على أبواب سميح القاسم، قفْ “منتصب القامةعلى أبواب سميح القاسم، قفْ “منتصب القامة””
بقلم البروفيسور أيـمن أحمد رؤوف القادريّ
“القصائد يا عزيزي لا تزال القادرة والمؤهّلة للتّحليق بغزارة وعنفوان”.
هكذا قال سميح القاسم (1939-2014م) في محاورة مع جريدة “الخليج” في 8 نيسان 2011، نشرتها تحت عنوان “سميح القاسم: لا يوجد شِعرٌ خارج الوجع الإنسانيّ”.
إنّه شاعرٌ مفعمٌ بالعِزّة الصّادحة، من مدينة صفد بفلسطين. ولد في الزّرقاء بالأردن، ونشأ في قرية الرّامة شماليّ مدينة عكّا، وأطلق العِنانَ لقلمِهِ المتمرِّد، يقتحم حصونَ البَغْيِ تحت لواء القضيّة العادلة. ولهذا تعرض للكثير من التّضييق، فوُضِعَ رَهن الإقامة الجبريّة مرارًا، وسُجن مرارًا، ومن هناك قال مخاطبًا أمّه في قصيدة “رسالة من الـمعتقَل”: “أُومِنُ أنَّ روعةَ الحياةِ تُولَدُ في مُعتَقَلي”.
توفّي سميح القاسم في مدينة صفد، بعد عراك مع مرض السّرطان، عن عمر يناهز 75 عامًا. وفي آخر أيّامه كتب سطورًا قصيرة نشرها على صفحته في “الفيسبوك”:
“أنا لا أُحِبُّك يا موتُ… لكنّني لا أَخافُكْ.
وأُدرِكُ أنَّ سريرَكَ جسمي، ورُوحي لِحافُكْ..
وأُدرِكُ أنّي تَضيقُ عليَّ ضِفافُكْ..
أنا لا أُحِبُّك يا موتُ…
لكنّني لا أَخافُكْ…”
وللشّاعر العديد من الأعمال الأدبيّة الّتي اشتُهر بها، ومنها مجموعات شعريّة ومسرحيّات وروايات. وقد تميّز أدبه بالرّقيّ الأسلوبيّ، وبقدر من الانكفاء إلى الباطن، والاحتفاظ بالمعنى الغامض في “قرارة الحروف” الّتي تتركه، قال في “القصيدة النّاقصة”:
“وَيلاهُ، إنَّ أَحْرُفي تَتْرُكُني…
… لكنَّني أَسْمَعُ في قَرارَةِ الحُرُوفِ
بَقِيَّةَ النَّغَمْ
أَسْمَعُ يا أَحِبَّتي بَقِيَّةَ النَّغَمْ”
وتضمّنت هذا التّوجُّهَ أيضًا قصيدتُه “في القرن العشرين”:
“… أنا قَبْلَ قُرونْ
ما كنت سوى شاعِرٍ
في حَلَقاتِ الصُّوفِيّينْ..”
وهو في ذلك يشير إلى أنَّ الشّعر الصّوفيّ ساحةٌ واسعةٌ للتّأويل البعيد والتّضمين الدّؤوب والـتّرميز الغريب. وهكذا يمهّد لنا في مقاربة قصائده أن نُهرَع بين الحين والآخر إلى تأويلاتٍ تتجاوَزُ مألوفَ الـنّصّ.
***
ونحن في هذه الـمقالة سنقف على أبواب هذا الشّاعر، وبأيدينا قصيدةُ “أمشي”، من مجموعته “دخان البراكين”.
تلك القصيدة رَشَقاتُ عنفوانٍ، غنّاها المطربُ اللّبنانيّ مارسيل خليفة عام 1984. وقد طُبِعَت مع ديوانه الكامل الصّادر عن دار العودة ببيروت، في العام 1987م، وموضعها في الصّفحتين 174و175.
