الجمعة , فبراير 21 2025
الرئيسية / الأدب المنتفض / هل تفنى فكرة قيام “دولة صهيونية”؟!

هل تفنى فكرة قيام “دولة صهيونية”؟!

بقلم الأستاذة فاطمة حسين حمادي 

*فكرة قيام “دولة”: هل تفنى؟*

إنّ تاريخ البشرية حافل بصعود الإمبراطوريات وسقوطها، حيث تعددت القوى التي سعت إلى فرض هيمنتها وتوسيع نفوذها عبر العصور. من الإمبراطوريات القديمة كالبابلية والفارسية إلى الإمبراطوريات الحديثة مثل البريطانية والعثمانية، كانت كل قوة تسعى إلى تحقيق سيادة سياسية واقتصادية على المناطق والشعوب المجاورة، لكن هذه الهيمنة غالبًا ما كانت تؤدي إلى صراعات ونزاعات، وغالبًا ما كانت نهايتها محتومة بالسقوط والتفكك.
في هذا السياق، يُعدّ تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 أحد أبرز الأحداث التاريخية التي شكلت وجه الشرق الأوسط الحديث، محدثاً تحولات سياسية واجتماعية كبرى لم تقتصر آثارها على المنطقة فحسب، بل امتدت لتؤثر على الساحة الدولية بأسرها. كان هذا الحدث تتويجاً لسلسلة من التطورات التاريخية، الفلسفية، والسياسية التي تجسدت في مشروع إقامة دولة قومية يهودية على أرض فلسطين، وهي فكرة تبلورت نتيجة لتراكمات معقدة من الظروف التي عايشها اليهود في أوروبا والشتات لقرون طويلة كما يقال. ظهور الصهيونية كحركة قومية في نهاية القرن التاسع عشر جاء – كما يقال – كردّ فعل على تفاقم معاداة السامية، واستجابة لأزمات وجودية عميقة عانى منها اليهود الذين وجدوا أنفسهم بلا وطن معترف به.
إن تحليل الدوافع الفلسفية والوجودية وراء هذا المشروع يتطلب فهماً عميقاً للفكر الصهيوني، الذي تأثر إلى حد كبير بالأفكار الأوروبية السائدة آنذاك، مثل التنوير والقومية الحديثة. أدرك مؤسسو الصهيونية، وعلى رأسهم تيودور هرتزل، أن إنشاء دولة قومية لليهود هو السبيل الوحيد لإنهاء “معاناة” اليهود في الشتات وتحقيق حلم العودة إلى “أرض الميعاد”. كان هذا التوجه مدعوماً بأبعاد دينية وروحية قوية، ولكن أيضاً بتطلعات سياسية تسعى إلى إقامة دولة حديثة تتناسب مع المتغيرات العالمية.
في الوقت ذاته، لم يكن المشروع الصهيوني ليصبح واقعاً لولا الدعم الكبير الذي تلقته الحركة الصهيونية من القوى الدولية، خاصة بريطانيا، التي قدمت دعمها من خلال وعد بلفور عام 1917، مما ساعد على تسريع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس البنية التحتية التي أدت في النهاية إلى البدء بقيام “الدولة”. هنا، يبرز السؤال حول الدور الذي لعبته السياسات الاستعمارية والظروف الدولية في إنشاء إسرائيل، خاصة في ظل السياق السياسي الذي خلفته الحربان العالميتان، وتأثير القوى الكبرى في تحديد مصير المنطقة.
