بقلم ملاك علي بيضون
البيجر جريمة حرب
لم يقتصر دور المقاومة الإسلاميّة في لبنان على صدّ العدوان الإسرائيليّ عن أرضهم، بل امتدّ ليشمل دعم ومساندة إخوانهم المظلومين في غزّة. وفي خضمّ الحرب الدّائرة، دوّت صرخة ألم موجعة، لم تكن هذه المرّة من قصفٍ مدفعيٍّ أو غاراتٍ جويّةٍ، بل من أجهزةٍ كانت يومًا وسيلةً للتّواصل والتّقارب، تحوّلت فجأة إلى آلاتٍ للقتل. إنّها تفجيرات البيجر، تلك الحادثة الّتي هزّت لبنان في 17 سبتمبر من العام الماضي، هذا الجهاز البسيط الّذي كان يقتصر دوره على إيصال رسائل نصّيّة قصيرة، حوّله العدوّ الصّهيونيّ إلى قنبلةٍ موقوتةٍ أودت بحياة ما يقارب الخمسة آلاف من الأبرياء بين شهيد وجريحٍ في ثانيةٍ واحدة.
كان المشهد صادمًا ومأساويًّا، حيث تحوّلت شوارعنا وبيوتنا إلى ساحات حربٍ، وأصبح صوت الانفجارات صدماتٍ مدوّيةٍ. في هذه اللّحظات، لم تعد البيجر مجرّد جهاز إلكترونيّ، بل أصبحت سلاحًا فتّاكًا اخترقه العدوّ واستغلّه لتحقيق أهدافه الخبيثة، الأمر الّذي يحمل في طيّاته دروسًا مهمّة حول تطوّر أساليب الحروب الحديثة، واستخدام التكنولوجيا لأغراض إجراميّة شيطانيّة.
إنّها جريمة حربٍ بكلّ المقاييس، لم يكن أبطالنا المقاومون الأشاوس لوحدهم ضحايا لهذه الجريمة البشعة، وإنّما طالت أيضًا أطفالًا ونساءً، وهذا انتهاك صارخ للقانون الدّوليّ الإنسانيّ. إنّ العدوّ الصّهيونيّ في ارتكابه لهذه الجريمة لم يحترم أيّة قيم إنسانيّة، وهو أراد بها الضّغط على بيئة المقاومة وإضعافها. ولكن هيهات، هؤلاء الّذين اختاروا طريق المقاومة، طريق الشّرف والكرامة، كان هذا الحادث المأساويّ اختبارًا حقيقيًّا لعمق الإيمان والصّبر ومدى العزيمة والثّبات لديهم.
تجلّت صور الجرحى في مشاهد مؤثّرة؛ وجوه مشرقةٌ، وقلوبٌ مؤمنةٌ محتسبةٌ. رجالٌ أُصيبوا بجروحٍ بالغةٍ معظمها في الأعين والكفوف، لكنّنا لم نرَ في هذه العيون غير الرّضا، ولم نسمع سوى كلمات الصّبر والاحتساب. هؤلاء هم الأبطال، فقدوا نور الدّنيا، فاستضاءت أنوار الإيمان والبصيرة في قلوبهم. طوبى لهم، ولعيونهم الجريحة الّتي غدت تحمل نور العزّة والكرامة، هم أثبتوا للعالم أنّ الإيمان بالله والقضيّة أقوى سلاح.
رأيناهم يبتسمون وهم ينظرون إلى جراحهم، وكأنّهم ينظرون إلى ميداليّات شرفٍ. لم يشتكوا ولم يتذمّروا، بل رفعوا رؤوسهم عاليًا مخاطبين قائدنا سماحة السّيد حسن نصرالله، وذلك قبيل استشهاده، وهم مدرّجون بدمائهم، يعانون من ألم جراحهم، لكنّهم يردّدون بثبات لافت: ” سيّدنا لو أنّا نعلم أنّا نقتل ثمّ نحرق ثمّ ننشر ثم نُذرى في الهواء، ثمّ نُحيا ثمّ نُقتل ثمّ نُحرق ثمّ نُنشر ثمّ نُذرى في الهواء، يُفعلُ بنا ذلك ألف مرّة ما تركناك يا حُسين عصرنا”.
سمعنا أحد الأطبّاء يروي ما سمعه عن لسان أحد الجرحى ممّن قد فقد إحدى عيناه وأطرافًا من يده، بأنّه يريد بعمليّة واحدة إتمام جميع العمليّات الجراحيّة الّتي من المفترض إجراؤها، قائلاً: “خلصلي كلّ العمليّات بعمليّة وحدة، أنا بدي إرجع عالشّغل”. وطبيب آخر قال: “كان الجميع مندهش بمدى الانضباط، بمدى التقبّل، بمدى الهدوء عند الجرحى وعوائلهم. بالفعل إنّ الأخلاقيّات والالتزام والصّبر الّذي كان لديهم كان لافتًا، وكذلك البصيرة..”.
وقد شاهدنا أحد الجرحى وقد انطفأت إحدى عيناه، يبكي وهو يقول بأنّه تذكّر أبا الفضل العبّاس (ع) الّذي فقد بصره وكفوفه، لكنّه ظلّ سائرًا مكافحًا مكملًا طريقه وغايته رغم الجراح. ومضى مخاطبًا شهيدنا الأقدس: “نحن ما منطلع من الميدان إلّا عالقبر، وهيدا خيارنا الأوّل والأخير، لبيّك سيدي، امضِ بنا، لا تخشَ شيئًا، امضِ بنا حيث تمضي، حيث تريد، كيف تريد، كيف تشاء…” .
هؤلاء هم رجال الله، وهذه هي بيئة المقاومة الشّريفة الثّابتة، لم ترعبهم وتهزمهم التفجيرات، بل كانت وقود عزيمتهم وإصرارهم على مواصلة هذا النّهج والطّريق المقدّس، كما وسيبقى خيارهم دائمًا الصّمود والمقاومة.