وهذا نصّ القصيدة، وسيلاحظ القارئ أنّه يغاير نصّ الأغنية بعض المغايرة:
مُنتَصِبَ القامةِ أمشي
مَرفوعَ الهامةِ أمشي
في كَفِّي قَصْفةُ زيتونٍ وحَمامَهْ
وعلى كَتِفي نَعْشي
وأنا أمشي…
قلبي قَمَرٌ أحمرْ
قلبي بُستانْ
فيه العَوسَجْ… فيه الرَّيحانْ
شَفتايَ سماءٌ تُـمطِرْ
نارًا حينًا، حُـبًّا أحيانْ…
وأنا أمشي، أمشي
مُنتَصِبَ القامةِ….. مَرفوعَ الهامَهْ
في كَفّي قَصْفَةُ زيتونٍ وحَمامَهْ
وعلى كَتِفي نَعْشي
***
يبدأ النّصّ بالحال “منتصب”، قبل الفِعْل، خلافًا للأصل، ولا بدّ أن يشكّل لنا هذا لفتًا للنّظر.
وسرعان ما نتبيّن أنّ “منتصب” كلمةٌ منتصبةٌ، أي منصوبة بالفتحة، فكأنّ الشّاعر أراد الإيحاء بأنّ البناء اللّغويّ للجملة العربيّة، سيقابله البناء العضليّ للقامة العربيّة، فالتّماسك هو السّمة الموحّدة.
ونتبيّن كذلك أنّ الشّاعر قادمٌ من رحلة بعيدة، فهو يقول “أمشي” خمس مرّات في أسطر وجيزة. فإذا كان بعيدًا، وهو يخطو باتّجاهنا، فإنّ قامته تظهر للعيون، قبل أن يظهر موضع قدميه، وهكذا قدَّم ذكر القامة على المشي.
ولكنّ هذه القامة المنتصبة، لا تدلّ بالضّرورة على العزّة والكرامة، أو لنقل إنّ دلالتها قاصرة، فقد يسير المرء منتصبًا، ورأسُه منحنٍ صوب الأرض. ولهذا جاء السّطر الثّاني طبيعيًّا في تنامي حركة التّمرّد، وأشار إلى الهامة المرفوعة.
ولكن، ألم يكن بإمكان الشّاعر أن يقول أيضًا: “منتصب الهامة”؟ لماذا اختار لفظ “مرفوع”؟ ربَّــما لأنّ علماء النحو يرَونَ أنّ الرّفع أقوى من النّصب. إذًا، شاعرنا يبرز في كلّ سطر أشدَّ قوّةً، وقد أحسن بترتيب الرّفع بعد النّصب، وبترتيب الهامة بعد القامة، لأنّ الهامة موضع الدّماغ الّذي يتحكّم بكلّ الجسد.
وإذا كانت اللّفظة “مرفوعَ”، الّتي وردت منصوبة، لا مرفوعة، تثير التّساؤل، فالجواب هو أنّ الشّاعر يحيا شيئًا من التّمرّد الخافت، الّذي بدأت تتفلّت منه إشارات، تلو إشارات، وهي إشارات لا تلبث أن تصبح أكثر صراحة، بعد قليل.
***
“في كفّي قصفة زيتون”…
لقد نقل ابن كثير (774ه) في تفسير الآية {والتّينِ والزّيتونِ} عن جمعٍ من التّابعين أنّ الزّيتون “مسجد بيت المقدس”، فهل هو كذلك في عبارة سميح القاسم؟ ليس هذا ببعيد.
ثمّ إنّ الزّيتون أيضًا ورد رمزًا للبركة والعلوّ والنّور والنّار في الآية {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}، وهذه الـمفاهيم حاضرة في ثنايا القصيدة، وهي استكمال لصورة فلسطين، ومسجد بيت المقدس.
ولا شكّ أنّ رمزيّة السّلام في غصن الزّيتون حاضرةٌ بقوّة وبوضوح.
