السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / الأدب المنتفض / سيكولوجية المصفوفة في واقعنا العربي اليوم

سيكولوجية المصفوفة في واقعنا العربي اليوم

سيكولوجية المصفوفة في واقعنا العربي اليوم

بقلم د. رلى فرحات 

المصفوفة (Matrix) كفكرة تعبر عن نظام معقد ومترابط من المفاهيم والممارسات والقيم التي تنظم حياة الأفراد والمجتمعات. سيكولوجية المصفوفة تتعلق بكيفية تأثير هذه الأنظمة على الهوية والإدراك وبالنالي السلوك البشري. في الواقع العربي اليوم، يظهر هذا المفهوم من خلال أنماط إجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية واقتصادية تعمل كمصفوفة خفية تحكم الحياة اليومية للمجتمع.

1. التبعية الفكرية والسياسية

المصفوفة في السياق العربي تشمل أنظمة فكرية وسياسية توجه الفرد طوعا نحو قبول الأوضاع الراهنة والمستجدات بدون أدنى مساءلة. فالفرد يشعر بأنه “عالق” في نظام سياسي أو إقتصادي أو تربوي محدد، كأنه دائرة مغلقة في منظومة لا يمكن تغييرها أو تجاوزها. مما يولد شعوراً باليأس وبالعجز الجماعي، فيصبح التغيير فكرة مستبعدة أو مستجداة من قوى خارجية أو من ما فوق الطبيعة.

2. القيم الإجتماعية والدينية

تُشكل القيم الدينية والتقاليد المجتمعية جزء من المصفوفة، يعمل على تشكيل الإدراك بصرامة. فيجد الأفراد أنفسهم محاصرين بين تقاليد لا يستطيعون الإنفكاك عنها، إذ أن التمسك الحرفي بهذه القيم يؤدي إلى كبح الإبداع وإضعاف النقد البناء، وبين تحديات عالم حديث يتطلب مرونة وإنفتاح (مع التخفظ على الكلمة) وتطويراً مستمراً.

3. التعليم كسلاح طائل / قاتل

التعليم في كثير من الدول العربية لا يزال تقليدياً، يُركز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي. حيث يتم تدريب الأجيال الجديدة على التكيف مع النظام القائم بدلاً من التفكير في تغييره أو تحسينه. هذا النوع من التعليم يرسخ المصفوفة ويُحجم الإبداع، إذ أنه ممنوع التفكير خارج الصندوق والتغريد خارج كنف السرب. فالمطلوب تجهيل الأجيال ومنعها من الإبتكار حتى تبقى وقودا لهذا المصفوفة لا أن تكون نارا حارقة لها.

4. الإعلام والإقتصاد كأدوات للمصفوفة

الإعلام في العالم العربي غالباً ما يبث رسائل إعلامية موجهة تتماشى مع مصالح القوى المسطيرة، وتعكس مفهوم المصفوفة من خلال نشر قيم ومفاهيم تخلق نمطاً من التفكير الجماعي، حيث يتم تحديد ما هو “مقبول” وما هو “غير مقبول” نسبة للمنظومة المقصودة بمعزل عن صحتها وثباتها.
من ناحية ثانية، تُسهم الأنظمة الإقتصادية غير المستدامة في تعزيز المصفوفة من خلال تعزيز التفاوت الطبقي وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، كما وأنها تخلق الأزمات بهدف الإلتفاف أكثر حول هذه المصفوفة الموصوفة بأنها حبل النجاة.

