني ، وسألني ما بك ، قلت : لا شيء .
فصرخ بي ، فاعترفت له بالذي فعلته واني حزين على الخمسين.
ضحك وقال : الله يعوض يا ابني لا تزعل .
فما كان. مني الا انا عبستُ بوجهه وقلت ُ : ( يلا خلي الله تبعك. يعوضلي يلاااا ).
على كل حال انا ذاهب الى الحاج الذي ينادي في الجامع ، اريد ان اطلب منه ان. ينادي ، ” فقد مبلغ من المال على من وجده… ” .
تعجب ابي من غضبي وقال الساعه 11:30 .
قلت : وإن. يكن .
ذهبت ولم أرد على احد .
استقبلني الحاج. بحاجبين ، يحتاجان لسماجتي لينعقدا ويبدأ بي ضربا .
لم. يفشلني ، بردّ طلبي ، وقال : غدا انادي لك .
قبلت معه رغم اصراري على ان يذيع الان ،
رجعت وانا احمل خاطري المكسور على ظهري .
حضنت وسادتي وبكيت ، أحسست ان الدنيا تتعمد قهري ، وان الحظ عدوي اللدود .
في الصباح ، مضيت للعمل وانا بكامل حزني وتعبي ويأسي ، وكان اليوم الاول الذي أعمل فيه دون. حب .
مضى النهار كأنه سنة .واكثر ، صعدت لغرفتي دون ان اكلم. احدا ، جلست على النافذة بانتظار. مكبارت الصوت ، الى ان بدأت ترسل لي صوت الحاج الذي عشقت صوته انذاك .
(سيقام مجلس عزاء عند فلان… في تمام الساعة الرابعه عصرا ،… سيقام. مجلس عزاء….. الدعوة. للنساء. ) وبدأ الغضب يأكل صبري ، وصارت الشتائم رغم تهذيبي ، تدور في كل انحاء الغرفة. الى ان قال : وجد مبلغ من المال ، على صاحبه التوجه لاستلامه ) .
كانت المسافة ، من بيتي للمسجد ، تحتاج. عشر دقائق على الاقل. قطعتها في دقيقتين على الاكثر .
وصلت لا نفَسَ لدي ، احسست ان. الاكسجين سينفذ بعد لحظات ، .
وانا الهث قلت : حاج، حاج ، خاج، انا اضعت المال ،
قال :كم.
قلت : خمسين يا حاج. خمسين .
قال تفضل : سلّم.على والدك .
بعد ان رجِعتْ لي لم. افكر لا به ولا بوالدي ، احسست انني اعدت اعتباري ، وشد ظهري ، وعاد قلبي يخفق جيدا بكل حب .
مرت الايام والسنون ، وعملت بالدواء مع جمعية. خيرية ، تعطيني كمية. محددة. من الادوية ، اوزعها بالتنسيق مع الحاج وفقا لجدول وبرنامج ولائحة اسماء المعوزين.
بعد أن صار بيينا خبز وملح ، وذات حديث ،
قال الحاج : أتذكر ال 50 الدولار.
شعرتُ ان احدا نفض الغبار عن ذاكرتي ، ليصعد شبح. تلك الليلة ويخنقني من جديد .
نعم اذكرها يا حاج .
اذكرها جيدا .
قال : سأخبرك سرا ً يا ابني كنت مؤتمنا عليه ولا أريد أن يعرف به احد ، وها أنت صرت شابا يرفع الرأس به ، والقصة طواها الزمن. ربما مضى عليها اكثر من 10 سنوات وصار يجب ان تعرف ما حصل.
بعد ان اضعت خمسينتك ، ليلا ومضيت صباحا الى عملك . اتصل بي والدك طالبا مني الحضور الى بيتكم .
سلّمت عليه ، وتحادثنا ، كان كل حديثه عنك ، وعن حبه ، لك. وشقاوتك وتفوقك الكبير. في المدرسة .
واعطاني خمسين دولارا ، قال لي : ابني محمد يأتي من عمله في السابعه مساءً، يمكن. ان تذيع عنها في السابعه والنصف .
ضحكت ُحينها وسررت ان لك أباً يحبك كل هذا الحب .
هذا كل ما في الأمر .
بعد هذه الكلمات ، أردت أن أشكر الحاج ، لم أكن قادرا على فتح فمي ، تبسمت بسمة. ، كانت هي ذاتها التي ابتسمتها حين عادت الخمسين. من عشر سنوات .
وفاضت عيناي بالبكاء ، كنت ابكي حدّ الفرح .
وتيقنت
ان الضحك اعظم مراتب الحزن .
وان الدمع اعظم. مراتب الفرح .
عدت للبيت وقبلت يد ، ابي ، ولم. يعرف لماذا.
وصرت كل صباح اطبع. قبلة. على جبينه تقول احبك .
بلادنا يا الله لم. تعد البلاد ،
لا أرض تتسع لأحلامنا .
لا أم عذراء ، تقينا برد الشتاء وحر الصيف .
لا قرابين عندنا كي ترضى .
انا لا أملك الان يا الله
الا أبي .
ابي يا الله كل البلاد وأجمل حلم.
محمد ❤