والشّاعر قدّم الخبر “في كفّي” على المبتدأ “قصفة”. صحيح أنّ هذا التّقديم واجب، لكن كان تفادي ذلك بإمكان الشّاعر عبر تعريف المبتدأ، كأن يقول “قصفة الزّيتون”، إلّا أنّ ما اختاره كان الأقوى.
فلقد أراد أن يقول: ليست قصفة الزّيتون هي المهمّة، حتّى ألفت إليها النّظر! كلّ النّاس يحملون قصفات الزّيتون، ولكنّهم لا يقدّمون ولا يؤخّرون في المعادلة، معادلة المواجهة مع المحتلّ. أمّا أن يكون الإنسان الأبيّ، الّذي لا ينحني، لا بقامته، ولا بهامته، هو الّذي يتحدّث عن غصن السّلام، فإنّ القضيّة تختلف. هذا يعني إصرار الإنسان الفلسطينيّ على السّلام الّذي لا يهدر الكرامة.
وحتّى يوضح الشّاعر هذا السّلام الشامخ، نكّر لفظة الزّيتون: “في كفّي قصفة زيتون”، فليس غصن السّلام الّذي يحمله، هو نفسه غصن السّلام الّذي يحمله الزّاحفون إلى المفاوضات المذلّة. إنّ السّلام الّذي يتبنّاه “يقصف” الطّاولات حيث تحاك المؤامرات، و”يقصف” بالصّواريخِ مواقع المحتلّ. ألم تُفِدِ الآية أنّ شجرة الزّيتون وَقودُ البركة؟ لقد اختار الشّاعر كلماته بعناية، وركّب عبارته “قصفة+ زيتون”، فهما خياران حاضران أمام الفلسطينيّ: القتال (القصفة) والسّلام (الزّيتون)، وله الخيار متى شاء، ألم يقل: “في كفّي”؟ أليست الكفّ كناية عن القدرة؟
غير أنّنا لم نُشِرْ بعد إلى الحمامة: “في كفّي قصفة زيتون… وحمامة”.
تبرز الحمامة توأم قصفة الزّيتون في رمزيّتها الأسطوريّة، فهما معًا اقترنتا بقصّة نوح، عليه السّلام، حين زال خطر الطّوفان، وآن أوانُ الطّمأنينة والخروج من السّفينة. يبدو من الوَهلة الأولى أنّ الشّاعر يؤكّد حبّه للسّلام، لكنّ الحمامة ليست محلّقة فوق رأسه أو كتفه، بل هي في كفّه، وهذا يدلّ على أمرين: الأوّل أنّه الّذي يتحكّم بقرار السّلام وشروطه، والثّاني أنّه يمتلك أن يُزهِق حمامة السّلام متى رأى أنّها لا تحفظ عِزَّته، فهي في قبضته، وأصابعُه تحيط برقبتها.
هذا السّلام المقترن بالكرامة هو الّذي مهّد له بـ”منتصب القامة” و”مرفوع الهامة”.
***
وليثبت الشّاعر أنّــه مصرّ على خطّ الكفاح، وأنّه لا يبحث عن السّلام الّذي لا فائدة منه إلّا حجب السّكين عن العنق، أردف بقوّة طاحنة: “وعلى كتفي نعشي”، وإنّها لَعبارة تستدعي كلّ وسائل الإدراك النّقديّ.
كثيرون منّا أسهموا في حمل النّعوش، وأدركوا أنّ النّعش الواحد في حاجة إلى حاملَين، في أدنى اعتبارٍ، يتجدّدان باستمرار، فهو في حاجة إذًا إلى أربع أكتاف متغيّرة على رأس خمس دقائق. لكنّ الشّاعر، ومن خلاله الإنسان الفلسطينيّ، أُوتي ما لم يؤته أحد، فهو قويّ يحمل النّعش الواحد بكتف واحدة، وهذه قوّة متناهية!
