*الاقتصاد بوصفه محرّكا خفيّا للصراعات العسكرية والسياسية الحديثة: دراسة تحليلية*
بقلم الأستاذة فاطمة حسين حمادي
يعد الاقتصاد من أبرز العوامل التي تؤثر في السياسات الدولية، وتشكّل دافعًا رئيسا للصراعات العسكرية والسياسية عبر التاريخ. لا تقتصر الحروب على الأسباب الأيديولوجية أو النزاعات الحدودية فحسب، وإن كانت ضمن لائحة العوامل، بل تؤدي المصالح الاقتصادية دورًا جوهريًا في إشعال الصراعات واستمرارها. إذ إن السعي للسيطرة على الموارد الطبيعية يمكن أن يتحول إلى صراع عسكري عندما تتعرض مصالح الدول الكبرى للتهديد. ولطالما كانت الموارد الطبيعية جوهر الصراعات، فمن الحروب الاستعمارية إلى الحربين العالميتين، شكلت الموارد محركًا للنزاعات، حيث سعت القوى الكبرى للسيطرة على الأراضي ذات القيمة الاقتصادية العالية. حتى في النزاعات الحديثة، مثل حرب الخليج، كانت الموارد مثل النفط عاملاً حاسمًا في تحفيز التدخلات العسكرية.
الاقتصاد لا يشعل الحروب فحسب، بل يستخدم أيضًا أداة سياسية. العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول الكبرى على خصومها، تعد من الوسائل غير العسكرية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار أنظمة أو إضعافها بشكل كبير.
في العصر الحديث، تُستخدم العقوبات الاقتصادية أداة بديلة للحرب. تعد هذه العقوبات محاولة لتحقيق أهداف سياسية من دون اللجوء إلى العنف العسكري المباشر، لكنها قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى تأجيج الصراعات وتحويلها إلى حروب بالوكالة.
في الحرب الباردة، كان الاقتصاد أداة فعالة للهيمنة السياسية. تنافست الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي في بناء اقتصاديات قوية كوسيلة لتوسيع نفوذهما السياسي. حتى اليوم، تستمر القوى الاقتصادية الكبرى، مثل الصين والولايات المتحدة، في استخدام نفوذهما الاقتصادي لتعزيز مصالحهما الجيوسياسية.
وتكمن الإشكالية في الآتي: إلى أي مدى يمكن عد العامل الإقتصادي محرّكا رئيسا في إشعال الحروب والنزاعات؟ وما هو تأثير هذه العوامل على استراتيجيات الدول الكبرى في توجيه سياساتها العسكرية والخارجية؟
منذ الحروب الاستعمارية التي اندلعت في القرون الماضية حتى الحروب الحديثة في الشرق الأوسط وأوروبا، يظهر بوضوح أن الدوافع الاقتصادية كانت دائمًا مركزا للعديد من الصراعات. فقد سعت القوى الكبرى، تاريخيًا، إلى الإستحواذ على الأراضي التي تحتوي على موارد استراتيجية لتمويل إمبراطورياتها وتعزيز نفوذها العسكري. حتى في العصر الحديث، فإن النزاعات الكبرى، مثل النزاع اللبناني الإسرائيلي الممتد من 1978 – بما يعرف بعملية الليطاني – وحتى الآن، ومثل حرب العراق في 2003، والنزاع الروسي-الأوكراني الذي بدأت القوى الكبرى تعبيد الطريق له منذ 2014، لا يمكن فصلها عن المصالح الإقتصادية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالنفط والسيطرة على إمداداته.
بادئ ذي بدء: إن النزاع اللبناني-الإسرائيلي لم يكن في الأساس صراعًا عسكريًا وسياسيًا وحسب، بل كان مدفوعًا بشكل كبير بالطموحات الاقتصادية للكيان الصهيوني في المنطقة، مستفيدًا من الموقع الاستراتيجي للبنان وثرواته الطبيعية المحتملة.
لبنان، على الرغم من مساحته الصغيرة، يمتلك موقعًا استراتيجيًا على البحر الأبيض المتوسط، مما يجعله ممرًا تجاريًا مهمًا يربط بين الشرق الأوسط وأوروبا. هذا الموقع لعب دورًا في زيادة أطماع الكيان، حيث سعى للاستفادة من هذه المكانة الإستراتيجية لتحقيق مكاسب إقتصادية وتعزيز نفوذه الإقليمي.
