التّفاؤل الخفيّ في قصيدة “غير مجد” لأبي العلاء الـمعرّيّ
أيمن أحمد رؤوف القادريّ
قال المعرّيّ:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنُّـمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعيّ إذا قِيـــ
ـسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلِّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنَّــــ
ــــتْ عَلى فَرْعِ غُصْنِها الـمَيّادِ؟
صَاحِ، هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْـــ
ـــبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ؟
خَفّفِ الوَطْءَ، ما أظُنّ أدِيمَ الـــ
أرْضِ إلّا مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
وقَبيحٌ بنَا، وإنْ قَدُمَ العَهْــ
ـــدُ، هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
سِرْ، إنِ اسْطَعتَ، في الهَوَاءِ رُوَيدًا
لا اخْتِيالًا عَلى رُفَاتِ العِبادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مرارًا
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ
في طَويلِ الأزْمانِ وَالآبادِ
فاسْألِ الفَرْقَدَينِ عَمّنْ أحَسّا
مِنْ قَبيلٍ وآنسا من بلادِ
كَمْ أقامَا على زَوالِ نَهارٍ
وَأنارا لِمُدْلِجٍ في سَوَادِ
تَعَبٌ كُلُّها الحَياةُ، فَما أعْـــ
ـــجَبُ إلّا مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنَّ حُزْنًا في ساعةِ الـمَوْتِ أضْعَا
فُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
خُلِقَ النّاسُ للبَقَاءِ، فضَلّتْ
أمّةٌ يَحْسَبُونَهُمْ للنّفادِ
إنّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أعْما
لٍ إلى دارِ شِقْوَةٍ أو رَشَادِ
ضَجْعَةُ الـمَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الــ
ـجِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
***
أبُو العَلاءِ الـمَعَرِيّ (449ه/1057م) هو أديب ومُفكِّر وعالم لغويّ ونحويٌّ وفيلسوف، وُلد ومات في معرَّة النُّعمان من أعمال حلب شماليّ الشَّام.
أُصيب بالجُدَريِّ صغيرًا، فعَمِيَ في السّنة الرّابعة من عُمره، لكنَّهُ رُغم عاهته هذه تعلَّم النّحو واللُّغة العربيَّة على يد والده وبعض عُلماء اللُّغة من أهل بلده، فأصبح متمكِّنًا في فُنُون الأدب، حتّى إنَّه قال الشّعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.
ارتحل إلى بضعة بُلدان طلبًا لِلعلم، أبرزها بغداد، ثمّ رجع إلى بلده ولزم منزله، وعمل في التّصنيف، وأدَّى اعتزاله لِلنّاس أن لُقِّب بِـ”رهين المحبسين”، أي محبس العمى ومحبس البيت.
ترك خلفه من الشّعر “سقط الزّند”، و”لُزُوم ما لا يلزم”، ومن الـنّثر “رسالة الغُفران”، وغيرها.
***
والأبيات الَّتي سنخوضُ غِمارَها قالها الـمعرّيّ في رثاء فقيه حنفيّ يدعى أبا حمزة، وهي تبدو مقدمة حكميّة، تليها الأبيات الّتي تدخل في صميم الرّثاء.
قال الباحث الـعُمانيّ المعاصِر طالب أحمد المعمريّ في مقالة له بعنوان “التّشاؤم العلائيّ دوافعه ومظاهره” نشرها في مجلة “الحوار المتمدّن”: “وعند قراءتنا لقصيدته (غير مجد) سنجدها خير شاهد على تشاؤمه من الحياة، ونظرته السّوداء إلى الدّنيا، دار الآلام والبلاء”
ولكنّنا سنرى أنّ الأبيات ليست موغلة في التّشاؤم، وأنَّـها واقعيّة أحيانًا ومتفائلة أحيانًا أخرى. ولا ننسى أنّها مقدّمة في الرّثاء، فلا بدّ أن يعتَرِيَها بعضُ الحزن. نعم، لقد اتّسم شعر أبي العلاء في “لزوم ما لا يلزم” بالـتّشاؤم بعد قراره اعتزال النّاس، لكنّ قصيدتنا هذه تسبق تلك المرحلة، فهي من ديوانه “سقط الزّند”.
