الجمعة , فبراير 21 2025
الرئيسية / ابحاث ودراسات عليا / طفلة ساذجة أم امرأة حكيمة؟

طفلة ساذجة أم امرأة حكيمة؟

بقلم أ.د. أيمن أحمد رؤوف القادريطفلة ساذجة أم امرأة حكيمة؟

تقف الكلمات أحيانًا مرتبكة، لا تملك تبيان خلجات النّفوس، فتتطوّع أشكال التّعبير الأخرى، لإنقاذ الموقف، ومن ذلك ريشة الرسّام المبدع، تلك الرّيشة الّتي تدغدغ الورقة بإتقان حتّى تنبت فوقها ورود الدّلالات.
ونحن الآن أمام صورة تفيض بالسّحر والألق وتنبض في كل جزء منها معانٍ عميقة، وجدتُها في رابط لا يمدّني بتفاصيل عن الفنّان أو أيّ ملابسات أخرى، وبحثتُ عبر الشّابكة فلم أحصل على شيء، ثمّ وسمْتُ أنا هذا الرّابط بعنوان طفلة ساذجة أم امرأة حكيمة؟
وموجز ما في المشهد أنّ طفلة صغيرة في ليل ترقّط فضاءه النّجوم، تمسك النُّفَّاخة (البالون) الّتي ترتفع، وفي داخلها قمر يوازي حجم الطّفلة، وتحت قدميها أرض صخريّة.
ما هذه النّفّاخة؟ أهي مجموع أحلام هذه الصّغيرة حاولت احتواءها في قمر يضيء ظلمة اللّيل الّذي يحيط بها؟ لعلها وجدت النّجوم تجوب السّماء وحيدة، فرأت المشهد ناقصًا، وابتكرت له قمرًا يسدّ الفراغ، ويحدث الكمال المرجوّ. هذا الأمر يدلّ على أن تفكير الأطفال البسيط قد يحمل دلالات عميقة ربما لا يصل إلى مستواها تفكير الحكماء.


وإذا كان القمر من صخور صلبة تمثّل القسوة، فإنّ هذه الطّفلة استطاعت احتواء القمر، ووضعته في مطّاط ليّن أكسبه الرّقّة، واستطاعت أيضًا أن تقرّبه إلى عالم الطفولة حيث الطَّابة والكرة والنُّفَّاخة تمثل أوّل أنواع اللّهو البريء.
والطّفلة تمسك القمر بيد واحدة فقط، وكأنّها تهمّ بإفلاته، لينطلق في الفضاء، كي يؤنس النّجوم، ويعينها في إنارة تلك المساحة الشّاسعة، بل كأنّها أودعت تلك النّفّاخة جملة أحلامها، وتريد إرسالها إلى السّماء راجية تحققُّها. ويؤكّد أنّ الطّفلة لا تريد إبقاء النّفَّاخة معها أنّنا نرى الخيط متعرّجًا غير مشدود. ولكن وضعيّة إخمصي قدمي الطّفلة تشير إلى أنّها تحاول الارتفاع مع هذه النّفّاخة، فهل تريد السّفر مع النّجوم؟ ربّما، ولا سيّما أن طرف الخيط السّفليّ ما زال تحت مستوى قبضة يديها، كأنّها تنتظر أن يصل هذا الطّرف إلى يدها، لتشـدّه وترتفع. ولعلها آنذاك تحرّك يدها اليمنى المسبلة حتّى تمسك الخيط بكلتا اليدين، خشية الإفلات.
ونرى أن ثوب الطّفلة أزرق ينتمي إلى اللّون المعهود في السّماء، فكأنّها بدأت الاستعداد للذّوبان في هذه البيئة الجديدة الّتي تريد الارتحال إليها، كي تحلّق مع النّجوم.
ولعلنا إذا نظرنا إلى موضع وقوف الطّفلة نرى شيئًا من الضّباب، وهذا الضّباب ربّما يعبّر عن عالم الأحلام، ولا سيّما أنه اتّسم بالبياض النّسبيّ، فكسر نمطيّة الصّورة الّتي تهيمن عليها الألوان الدّكناء، وهكذا تتأكّد تصوّراتنا السّابقة في فهم هذه الصّورة الفريدة. يبقى أن نسأل: لماذا اختار الرّسّام أن تكون طفلة تمسك الخيط، لا صبيّ؟ قد يكون السّبب أن الأنثى تضطرّ إلى الغوص في عالم الأحلام أكثر، بسبب طبيعتها العاطفيّة، وبسبب أنّ المجتمع الذّكوريّ يسيطر على الواقع، فإذا شاءت مكانًا لا يغالبها فيه فهو عالم الأحلام الفسيح.
وعندئذ ربما نفسّر القسوة الّتي في الصخور حولها بهذا المجتمع الذّكوريّ، ونفسّر وضعها للقمر المتحجّر في نفّاخة بأنّها استطاعت إخضاع صلابة ذلك المجتمع بسياسة اللّين الّتي انتهجتها، وباللّسمة البريئة الّتي تملكها، وبطاقة الأحلام الّتي تزخر بها مخيّلتها.
وما بالنا لم ننتبه إلى وجه المرأة الّذي احتوى هذه الصّورة؟ ماذا يكون شأنه؟ امرأة غابت معالم وجهها بين الصّخور والفضاء، وهذا قد يوحي بالقسوة الممتزجة بالأحلام والآفاق السّاحرة، فلأيّ الجانبين الغلبة؟ وهي تدير ظهرها للبنت الصّغيرة، أتراها بذلك تتناسى عبث الطّفولة وأحلامها السّخيفة، وخيالها الّذي يذهب بالمرء بعيدًا من الواقع؟ ونرى أنّ النّفّاخة الخرافيّة الّتي حبس فيها القمر حلّت قرب موقع الدّماغ المفترض لهذه المرأة، بينما حلّت الطّفلة في موقع متوسّط بين الدّماغ والقلب أي بين تفكير العقل وانفعال القلب. أهذه المرأة أمّ تلك الطّفة أم هي الطّفلة منذ ثلاثين عامًا؟ كلّ هذه العناصر تبعث فينا آفاقًا وآفاقًا من الـتّساؤلات الجميلة، وكلّ إجابة من شأنها أن تسلك بنا في مضمار معرفيّ ذي بُعدٍ فلسفيّ.
أيًّا يكن، فإنّ هذه الصّورة في واقع الأمر تظهر لنا حكمة المرأة في ثوب طفلة ساذجة، استطاعت أن تعرف كيف “تمسك طرف الخيط” ببراعة.