أحد العناصر الاقتصادية المهمة التي دفعته إلى تعزيز وجوده العسكري في لبنان هو الثروات الطبيعية غير المستغلة في البحر المتوسط. فخلال السنوات الأخيرة، كشفت الدراسات الجيولوجية عن إحتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي في البحر، ضمن ما يُعرف بـ “حوض ليفانت” الذي يمتد عبر سواحل لبنان وفلسطين المحتلة وقبرص. هذا الحوض يحتوي على كميات هائلة من الغاز، ما جعله نقطة صراع بين دول المنطقة. الكيان، الذي يعتمد بشكل كبير على الطاقة، رأى في هذه الثروة فرصة لتأمين احتياجاته المستقبلية وتعزيز صادراته من الغاز، ما دفعه للسعي إلى السيطرة على المياه الإقليمية والمجالات الاقتصادية المرتبطة بلبنان. إضافة إلى ذلك، كان لقطاع المياه أيضًا دور في هذا النزاع: فلبنان يمتلك موارد مائية كبيرة مقارنة بجيرانه، مثل نهر الليطاني الذي يُعتبر مصدرًا مهمًا للمياه العذبة. تاريخيًا، طمع الكيان في مياه الليطاني كجزء من استراتيجيته لتأمين الموارد المائية، وخاصة في المناطق الجنوبية الجافة نسبيا. خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بين 1978 و2000، حاول الإحتلال استغلال المياه اللبنانية لتلبية احتياجاته المائية.
الجانب الإقتصادي الآخر هو البنية التحتية الحيوية في لبنان، مثل موانئه التجارية، فموانئ بيروت وصيدا وطرابلس تُعدّ رئيسية في المنطقة، وكانت السيطرة على هذه المرافق توفر للكيان الصهيوني منفذًا إضافيًا للتجارة والنقل البحري، والتحكم في هذه الموانئ أو على الأقل تعطيل عملها في فترات النزاع كان جزءًا من استراتيجيته لإضعاف الاقتصاد اللبناني وجعله معتمدًا على شبكات إقليمية أخرى تتأثّر بالنفوذ الإسرائيلي.
أما روسيا فتعتبر مثالًا قويًا على كيفية تأثير الإقتصاد على الصراعات العسكرية والسياسية، خاصة في السنوات الأخيرة. منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، شهدت روسيا تحولات إقتصادية كبيرة: من نظام إقتصادي مركزي إلى إقتصاد سوق. ومع ذلك، بقي الإقتصاد محوريًا في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية، خصوصًا في ظل اعتمادها الكبير على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز. هذا الإعتماد على الموارد جعل روسيا تسعى دائمًا للحفاظ على سيطرتها على هذه القطاعات الإستراتيجية، مما أدى إلى تأجيج النزاعات الإقليمية والدولية.
أحد الأمثلة البارزة هو الأزمة الأوكرانية التي بدأت في 2014، حيث تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا بعد الإطاحة بالرئيس الموالي لموسكو. على الرغم من أن هذا الصراع يُفسَّر أحيانًا من منطلقات سياسية أو عرقية، إلا أن الدوافع الإقتصادية كانت واضحة، إذ أن روسيا تعتمد بشكل كبير على تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وكثير من هذا الغاز يمر عبر أوكرانيا. لذا، كان الحفاظ على النفوذ الروسي في هذه المنطقة مسألة إقتصادية حيوية دافعا روسيا إلى اتخاذ خطوات عسكرية لضمان إستمرار مصالحها الإقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، فرضت الدول الغربية عقوبات إقتصادية على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا وضمّها لشبه جزيرة القرم، وهو ما أدى إلى أزمة اقتصادية داخلية وتدهور قيمة الروبل. هذه العقوبات لم تضعف الإقتصاد الروسي فقط، بل زادت أيضًا من عزلة روسيا الدولية. ورغم هذه الضغوط، سعت موسكو لتعويض تأثير العقوبات من خلال تعزيز علاقاتها مع دول أخرى مثل الصين والهند.
وهنا، فإنّ الصراع في سوريا هو مثال متعلّق بالأزمة، حيث كانت روسيا تدافع عن مصالحها الاقتصادية المتمثلة في عقود الأسلحة والنفط مع النظام السوري، دافعا إياها لتتدخل عسكريًا، مما يبرز العلاقة المعقدة بين الاقتصاد والقوة العسكرية.
وبالنسبة إلى إحتلال العراق عام 2003، فهنا مثال بارز على كيفية توجيه القرارات العسكرية والدبلوماسية بدوافع إقتصادية بحتة. رغم تبريرات الإدارة الأمريكية بأن الحرب جاءت للإطاحة بنظام صدام حسين ونشر الديمقراطية، كانت المصالح الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالنفط، جزءًا جوهريًا في دوافع الغزو.
