بقلم المحامي الأستاذ بسام حسن الشريف
عادةً ما تعمل عليه، أو ما تفعله مُعظم الدول تجاه حركات المقاومة لديها التي خُلقت على ترابها بفعل أمر واقع مرير يحمل في طياته خذلان تاريخي، وسلب إرادة السلطة للدفاع، إن لم نقل فعل تواطؤ، هو تأدية الشكر والعرفان والجميل، تجاه من بذلوا الغالي والنفيس بتضحياتهم الجسام على مذبح الوطن، هذا في الدول الراقية، إنما في دول العالم الثالث عكس ذلك يحصل بالتمام.
إن أغلب الدول في أصقاع المعمورة عايشت مراحل احتلال واغتصاب لأراضيها، ولم تستكين لذلك الواقع المرير، ولم تساكنه وتعتاده، بل نفضت نفسها من تحت رمادها، وإستفاقت من سباتها، لأنها أيقنت بصورة حازمة وجازمة، أن فعل المقاومة والدفاع والصمود هو سبيل الخلاص الوحيد لها ليمهد دربها نحو هدفها الأسمى والأنبل من دحر وتنظيف كل التراب الوطني من دنس المحتليّن والغزاة. وأنموذج حي عن حركات المقاومة في شتى البلدان، كالاستعمار الفرنسي في الجزائر بحيث توج رمزها وبطلها عبد القادر الجزائري في كتب التاريخ، كذلك الاستعمار الإيطالي في ليبيا بحيث أجريت العديد من الأفلام عن الشيخ عمر المختار بهذا الصدد، والاستعمار البريطاني في مصر والعراق، والثورة البيضاء الوحيدة التي قاومت المحتل هو المهاتما غاندي في الهند أيضاً بوجه الاحتلال البريطاني.
والمقاومة الفرنسية التي حاربت ضد الاحتلال الألماني لفرنسا، خير شاهد على احتضان حركة المقاومة من قبل دولتها ومكوناتها وتقدريها لها، بحيث كونت المقاومة مجموعات صغيرة من رجال ونساء، وأطلق عليهم اسم “الماكيز “maquis، وكانت تضم كل طبقات المجتمع، مُتصدية بذلك للخطر الوجودي الذي يحوم حول الأمة الفرنسية.
انطلاقاً من كل ذلك، لو أسقطنا “المقاومة” كمصطلح على قياس فردي أو شخصي لوجدناه ردة فعل طبيعية وعفوية وواقعية، لأي فرد يتعرض لإنتهاك وخطر وشيك وحقيقي على نفسه وماله وأرضه وعرضه ومسكنه، ولا يمكن إيقاف هذا التعدي والإعتداء، وليس هنالك من سبيل لردعه وإيقافه، إلا بممارسة حق الدفاع عن النفس، وإن هذا الحق مكرسٌ في القوانين العالمية والمحلية، ولم يغب هذا المبدأ في العلاقات بين الدول، وقد أفرد القانون الدولي في المادة 51 من ميثاق الامم المتحدة، حق الدفاع عن النفس صوناً لأي إعتداء قد يطال دولة تجاه دولة أخرى، أو جماعة تجاه تنظيم شعبي وما شابه ذلك.
إن هذا المدخل لا بد منه، لنطل على نافذة الوضع اللبناني، ألا يشعر البعض من خطر جسيم ومُحدق، بعد هذا التاريخ الدامي والمرير والصراع الطويل الإسرائيلي-اللبناني؟ وهل من ريبة وخوف حقيقي على سيادة 10452 كلم2 من أن تنتهك وتستباح؟
ألا يستشعر البعض من العقلاء بعد تجميع كافة شتات يهود العالم في فلسطين المحتلة، دولة جارة لنا، اعتبروها أرض الميعاد لهم، عبر حديد ونار الهاغاناه والشتيرن والأرغون عام 1948 من خلال الترويع والتهجير والمجازر والتنكيل، من خطر وجودي قد يتمدد في أي ساعة ،بحيث قد تتسع رقعة الإحتلال وتزداد شهوة الاستيطان في أي لحظة، وساعة يشاؤون، ومن من ممناع لهذا المد الجارف!!