من الناحية السياسية والعسكرية، حاول الكيان منذ لحظة تأسيسه ترسيخ نفسه كقوة إقليمية محورية فتبنّى نظاماً سياسياً “ديمقراطياً”، يقوم على توازن دقيق بين الهوية اليهودية والديمقراطية التعددية، في وقت طوّر فيه جيشاً يتمتع بتفوق تكنولوجي وعسكري لافت، مما مكنه من الحفاظ على “أمنه” وسط بيئة إقليمية مقاومة. يعتمد الكيان بشكل كبير على الدعم الدولي، لا سيما من الولايات المتحدة، لتأمين استقراره وتعزيز نفوذه في المنطقة، وقد عزز عقيدته الأمنية على مبدأ الردع والتفوق العسكري، خاصة في ضوء التحديات المستمرة المستحدثة على حدوده المحتلة.
إلى جانب ذلك، يُعد النزاع الإسرائيلي-اللبناني من أبرز الصراعات التي تركت بصمتها في العلاقات الإقليمية والدولية. هذا النزاع الذي بدأ منذ تأسيس “الدولة”، وشهد تصاعداً مع اجتياحي 1978 و1982، وصولاً إلى حرب 2006، يعكس مدى التعقيد الذي ينطوي عليه الصراع في الشرق الأوسط. لعبت حركات المقاوة اللبنانية دوراً رئيسياً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مما زاد من حدة التوترات بين الطرفين. في هذا السياق، لا يمكن إغفال دور القوى الإقليمية الأخرى، مثل سوريا وإيران، في تعزيز المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، وتأثير هذه التدخلات على توازن القوى في المنطقة.
وهنا سؤال يطرح نفسه: هل كانت الحركة الصهيونية نتاجا طبيعيا للاضطهاد الأوروبي لليهود, أم كانت استراتيجية استعمارية لتحقيق مصالح القوى الكبرى؟ وكيف تستمر هذه الدوافع في تشكيل مستقبل إسرائيل في ظل العقبات المتعلقة بالهوية والشرعية والأمن؟
إن الحجة الرئيسة هنا تستند إلى أن الحركة الصهيونية استغلت معاناة اليهود في أوروبا، وخاصة في ظل معاداة السامية، لتحقيق مشروع استيطاني على حساب السكان الأصليين في فلسطين. إن دعم القوى الكبرى للصهيونية لم يكن مدفوعًا بالرغبة في توفير وطن لليهود بقدر ما كان جزءًا من لعبة كبرى في الشرق الأوسط. بريطانيا، عبر وعد بلفور، لم تكن تهدف فقط إلى دعم “وطن قومي لليهود”، بل كانت تسعى إلى ضمان نفوذها في منطقة إستراتيجية غنية بالموارد وتقع في مفترق طرق تجارية حيوية. كما أن الولايات المتحدة تبنت هذا المشروع لاحقاً، ليس لأسباب أخلاقية أو إنسانية، ولكن للحفاظ على وجود حليف قوي ومتحالف مع الغرب في منطقة مليئة بالصراعات.