وفي سبيل ذلك لا بدّ أن نفهم منهج المعرّيّ في الـتّعبير، والتماس الغموض، والتّعويل على الباطن. فلنتأمّل بعض أبياته المعبّرة عن هذا المنهج:
البيت الأوّل
وليسَ على الحقائقِ كُلُّ قولي
ولكنْ فيهِ أصْنافُ الـمَجازِ
والبيت الثّاني:
لا تُقيِّدْ عليَّ قَولي، فإنّـي
مِثلُ غَيري: تَكلُّمي بالـمَجازِ
والبيت الثّالث:
إذا قلتُ الـمُحالَ رَفعْتُ صوتي
وإنْ قلتُ اليقينَ أطلْتُ هَمْسي
والبيت الرّابع:
أَوْفِ دُيوني وخَلِّ أقراضي
مِثلُكَ لا يَهتدي لأغراضي
في الأبيات الثّلاثة الأولى ترجيح للمجاز، وهو ما يُدرَك بعد تأمّل وعزوفٍ عنِ الظّاهر، وليس الـمُحال هنا المستحيل، بل ما أُحِيل أي غُيِّرَ، وهذا يفضي إلى المجاز نفسِه. أمّا البيت الرّابع ففيه تحدٍّ للقارئ، لأنّه لن يدرك بسهولةٍ مرادَه، وهذا دليل واضح على أنّه سيسلك سبيل الغموض. وهنا نتذكّر أنّ المعرّيّ لغويّ بارع، يحسن التّلاعب بالألفاظ.
ثمّ إنّه كان على صلة ببعض باطنيّة عصره، ولا سيمّا “إخوان الصّفا”، والإسماعيليّة، إذ كانت بينه وبين داعي الدّعاة الفاطميّ مؤيّد الدّين الشّيرازيّ (474هـ/1077م ) مراسلات كثيرة. ولسنا هنا في وارد نقاش نوع هذه الصّلة أكانت مناظراتٍ وجدالاتٍ أم ولاءاتٍ ومتابَعاتٍ.
أضف إلى ذلك أنّه في “معجز أحمد” وهو تفسيره لشعر المتنبّي (354ه/965م)، أوردَ تأويلاتٍ كثيرةً.
ويُنسب إلى أبي العلاء أنّه قال بعد أن أنهى مؤلّفه هذا: “رحم الله المتنبّي، كأنّـما نظر إليّ بلحظ الغيب، حيث يقول:
أنا الّذي نظرَ الأعمى إلى أَدبي
وأَسمعَتْ كَلِماتي مَنْ بِهِ صَمَمُ”
وقول أبي العلاء نفسُهُ يندرج في التّأويل.
وقد أراد الشّيخ عبد الله العلايليّ (1417ه/1996م) في كتابة “الـمعرّيّ ذلك المجهول: رحلة في فكره وعالمه النّفسيّ” أن يتتبَّع خيوط فكره، ليزيل الغموض والتَّناقض في شعره، ولا ريب أنَّ هذا قاده إلى الاسترشاد بالتَّأويل. قال في المقدمة: “إنّ الـمعرّيّ استحيا اللّغة وتلبّسها لا لتعبّر وفق دلالاتها، بل وفق دلالاته نفسه، ولا لتشير إلى ما اجتمع فيها من وحي العصور وروحها الجاثمة، بل إلى ما اجتمع فيها من وحيه ولفتات روحه. فالـمعرّيّ له لغته الخاصّة، وله دلالاته ومفاهيمه، وله نحو وقواعد بلاغة خاصّة أيضًا. وعبثًا نحاول الاهتداء إليه وسط الدُّجْنَة اللَّفظيّة المحيطة به…”.
فلنمضِ إذًا في خضمّ القصيدةِ على بصيرة.