والأمر لا يقف عند هذا الحدّ. أيمكن أن يفكّر الإنسان في أن يحمل نعشه؟ نعم، إذا كان يؤمن أنّ النّاس عند موته يتنكّرون له، ويتخاذلون، حتّى يبلغ بهم الأمر أن يخافوا من السّير في جنازته! فمَنِ النّاس الّذين تخاذَلوا؟ نترك الجواب لحنكة القارئ!
ثمّ إنّ تاريخ النّضال المعاصر في وجه الجبروت الإسرائيليّ شهد عِصِيًّا عديدة في إطاراته، ليس أقلّها أن يصف المضلِّلون أصحابَ البطولاتِ بالتَّهوّر والطّيش، وبأنّ مغامراتهم المجنونة سوف تجرّ الجميع إلى الدّمار. لكنّ الشّاعر تيقّظ لهذه المسألة، وقال إنّ قصفة الزَّيتون الّتي يحملها ليست له، ولهذا لم يقرنها بضمير المتكلّم، فالسّلام الشّامخ الّذي يريده ينعم به الجميع حين يتحقّق. وقال بعد ذلك إنّ الاستشهاد الّذي يختاره يتحمّل هو وحده تبعاته، فليس ثمّة إلّا نعش واحد، ولا يحمله ولا يتحمّله إلّا واحد، وهو الشّهيد نفسه.
***
هذا كلّه لو كانت “الكفّ” في السّطر الثالث هي جزء اليد. ترى: أليس من تفسير آخر؟
أستطيع أن أقول إنّ “الكفّ” هنا مصدر الفعل “كَفَّ”، فامتناع الشّاعر، ومن خلاله الإنسان الفلسطينيّ، عن السّير منتصب القامة، مرفوع الهامة، سيؤدي إلى أن “يُقصَف” الزّيتون، أي ينثني ويُكسَر. ولن أفسِّر الزّيتون الآن إلّا أنّه رمز الفلسطينيّ المغروس في أرضه، أرض الزّيتون. إنْ توقَّفَ الفلسطينيّ، إذًا، عن المشي بعِزّة، فسيُرغَم على الانحناء، بل ربّما يحمل نعشه، وهذا نذير الموت، وحَمْلُ النَّعش سيحني رأسه، بعد ارتفاع.
وهكذا يكون السَّطران الثّالث والرّابع معبّرين عن أضداد ما في سابقيهما (أمشي ≠ الكفّ) (منتصب القامة ≠ قصفة زيتون) (مرفوع الهامة ≠ على كتفي نعشي).
***
ثمّ نصل إلى قوله: “وأنا أمشي”.
إنّه مُصرّ على الـمشي، وهذا كناية عن الحركة الـمستمرة المشبعة بالحيويّة، على الرّغم من أنّه يحمل بثقةٍ نعشه على كتفه، وهذا كناية عن الموت، وكناية عن اتِّــئاد الخطوات في آن واحد! أليس في هذا إمعانٌ في سياسته السّابقة القائمة على الضّدّيّة؟ وبضدّها تتمايز الأشياء.
إذًا الــميّت في الــنّعش ما زال يمشي، إنّه مشْي ذو نكهة مختلفة، ومعنًى فريد. أيمشي في الـــنّاس، وعبر الأجيال، بشعره الّذي كُـــــــتِبَت له السّيرورة؟ قد تحمل الأسطر التّالية البيان الشّافي.