إن المشروع الصهيوني تجاهل تمامًا حقوق السكان الأصليين الذين عاشوا على هذه الأرض لقرون طويلة تماما كما تم تجاهل السكان السكان الأصليين في أميركا وإبادتهم. بتهجيرهم قسراً في ما أصبح يُعرف بالنكبة، تتبيّن هذه السياسة الاستيطانية، التي قامت على مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، وتمسي استمرارية لنهج يهدف إلى السيطرة على الأرض بغض النظر عن الشعب الذي يعيش عليها. في الحالتين، تمت مصادرة الأراضي بالقوة وتهميش السكان الأصليين، سواء عبر القتل المباشر أو التهجير القسري أو فرض ظروف معيشية قاسية تؤدي إلى إضعافهم وتقليص أعدادهم. كما استُخدمت الأساطير الدينية والتبريرات الأخلاقية لإضفاء شرعية على هذه العمليات، حيث بُررت “الاستيطانية” في أمريكا بالقدر الإلهي، بينما استُخدمت فكرة “أرض الميعاد” لتبرير الاستيلاء على فلسطين، مما أدى إلى تجاهل حقوق السكان الأصليين وتجريدهم من هويتهم وأرضهم.
وبالرغم من هذا الاستشراس, ما زال الكيان يواجه أزمة شرعية وهوية عميقة، حيث إنه قائم على الإستعمار والإستيطان، وبالتالي فهو يعاني من أزمة أخلاقية مرتبطة بعدم قدرته على التوفيق بين هويته كدولة يهودية وديمقراطية، وبين حقيقة وجود شعب للأرض. هذه التناقضات تؤثر بشكل مباشر على مستقبل الكيان نحو الهاوية، حيث يصبح من الصعب الحفاظ على فكرة “الديمقراطية” في ظل الاحتلال والإستيطان المتواصلين.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الكيان بشكل مفرط على القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي، ما يعزز عقلية “الحصار” ويمنع أي إمكانية للتعايش السلمي مع “جيرانه”. تستند استراتيجيته الأمنية إلى الردع واستخدام القوة، ما يعمق حالة العداء ويؤدي إلى مزيد من التصعيد بوجهه من جهة المقاومة. كما أن هذا الإعتماد المفرط على الدعم الأمريكي يضعف هذا الكيان، حيث ترتبط سياساته بشكل وثيق بمصالح القوى الغربية. يعتمد الكيان الصهيوني بشكل مباشر على الدعم الأمريكي في مجالات متعددة، بما في ذلك المساعدات العسكرية والاقتصادية، والدعم السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية. هذا الإعتماد الذي من المفترض أن يعزز قدرته على الحفاظ على تفوقه العسكري والتكنولوجي في المنطقة، ويمنحه الحماية من الضغوط الدولية فيما يتعلق بممارساته ضد من يحيط به قد يضعف موقفه، حيث يجعله رهينة للتغيرات في السياسة الأمريكية، التي قد تتغير بناءً على مصالح الولايات المتحدة أو تبدلات في الإدارات أو تحولات في المصالح الجيوسياسية الخاصة بالولايات المتحدة. أي تراجع في الدعم الأمريكي أو إعادة تقييم استراتيجي قد يُعرض”إسرائيل” لعزلة أكبر ويقوّض من قدرتها على الحفاظ على استقرارها في منطقة مليئة بالصراعات.
من هذه الزاوية، يمكن القول: إن الحركة الصهيونية لم تكن فقط استجابة لإضطهاد اليهودي في أوروبا، بل كانت مشروعًا استعماريًا متواطئًا مع القوى الكبرى لتحقيق المصالح. هذا التصور يعزز فكرة أن مستقبل إسرائيل سيظل مرتبطًا بتحديات الهوية والشرعية والأمن ما دامت تعتمد على القوة العسكرية وتجاهل الحقوق وإبادة الشعوب. قد يلعب دور الأحزاب الداخلية في إسرائيل دورًا حاسمًا في استنزاف الكيان الصهيوني، إذ تعكس التوترات السياسية بين الأحزاب المختلفة الانقسامات العميقة في المجتمع الإسرائيلي. الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تدعم التوسع الاستيطاني وسياسات الصدام مع الفلسطينيين قد تساهم في تصعيد النزاع مع المجتمع الدولي، مما يزيد من عزلة إسرائيل. في المقابل، الأحزاب اليسارية والعربية التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال وحل الدولتين تواجه ضغوطًا داخلية من القوى اليمينية، مما يعزز الانقسامات الداخلية. هذه التناقضات السياسية بين اليمين واليسار –المتشددين- قد تؤدي إلى تفاقم الأزمات الداخلية وإضعاف استقرار “الدولة”، مما يسهم في زوالها إذا لم تُحل تلك التوترات بشكل فعال.
وفي ظل هذا السيناريو، قد تجد إسرائيل نفسها معزولة دوليًا، ومضطرة لمواجهة أزمات اقتصادية وعسكرية دون الغطاء الأمريكي المعتاد، مما يضعف قدرتها على الاستمرار في حروبها ويجعلها عرضة لاضطرابات داخلية وتهديدات خارجية متزايدة، خاصة من الأطراف الإقليمية التي تعارض سياساتها التوسعية.

فاطمة حسين حمّادي