فالعراق، قبل الغزو، كان يحتل مكانة إستراتيجية في سوق النفط العالمي. يُقدر أن احتياطات العراق من النفط تصل إلى 143 مليار برميل، مما يجعله واحدًا من أكبر الاحتياطيات في العالم. هذا الكمّ الهائل من النفط كان دائمًا محل اهتمام القوى العالمية، بما فيها الولايات المتحدة. أحد الدوافع الرئيسية للغزو الأميريكي كان تأمين وصول الولايات المتحدة إلى هذه الثروات النفطية وضمان استقرار إمدادات النفط العالمي، خاصة بعد أن شهدت السوق اضطرابات جمّة في التسعينيات إثر غزو العراق للكويت والعقوبات الدولية التي فُرضت على بغداد. والولايات المتحدة، التي تعتمد بشكل كبير على النفط لتلبية احتياجاتها الإقتصادية، كانت تسعى إلى تقليل اعتمادها على النفط المستورد من مناطق غير مستقرة أو من منافسين مثل روسيا وفنزويلا. من هذا المنطلق، كان غزو العراق محاولة لإعادة تشكيل التوازن في أسواق النفط العالمية من خلال السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على واحد من أكبر المنتجين. كما أن السيطرة على العراق كانت تُعتبر وسيلة لتعزيز النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالطاقة، وهو ما يسهم في إضعاف النفوذ الإيراني والسعودي أيضًا.
وكان للعقود المتعلقة بإعادة إعمار العراق بعد الحرب قيمة إقتصادية هائلة. الشركات الأمريكية، مثل “هاليبرتون” و”بكتل”، إستفادت بشكل كبير من عقود بمليارات الدولارات لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة في العراق، بما في ذلك قطاع النفط، حيث كانت الشركات الكبرى المقرّبة من الحكومة الأمريكية ترى في العراق فرصة لتحقيق أرباح ضخمة. وعلى الرغم من الحديث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم تُثبت، وتحرير الشعب العراقي، يبقى البعد الاقتصادي، وتحديدًا تأمين السيطرة على ثاني أكبر إحتياطي نفطي في العالم، عاملاً جوهريًا خلف قرار غزو العراق.
تُبنى السياسات الدولية اليوم على استراتيجيات طويلة الأمد، حيث تسعى الدول الكبرى إلى تأمين إمدادات الطاقة والموارد الحيوية من خلال الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة على دول غنية بهذه الموارد. في هذا السياق، تصبح الحروب وسيلة لضمان الهيمنة الإقتصادية، حيث يمكن أن تؤدي السيطرة على مناطق استراتيجية مثل لبنان أو العراق إلى تغيير موازين القوى في المنطقة، وتؤثر على أسواق الطاقة العالمية. ولكن في المقابل، هذه النزاعات لا تأتي بدون عواقب، بل غالبًا ما تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي، كما نشهد في جنوب لبنان والشرق الأوسط بشكل عام.
أما الذي يمكن تصوره في ظل هذه السياسات، فهو تصاعد وتيرة النزاعات الإقليمية والعالمية بشكل أكبر في المستقبل. إذا استمرت القوى الكبرى في استغلال الاقتصاد للتدخلات العسكرية أو للسيطرة على الموارد، فقد نجد أنفسنا أمام حروب أكثر شراسة، ذات نطاق أوسع وتأثيرات أعمق. من الممكن أن نشهد انهيارًا كاملاً للدول الضعيفة إقتصاديًا، مما قد يؤدي إلى نشوء فراغات أمنية يُستغل فيها التطرف والعنف. هذه الحروب ستزيد من معاناة الشعوب وتدمير البنية التحتية والاقتصاديات المحلية، مما يؤدي إلى أزمات إنسانية هائلة، ويفتح المجال أمام حروب بالوكالة بين قوى إقليمية وعالمية.
وإذا كانت المنافسة على الموارد مثل المياه أو النفط العامل هي المحفز الأساس لاندلاع نزاعات جديدة قد تشمل دولًا ذات نفوذ أكبر، ستؤدي حتما إلى حرب إقليمية واسعة النطاق أو حتى مواجهة عالمية. وفي ظل هذه التطورات، يصبح من المهم التساؤل: إلى أي مدى ستستمر الدول الكبرى في استغلال الإقتصاد كوسيلة للهيمنة السياسية والعسكرية، وهل يمكن إيجاد نظام عالمي أكثر عدلاً يوازن بين المصالح الاقتصادية وتجنب النزاعات؟