-1-
يخبرنا الشّاعر في البيت الأوّل أنّ البكاء لا ينفع، لكنّه قال كذلك إنَّ إظهار البهجة العارمة لا ينفع. وهنا نتذكّر قول ابن الرّوميّ في مطلع قصيدته في رثاء ابنه الأوسط، مخاطبًا عينيه:
بكاؤكما يَشفي وإن كان لا يُجدي
فجودا فقد أودى نظيرُكما عندي
الحزن والسّرور لا ينفعان، لكنّهما يشفيان. تلك معادلة طيّبة. ثمّ إن الـمعرّيّ يحاذر من النّوح والتّرنّم، أي من إظهار الحزن والسّرور، لا من مجرّد الحزن والسّرور. ونجد أيضًا أنّه لا يحظر هذا على غيره، بل يقول “في ملّتي واعتقادي”، هل هذا لأنّه ضرير لا يريد أن يشمت به الرّائي عند إظهار حزنه، أو يحسده الرّائي عند إظهار سروره؟
وجميل جدًّا أن نرى أنّه قدّم، في ما لا يُجدي، نوحَ الباكي، وأخّر ترنُّـمَ الشّادي.
-2-
ثم يشبّه الشّاعر صوتَ المخبِر بالوفاة بصوت المخبِر بالولادة، غير أنّه يوهن هذا التّشبيه بقوله “إذا قيس”، فالأصل أنّه لا قياس بين الحزن والفرح.
ولاحظ أنّه جعل صوت البشير “في كلّ ناد”، فأعطى البهجة صفة العموم من خلال كلمة “كلّ”.
ونضيف إلى ذلك أنّه جعل المشبّه (النّعيّ) والمشبّه به (البشير)، والبلاغيّون يقولون إنّ وجه الشّبه يكون في المتأخّر (المشبّه به) أقوى في الدّرجة، وهذا يعني أنّ صوت البشير أقوى. وهكذا اجتمع فيه القوّة والعموم.
-3-
ويتساءل بعد ذلك: أبكاءٌ هديلُ الحمامةِ هذه أم غناءٌ؟ وهو يتساءل لأنّ الهديل يوحي دومًا بالحزن. ونتخيّل في ذلك إصرارًا على المساواة بين الحزن والسّرور، لكنّنا بالتّأمّل القليل نجد أنّ الشّاعر أورد كلمة واحدة توحي بالحزن، وهي “بكت”، وقد يكون البكاء خافتًا. وفي مقابل ذلك ذكر الغناء وهو رمز الفرح المعلَن، وذكرَ الغُصْنَ وهو رمز الخصب والاستمرار، وذكر الميّاد وهو رمز الحيويّة والرّقص.
وحرف “أم” في سياق الاستفهام يقتضي أنَّ يليه ما يرجح أن يكون جوابًا. وهكذا يكون الأرجح أنَّ الحمامة تغنّي، وهكذا تكتسب “أم” معنى “بل”، وهذا وارد لدى أهل النّحو.
-4-
ثمّ نرى الشّاعر يخاطب مَن يسمعه بعبارة تَودُّد تُحدِث الطّمانينة: “صاحِ”، لتخفيف هول الحديث عن القبور الّتي تملأ الأرض، وفي كلمة “تملأ” إخراج لفكرة الفراغ الّتي نتصوّرها ونحن نتخيّل القبور، ثمّ إنّ كلمة “الرّحب” تخرج فكرة ضيق القبور. وهكذا نجد الشّاعر يتفنّن في إبعاد هول الموت، ولولا أنّه يريد الرّثاء لخفّف الهول أكثر.
وعندما قرّر أن يتفكّر في أعداد الموتى في القرون الماضية، أحالنا إلى قوم عاد فحسب، ولم يعد إلى آدم، وكأنّه يريد تقليص الأمد الزّمني لدائرة الحزن أو الموت.
