الجمعة , فبراير 21 2025
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / حذار من صناعة الوهم والأمل!

حذار من صناعة الوهم والأمل!

بقلم المحامي المتدرج أ. بسام حسن  الشريف 

حذار من صناعة الوهم والأمل
حجزت وسائل التواصل الاجتماعي في العقود الأولى من الألفية الثالثة مقعداً وازناً لها، مُحدثةُ نقلةُ نوعيةً في عالم تسليع الفكرة ومرونة وسهولة في إيصالها إلى الشريحة الوسطى في الهرم الإجتماعي،.. ألا وهي فئة الشباب الناشئ واليافع الذي يسهل معه التأثير فيه لزرع بعض الأفكار المُعلبة الجاهزة لإسقاطها في عقولهم الفتية التواقة للنجاحات والتميّز السريعيّن.
إن من ينظر نظرة ثاقبة مايكروسكوبية micro، إلى ظاهرة جديدة تجتاح عالمنا العربي وتحديداً اللبناني منه، ألا وهي مسألة مدربي الحياة life coaches وما يرافقهم بصورة متلازمة من طفرة وترويج كتب التنمية البشرية التي إجتاحت المكتبة اللبنانية من دون سابق إنذار وإنتشرت كالنار في الهشيم.

لا بد لأي عاقل أن يستوقفه هذا الحدث، ويطرح بعض الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن بصورة طبيعية عن أصل هذا الفكر وماهيته، هل هؤلاء الأشخاص مؤهلون وعلى دراية وعلم وثقافة كافية لإسداء النصح والإستشارة النفسية؟ وما هي شهاداتهم؟ وهل ما يقومون به هو عين الصواب أم كلام منثور في الهواء؟ وهل عملهم مشروع ومقونن ومنظم؟
بتعريف موجز للنظرة التاريخية لمدربي الحياة، يعود المصطلح إلى الولايات المتحدة الأمريكية في القرن السابع عشر، عُرف مصطلح coach  قديماً بالعربة، عبارة مجرية الأصل، تعني الإنتقال من مكان إلى آخر، رمزياً من مرحلة إلى أخرى، ثم اكتسح ذلك المجال الرياضي وعرف coach بالموجه للفريق، واتسعت رُقعتها لتشمل كُبرى الشركات العالمية لتعين المدرب والمُلهم لتفجير طاقة العمَلة والفعَلة والإداريين في الشركة لتحفيز وتصويب جهودهم، بعد أن أيقنوا مدى أهمية الصحة النفسية في التأثير على الإنتاجية في العمل للإبداع والإختراع.