وإذا قفزنا قليلاً للوراء بالمراحل التاريخية، بعد اتفاقية سلام وادي عربة مع الأردن عام 1994، وكامب ديفيد مع مصر عام 1979، واتفاقية أوسلو مع السلطة الفلسطينية عام 1993، وصولاً إلى مؤتمر بيروت للقمة العربية عام 2002، حيث كان عمادها ومدماكها حل الدولتين، والسؤال الذي يطرح من الذي أفشل مشروع السلام في المنطقة؟
أليست إسرائيل…؟، كل هذه الأحداث والمجريات الواقعية بشواهدها وبحروبها، تؤكد الثابت واليقيني أن مشروع إسرائيل العنصري اليهودي، هو عدم تقبل الآخر ورفضه، ماذا لو عايشت إسرائيل الشعب الفلسطيني وأعطته جزءاً أو بعضاً من حقوقه لكان سكت ورضخ، إلا أنه فعلت عكس ذلك كلياً هوّدت وزادت وفعّلت من حركاتها الإستيطانية على مر الأعوام.
إن المشروع واضح المعالم، ولكن أغلب مجتمعنا، بفعل حقده، لا يريد أن يرى، والأنكى من كل ذلك أن معظم المخططات سُطرت في وثائق وكتب، لكن السواد الأعظم لا يقرأ، وإن قرأ لا يعي، المشاريع موضوعة على الطاولة من قديم الزمان، إنهم يتريثون ويتحينون الفرص الملاءمة بتوقيتهم، لتحقيق مشروع إسرائيل الكبرى والعظمى، وما الشرق الأوسط الجديد إلا محطة لازمة وجوهرية لخلق الإسلام السياسي، وإذكاء التناقضات التاريخية بين السنة والشيعة، من باب التقسيم والتنكيل وتفتيت المنطقة إرباً إربا، وتقزيم وتحجيم مستوى الخطر المحاط والمجاور بإسرائيل، من خلال خلق جيوش نظامية عربية مُطبعة، لا تقاتل، وإن قاتلت ستقاتل شعبها وبعضها. إن لبنان، وفلسطين، واليمن، وسوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، خير دليل على ما يجري وجرى وسيجري، من ضرب وإنهاء كل عناصر القوة لتتسيد إسرائيل وتتربع على عرش المنطقة.
ويأتي قائل ويقول، ما جدوى المقاومة؟ إن مشروع وخيار المقاومة، هو الذي أسقط سوريا بسبب موقفها الداعم للحركات التحررية، وهو من حمى لبنان من الفتنة الداخلية، ومنع الغطرسة الصهيونية من تحرير عام 2000 إلى العام2024. إنه وبعد إنتهاء الأعمال الحربية على لبنان، ما زالت إسرائيل تنتهك وتعربد وتفجر وتحطم مناطق بأسرها، ويدخل أسراب طائراتها الأجواء اللبنانية، واللجنة المشرفة على تنفيذ القرار هي محايدة عمداً، وها هي المقاومة اللبنانية التزمت بمنطوق الإتفاق نصاً وحرفاً. من الذي يضمن أن يخلي الإسرائيلي كل المناطق الحدودية المحتلة بعد إنصرام مهلة 60 يوماً؟ وإن تمادى أكثر وتوغل بالعمق أكثر من ذلك، والجيش مُلتزم بالدفاع وقصر بدفاعه هذا، هل سيكون خيار المقاومة فعلٌ مبرر أم عمل مُستنكر ومستهجن وهو من زج لبنان في أتون الحرب؟
في الختام، بعد تمزيق مندوب إسرائيل ميثاق الأمم المتحدة في الجمعية العامة علناً أمام العالم، وضرب بعرض الحائط هيبة كل الدول، وبعد أن وضع نتنياهو مشروع الشرق الأوسط الجديد جهاراً من ذات المحفل الدولي، ما زال بعض الغمي الصغار منتشين برذاذ الديمقراطية، ونُتف حقوق الإنسان، والشعارات الرنانة الغربية الموعودة بإسقاطها على وطنه. نعتقد أن خيار المقاومة هو خيار سليم ووقائي وحمائي يمارس بهكذا ظرف عصيب، ولا يواجه الإحتلال لا باليافطات ولا بالمؤتمرات ولا بالندوات والشعرات التي أصبحت بضاعة كاسدة، وأقولاً أصبحت سخيفة ومكروهة، بل بفعل القوة والتخطيط والتنظيم والسرية التامة.