-5-
وفي البيت الّذي يليه تبادرنا عبارة “خفّفِ الوَطء”، وهي في ظاهرها دعوة إلى الدَّوْسِ بخفّة على التّراب، حيث جُثَثُ الأوّلين، ولكنّها بعد التّأمّل دعوة إلى الـتّخفّف من مشقّة الـتّفكير في شأن الـموت، وتقبُّلِ الأمر برحابة صدر. وحين قال: “ما أظنّ أديم الأرض إلّا من هذه الأجساد”، قذفَ في قلوبنا شيئًا من الانزعاج والارتباك، لكنّ هذا الحُكْم لا قيمة له وَفق معايير المعرّيّ نفسه، وهو القائل:
كَذَبَ الظَّنُّ، لا إمامَ سوى الـعقْــ
ـلِ مُضيئًا في صُبْحِهِ والْـمَساءِ
فكأنّه يقول: خفِّفْ عنك، فليس ما أقولُه أبعدَ مِن ظنونٍ أو أوهام.
-6-
وتبرز الآنَ الإشارة إلى قباحةِ وطء التّراب الّذي تحته أجساد آبائنا وأجدادنا، ففي ذلك إهانة لهم. ولكنّ اللّافت أنّ الشّاعر نسب القبيح إلى المتكلِّمين “وقبيح بنا”، مع أنّه في البيتين السّابق واللّاحق يخاطب المفرد عبر الفعلين “خفِّفْ” و”سِرْ”. أهو مُجرَّد التفاتٍ في الضّمائر”؟ هذا يعيدُنا إلى “قبورنا” في البيت الرّابع، فهل “نا” هناك يُريدُ بِـها الأموات المعاصرين؟ وهل الشّاعر يتحدّث إلينا وكأنّه يتقمّص دور ميّت في القَبْر؟ إذا كان الأمر كذلك فهل المراد بالبيت السّادس أنّ الأموات المعاصرين في قبورهم مستاؤون لأنّهم سبّبوا الإهانة للأموات السّابقين من آباء وأجداد؟ أليس أقاربهم هم الّذين يدوسون على قبور القدامى؟ يبدو التّأويل بعيدًا نوعًا ما، ونكتفي بإحالته إلى تساؤل لا أكثر.
-7-
ويطلب الشّاعر إلينا أن نسير في الهواء بتؤدة من دون ملامسة الأرض، لأنّ فيها رفاتَ الصّالحين. ولأنّ هذا الطّلب محال، قرنه الشّاعر بأربعة أمور تدلّ على الحكمة والواقعيّة.
الأوّل أنّه قيّد هذا السّير بالاستطاعة، فقال “إنْ” وهي تفيد التّقليل.
والثّاني أنّه خفّف حروف “استطعت”، فقال “استَطعْت”، للإشارة إلى قلّة هذه الاستطاعة، نظرًا إلى قلّة حروفها.
والثّالث أنّه علَّل رفضه بالسّير فوق الأرض بالاختيال، وهذا يعني أنّ السّير بتواضُعٍ واحترام لا بأس فيه.
والرّابع أنّه جعل كيفيّة السّير هذه للحفاظ على كرامة الأولياء الصّالحين (العباد)، وضيّق الدّائرة، فليس الإنسان ملزمًا بهذا الاحتراس مع رفات المجرم أو الظّالم أو الشّقيّ.
-8-
والبيت الثّامن يحوي تأكيدات لكثرة الأموات في القبر الواحد، فثمّة “رُبّ” الدّالّة على الـتّكثير، و”قد” الدّالّة على الـتّحقيق، و”مرارًا” الدّالّة علـى الـتّكرار، و”تزاحُم” الدّالّة على الاحتشاد والتّقارب. ومع ذلك نرى الشّاعر يرمي إلينا بكلمة “ضاحكٍ”، لتخفِّف جوّ اليأس. فهل هذا صحيح؟
إنَّ كلمة “الأضداد” تدفعني إلى التّفكير في “رُبَّ” الّتي تدلّ عند الـنّحويّين على الـتّكثير، وتدلّ على الـتّقليل، فـهي من الأضداد. وكلمة “مرارًا” تدلّ على الـتّكرار، وتكون مصدرًا بمعنى الضِّيق، والضّيق لا يسمح بالـتّكرار، فهما من الأضداد. والفعل “ضحِك” يدلّ على السّرور وانفراج الشّفتين، ويدلّ أيضًا على التّفسُّخِ والـتّشقُّق.. وهنا بيت القصيد! فهل أراد الشّاعر أنّ القبر يتشقّق من كثرة مَن دُفِنوا فيه؟ إنّها لَتوريةٌ رائقة.