5. المصفوفة النفسية وتأثيرها الفردي والجماعي

على المستوى النفسي، يجد الفرد نفسه في صراع بين طموحاته الشخصية وأفكاره التلقائية التي أوجدها من اطلاعه وبحثه وتنقيبه عن الحقيقة، وبين حدود المصفوفة التي كونت فيه معتقدات جوهرية فرضها الواقع في التربية والنشأة. وهنا يُصاب الفرد بخيبات متلاحقة تُشعل فيه مشاعر العزلة وتُثير عنده القلق، وتُصيبه بالإكتئاب، وغيرها من الأمراض النفسية والاصطرابات التي تظهر أعراضها عندما يدرك الفرد أنه بين براثن مصفوفة معقدة لا يستطيع كسرها.
أما على المستوى الجماعي، فتظهر المصفوفة جليا في ما نراه من إنحلال طائفي وإصطفاف سياسي وإنقسام وطني وإنشطار مذهبي، وكلها تخلق مناخا بعدم الثقة بين الأفراد مما يُحول جمال الإختلاف إلى تأجيج للخلافات.

إذا، هل نستطيع كسر المصفوفة؟!

1. الوعي الجمعي: إدراك وجود المصفوفة وفهم أبعادها ومخاطرها هو الخطوة الأولى لبدء تحطيم شرنقتها والخروج منها. وعي الشعوب بطبيعة الأنظمة الحقيقية التي تحكمها، والتفكر بالعدو الحقيقي الذي يُحدق بها، والعمل يدا بيد بمعزل عن الطائفية والطبقية يساعدها على تطوير استراتيجيات جديدة للتحرر والإنطلاق.

2. إعادة بناء الهوية: تعزيز القيم المجتمعية والثقافية الإيجابية تحت لواء الوطنية مع التطوير المستمر بما يتماشى مع الحداثة بدون الإبتعاد عن الأصل والأصول.

3. الإعلام المستقل الوطني: الفرض على كل وسائل الإعلام قانونا مشرفا شفافا واضحا. يقولون إن الإعلام السلطة الرابعة، في الحقيقة على أرض الواقع هو السلطة الأولى التي بسيف قلمها تستطيع تأجيج الفتن أو بصوت كلمتها قادرة على البناء.

4. التعليم النقدي البناء: تغيير مناهج التعليم البالية ونسف كل نظم التعليم القائمة منذ عشرات السنين، وإدخال التربية النفسية وعلوم البيئة وتثبيت حب الوطن ومفهوم المواطنة، وإنشاء المختبرات ليكون التعليم عملي تطبيقي تفاعلي وليس فقط نظري جامد (حشو). هذا يُشجع التفكير الإبداعي المنطقي والنقدي. ولا ننسى إحراق كتب التاريخ (مصيبة المصائب) وإدراج كتابا موحدا يحكي التاريخ الحقيقي ويُصوب البوصلة بالإتجاه الصحيح حتى يعرف الجيل الصاعد من هو عدوه ويتعلم من أخطاء وصواب أسلافه ليُصبح عنصرا فاعلا في وطنه، رافضا للمغريات عازما على التغيير.

5. التحرر الاقتصادي والتجاري: بناء أنظمة إقتصادية مستقلة ومستدامة، تستثمر في أبناء وطنها وتستفيد من خبراتهم وعلومهم، تستصلح في الأرض وخيراتها مما على سطحها وما في جوفها. تسعى إلى وضع قوانين صارمة تساعد على تقليل التبعية للخارج بالسعي نحن الإكتفاء الذاتي وإن كان نسبي، مع خطة طوارىء فعالة للأزمات ولمواجهة الكوارث الطبيعية.

الخاتمة
صحيح أن سيكولوجية المصفوفة في الواقع العربي اليوم تعكس تحديات معقدة وسبل تعترضها الحواجز وتملؤها العثرات، لكنها ليست مستحيلة ولا مستعصية على إيجاد الحلول. إدراكنا لأبعاد هذه المصفوفة ووعينا بما فيها من استراتيجيات وأهداف حقيقية يفتح لنا الباب لكسر قيودها وإختراق حواجزها لنتمكن من بناء مجتمعات متحررة مبصرة قادرة على مواجهة التحديات والتفوق على العقبات بثقة ويقين وإبداع.

رُلى فرحات
25-12-2024