هكذا تأصل وإنسحب مفهوم “المدرب” على حياة الفرد بعينه، لتطال وتجتاح كل جوانبه ومكامنه الأكثر دقة وحميمية، إذ شمل ذلك كافة مآزقه النفسية، وجهوده المُنكبة لترتيب حاضره، وآفاقه المستقبلية وهواجسه منها، وتعامله مع شريكه، وإيجاد قواعد لمسار حياته اليومية، وقواعد روحانية مُستقاة من مختلف مدارس الحكماء القدامى للتحفيز والتشجيع.
لا بد أن نشير إلى أن مجتمعنا يعاني ما يعانيه، من موجة الإحباط العارمة، وذلك عائدٌ لغياب وتغيب دور الدولة الحاضنة لأبنائها في المقام الأول، وإلى ما عصف بالبلاد مؤخراً من الفوضى الخلاقة لما عُرفت “بالربيع العربي”، وزد على ذلك الأزمات الداخلية من فقر وغضب وحرمان وكبت وتخبط مجتمعي، وتوجت وتفاقمت بالبطالة، إن كل هذه المشاكل البنيوية المتأصلة المتمثلة بثالوث السياسة والإقتصاد والإجتماع، تصب في خانة واحدة من شأنها أن تُحبط وتُثبط عزائم جيل بأكمله ينوء تحت هذه الأزمات المُتراكمة التي يعجز العقل والنفسية من هضمها وإستيعابها. هذا ما يؤدي إلى تصدع الأسرة إذ باتت تنحو نحو التفكك والتشرذم، التي سينشأ فيها جيلاً جديداً يتخبط بأزمة تلوى الأخرى، بظل الفراغ الفكري والعاطفي والنفسي، وبغياب المناعة الموجودة أصلاً، أي بظل إندثار وإضمحلال الهوية الفردية الشخصية للجيل الناشئ، هذا ما يسهل إلى تغلغل أي عقيدة أو فكرة إلى لاوعيه الباطن، ويعدّها بهذه الصورة ملجأه ومنقظه، إلى عالم الخلاص من الألم والمعاناة والحيرة.
هذا ما يحدو، بهذا المجتمع الهش والمتهالك بمعظمه، الفاقد المسار والمصير، الطامح إلى غد أفضل ضبابي، أن يتمسك بقشة، فتطل من خلف الأفق سفينة النجاة من وراء الظلام الدامس قبطانها ورائدها “مدربي الحياة” life coaches، المحملين والمُعبئين بأفكار وردية طوباوية ينزلونها برداً وسلاماً على جيلٍ تصب على هاتفه الذي يرافقهم ليلا نهاراً كجزء ثابت ومتلاصق بيده. ويقول له دون إستئذان كيف يصبح رجلا ناجحاً في غضون أسبوع من  الزمن! أو كيف تصبحين رائدة وناجحة ومؤثرة وثرية! وكيف تتعامل\ين مع هذه الآفة والمعضلة النفسية!
كل هذه الأفكار والمعلومات التي تُدرج وتروج لتبث بالعقول وتُنعش القلوب، ما هي إلا جُرعات مُحفزة مفعولها ينتهي بإنتهاء مُدة الفيديو المُحفز، هل رأيتم أُمرئ إنقلبت حياته رأساً على عقب دون جهد وعناء وسهر، إبتغاء تحقيق مطلوبه ومُبتغاه، فكيف تُروج أفكار النجاحات السريعة والحث على التوجيه لسلوك طرق بعيدة عن الدراسة التقليدية الأكاديمية بإعتبارها أنها غير مجدية ونافعة ومضيعة للوقت، للذهاب نحو الإستثمارات والأسهم في البورصة والشركات والإعلانات والتجارة بإعتبارها أنجع وأسرع طريق للنجاح، بحيث توقظ بذهن المتلقي مشهدية الياقات البيضاء والسيجار والمال والشهرة والحماسة للربح والنجاحات السريعة للشباب.
أضف إلى ذلك، أن أغلب من يعدون أنفسهم مدربي حياة، إذ كيف يطلقون على أنفسهم هكذا لقب، والحياة ماهي إلا أعتى مدرسة، وأهم معبد فلسفي ننهل فيه يوماً بعد يوم؟! ونتعلم كل أمر جديد ونخطئ ونصيب. هؤلاء بالحقيقة جُلهمم يقومون بدورات بسيطة لأيام معدودة، أو لبضعة أسابيع فقط، وبعدها يطلون على الناس بهيئة الواعظ والناسك والعارف والعالم والمدرك، ويتدخلون ويتداخلون بهذا الخصوص في مجالات لصيقة كالطب النفسي والفلسفة، إذ من غير الممكن إطلاق النصح بصورة عامة، لأنه إذا ما تلقفها مريض نفسي مصاب بصدمة نفسيةTrauma*، قد يتفاقم وضعه إذا إمتثل لهكذا كلام عشوائي غير مُنظم ومُحدد المعالم وموجه إلى حالة مدروسة بعينها. إن طالب الطب النفسي يحتاج أقله إلى 7 سنوات تعليم وخبرة معينة كي يعاين ويشخص حالة محددة ويضعها على السكة الصحيحة في مسار العلاج النفسي، لذلك إن معظم مدربي الحياة ليسوا أصحاب إختصاص، وهنالك فرق شاسع بين الطب النفسي ومدرب الحياة، وهم يفتقدون إلى الكثير من الخبرة والمعرفة والدراية للمعالجة، ويجب للذين يحترمون أنفسهم ومجالات غيرهم، أن يحيلوا بعض الحالات التي تتجاوز مسألة التحفيز الذاتي إلى الطبيب النفسي المعني كي لا يعبثوا بمشاعر الناس بصورة إعتباطية. ويجب تنظيم مسألة مدربي الحياة ضمن إطار قانوني منظم، أو عبر نقابة ترعى شؤونهم ليكون لها قانون معين واضح المعالم، لكن تظل إزدياد ظاهرة social media بالتوسع تغيب الرقابة الفعالة، وباتت  والفوضى سيدة الموقف في هذا المضمار.
إن أصدق مصدر يمكن الاستعانة به الإنسان ذاته، وفقاً للقاعدة المعمول بها “لا إمام سوى العقل” بوصفه المعين الأول والمرشد الكبير، أي لا مرجعية سوى رُشده ورجاحة عقله، هو من يُقيم نفسه، ويعرف مكامن القوة فيه، ونقاط الضعف، يُعزز الأولى ويُضعف الثانية، وذلك كُله من خلال التثقيف الحقيقي للفرد عبر أمهات الكتب القديمة التي تصنع فكراً عميقاً، كالتاريخ، والسياسة، والفلسفة، والقانون، والأدب، والعلوم الباطنية، والأديان، والإجتماع، والإقتصاد الذي يسهم من خلالهم بإستنباط الحكمة الضائعة. هذه المناهل الرفيعة المستوى من توقظ الذات الحقيقية للفرد وتُخرجها من ثباتها، وذلك تيمنناً بالقول المأثور لسقراط “إعرف نفسك بنفسك”، من هنا تُحدد هويتك ودورك الفاعل الفعال وتُخرج كينونتك وحضورك إلى حيز الوجود. لا باللجوء والعودة إلى الكتب الإستهلاكية التجارية الرديئة التي تُغرس وهماً ومخدرات إلكترونية فكرية وقتية لا طائل ولا فائدة منها على المدى البعيد.
لذلك، على أفراد المجتمع التنبه إلى كل ما يُبث ويُنشر ويأتيهم من معلومات والحذر والتدقيق من أي موضة (trend)  جديدة تغزو العالم الإفتراضي به، وعلى المرء أن يحافظ على نفسه، كي لا ينزلق في متاهات يصعب الخروج منها، والعودة إلى العقل والحكمة والصواب وأهل الإختصاص المؤتمنين الموثوقين من ناحية العيادات النفسية والمتحلي بالمناقبية والمهنية اللامعة.