-9-
ثمّ يذكر الشّاعر كثرة المدفونين في القبر الواحد، فلماذا يكرّر ما سبق؟
ورد في الـمعاجم: “دفنَ الإبلَ حَمَلَها على الإسراع”، فالدّفين اسم مفعول بمعنى المدفون، وقد يتّجه في معناه إلى الشّخص الّذي دُفِعَ إلى العجلة، فهل يشير الشّاعر إلى الآية {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}؟ الإنسان يركض ويركض في هذه الحياة يتعجّل الرّزق، متجاهلًا الحديث الشّريف: “ولا يحملنّكم استبْطاءُ الرِّزقِ أن تأخذوه بمعصية الله، فإنّ الله لا يُنَالُ ما عِندَهُ إلَّا بِطاعَتِهِ” [رواه البزّار]، ثمّ يصبح في الـتّراب جسدًا بــلا روح، فوق آخَرَ سبقه في العجلة، ولم ينل إلّا ما قدّره الله.
-10-
وها هو يحدّثنا عن الفرقدين، وهما الدّبّان الأصغر والأكبر اللّذانِ يُهتدى بهما، ويخبرنا بما يحدثانه في القبائل والشّعوب من إحساسٍ أيْ إعلام وإدراك، وما يجلبانه من أنس. وهو البيت المشرق الّذي لا تشوبه شائبة، ولا يبدو فيه أيّ تشاؤم أو تأييد لفكرة الـموت. ولا أدري ما الّذي قاد بعض المفسّرين إلى أنّ الفرقدين هنا الشّمس والقمَر؟ وأنا أظنّ أنّ اختيار الفرقدين جميل جدًّا، فهما يحويان سبعة أنجم، ويُضرَبُ بهما المثل في العلوّ والرّفعة، ولا يفارق أحدهما الآخر، قال الشّاعر:
وكلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ
-لعَمْرُ أَبِيكَ- إلّا الفَرْقَدَانِ
وهنا أميل أيضًا إلى أنّه يرى في الفرقدين العينين، إذ بهما النّور والاهتداء، وهما متجاورتان لا تفارق إحداهما الأخرى، وبما أنّ الشّاعر حُرِمَ النَّظَر تراه يقول: فاسأل الفَرقدين… هو لا يستطيع إعطاء الجواب، فأحال الأمر إلى المستمع.
-11-
والبيت الّذي يليه يشير إلى أنّ هذين الفرقدين يبرزانِ مع زوال الـنّهار، وكنّا نُوجِسُ أن يجعل هذا اللّيل وسيلةً للتّعبير عن المآسي، ولكنّه لم يفعل، بل أشار إلى مسير الإنسان في جوف اللّيل، وهو مهتدٍ بالفرقدين، وهكذا جمع بين أمرين محمودين، وهما الحركة والهداية، كأنّه يعبّر عن الآية: {يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
-12-
ولا يلبث الشّاعر أن يخبرنا أنَّ الحياة متعبة، وهذا أيسر ما توصف به الحياة، وليس فيه أيّ شيء من الـتّشاؤم، وإنّ الإنسان ليفخر بتعبه، ويخجل مِنْ ظَفَرٍ لم يَنَلْهُ بهذا الـتّعب. نحن لا نجد المعرّيّ يصف الحياة بأنّها مثلًا مصائب وكوارث وفواجع… وفي كلّ الأحوال يوصل الـتّعب إلى الرّاحة، ويزول بالرّاحة، ولا يُشتَرَط اقترانُهُ بالحزنِ. قال أبو تمّام (231ه/845م) مخاطبًا الخليفة المعتصم بالله (227ه/842م):
بصُرتَ بالرّاحةِ الكبرى فلم تَرَها
تُنالُ إلّا على جِسْرٍ مِنَ الـتّعبِ
وأمّا عجبه من الّذين يرغبون في مزيد من الحياة، فأرجّح أنّه يفيد الاستحسان لا الاستغراب، ويُحمَل على ما ورد في الحديث النّبويّ، المتضمّن مَدحًا للأنصاريّ وزوجتِه: “قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ” [رواه مسلِم]، ويُحمَل على الحديث الآخر: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ” [رواه أحمد].
-13-
ثمّ يجعل الشّاعر الحزن في ساعة الموت، من دون الإشارة إلى غيرها، وهذا يعني أنّه يحبّ الحياة، ويأسى لتركه إيّاها، أو لتركِ أحبابه إيّاها. وقد أكّد ذلك حين جعل ساعة الولادة سارّةً. وإذا كان الحزن مضاعفًا فهو بقدر ما فُقِد. وهكذا ينهض البيت دالًّا على الـتّمسُّكِ بالحياةِ. قال الـمتنبّي: “وبِفَكِّ اليدينِ عنها تَخلّى”، فلا ينبذ الإنسان الحياة إلّا إذا ضُرِب على يديه ضربًا شديدًا حتّى يفكَّ قبضتيه اللّتين تستحوذان عليها وتتمسّكان بها.
-14-
وإذا به يصرّح أنّ الأصل في البشريّة هو البقاء، هو الحياة، وأنّ هذا مرادُ اللهِ مِن خلقِ البشريّة، وأمّا الـموت فهو آنيّ. ومن خالف هذا الأصل فهو وفق رأي المعرّيّ نفسِه في ضلالٍ، سواءٌ أكان فردًا أم جماعةً أم أمّة بأسرها. ومعنى ذلك الإقرار بخلود الـنّفس بعد الموت الأوّل، عَبر بَعثِ الأجساد، ثمّ الحشر.
ولهذا رأى ابنُ أبي الحديد (656ه/1258م) في “شرح نهج البلاغة” أنّ هذا البيت والّذي يليه يطابقان إرادةَ أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب في قوله: “الدُّنيا خُلِقَتْ لغيرها، ولم تُخْلَقْ لنفسها.”
-15-
ويستسرسل الشّاعر في شرح مآل الأرواح يوم الحساب، ولكنّ اللّافتَ هنا أنّه جعل الدّنيا دار أعمال، وهذا يشرح بوضوح ما أراده بالـتّعب في بيت سابق، وأنّه جعل الآخرة إمّا دار شقوة وإمّا دار رشاد. لقد ربط الجحيم بالشّقوة أي التّعاسة، وربط الرّشاد بالجنّة حيث الـنّعيم والسّرور الخالد. وهكذا يتجلّى لنا موقفه الصّريح، فالرّشاد أو الصّواب مرادفٌ للسّرور، فلا تحزنوا.
-16-
وأخيرًا يجعل الشّاعر الموت ضجعة ورقدة وراحة، وفي ذلك طمأنينة مثلى، لشعوره بأنّه سيلي الموت حياة أخرى مفعمة بالـنّعيم. أمّا الحياة الدّنيا فهي مثل السّهاد والأرق والقلق، وهذا يعيدنا إلى فكرة الـتّعب الّتي اتّضحت في البيت الثّاني عشر. نعم، ليست الحياة أوجاعًا ونكباتٍ، وإنّما هي تعب طبيعيّ.
***
تلك قراءة تأويليّة أردنا من خلالها إثبات عقلانيّة هذا الخطاب، والتزامَه الواقعيّة، فلا تشاؤمَ، ولا كُرهَ للحياةَ. ونختِم بعدها ببيتين لأبي العلاء نفسِه، لنفهَم أهمّـيّة أنّنا كرّرنا الـنَّظَر في أبياتِه السّابقة:
كأنّي في لسانِ الدَّهرِ لَفْظٌ
تَضَمَّنَ مِنْهُ أَغْراضًا بِعادَا
يُكَرِّرُني لِيَفْهَمَني رِجالٌ
كَمَا كَرَّرْتَ مَعْنًى مُسْتَعادا
وما هذه الـمقالة إلّا خطوة باتّجاهِ إعادة الـنَّظر في كلّ ما نُسِجَ حولَ شِعْرِ أبي العَلاء مِن خيوطٍ واهية.