***
وقبل ذلك، سيكون طبيعيًا ومنطقيًّا أن نستفسر عن الّذي يمدّ القدمين بهذه الطّاقة الكبرى، حتّى تسيرا من دون أدنى انقطاع. وسيكون الجواب الطّبيعيّ في كلمة “قلبي”، لكنّ تجاوُزَ الـمألوفِ يكمن في إسناد “قمر” إلى “قلـــبي”، وما بالنا نتحدّث عن الـمألوف، والشّاعر قد حطّم منذ الوهلة الأولى صورة المألوف في أعيُــنِنا؟
ستــتعبنا محاولة ربط هذا التّشبـيه “قلبي قمر” بالأفكار الواردة قبلـه، وسنذهب في احتمالات شتّى، وأبرزها أن يكون القلب ذا مراحل متعدّدة، يضيء مرّة، ويتضاءل مرّة، ويختفي مرّة. لكنّ هذه الصّورة تخدش صورة الحركة المستمرّة الّتي غمرتنا بها كلمة “أمشي”. ولهذا لا نلبث أن نرفض هذا الاحتمال.
أمّا أنا فأرضى أن يكون القمر رمزًا للحركة المستمرّة ذاتها، فهو يجوب الفضاء منذ آلاف السّنين، أفلا يكون من شأن قلبٍ يشبه هذا القمر أن يمدّ الجسد كلّه بكلّ طاقات الحركة؟ لقد قال إنّه قمر أحمر، ليشير إلى أنّه ينبض بالدّم، وهكذا اجتمع في الصورة نوعان من التّحرّك: الأوّل هو التّحرّك الخارجيّ من مكان إلى آخر، وهو شأن القمر، والثّاني هو التّحرّك الدّاخليّ، وهو شأن القلب الّذي لا يغادر مكانه في الجسد، لكنّه ينبض وينبض من دون توقّف.
واللّونُ الأحمر في القمر يدلّ على الخسوف، ويسمّى آنذاك بـ”قمر الدّم” أو “القمر الدّمويّ، ورَبْطُ الشّاعر قلبه بالدّم في سياق شعرٍ نضاليّ أمرٌ طبيعيّ.
غير أنّي أميل إلى أنّ الشّاعر يشير إلى أسطورة المستذئبين الّذين يتحوّلون من بشرٍ إلى ذئاب ضارية مع ظهور القمر الأحمر، وهذا يعني أنّ قلب الشّاعر هو الّذي سيبعث الضّراوة والبأس في قلوب المقاتلين، ليكونوا أبطال الميادين، بشراسة غير مألوفة.
وقد نضيف إلى ذلك أنّ “القلْب” يعني العَكْس أيضًا، ومنه عكس ترتيب حروف الكلمة، وإذا أعدنا قراءة العبارة “قلبي قمر أحمر”، وجدنا أنّ قَلْب كلمة “قمر” يُفضي إلى كلمة “رمــــق”، ومعناها “بقيّة الحياة في الجسد”!!! وهكذا نجد، وإن بتأويل بعيد، أنّ الشّاعر يشكّل بقيّة الحياةِ في الجسد العربيّ.
***
ولكن… لماذا تنازل الشّاعر، وتخلّى عن عظمة القمر في حجمه وعلوّه، وارتضى أن يصف القلبَ ببستان، والبستان لا يملك- أيًّا كان- أن يضارع القَمر؟؟! أما جرى الشّاعر قبلُ على وتيرة التّـــصاعد السّريع؟
لا شكّ أنّ البستان يشكّل امتدادًا لمفهوم أنّ فلسطين أرض التّين والزّيتون، وبهما أقسم الله في قرآنه، وهي أيضًا أرض البرتقال، وهل تغيب عنا مجموعة غسّان كنفانيّ (1936-1972م) القصصيّة “أرض البرتقال الحزين”؟ ثمّ إنّ “حيّ البستان” في جنوبيّ المسجد الأقصى له تاريخ نضاليّ كبير. فوصْفُ القلبِ بالبستان بعد وصفِهِ بالقمَرِ تصاعدٌ في الدّلالة.
وإذا كان قلب الشّاعر هو البستان، فشفتاه هما السّماء الّتي تمطر لتروي هذا البستان، كما سيلي.
***
نصل إلى قول الشّاعر “فيه العوسج”، حيث خالف الأصل الـــنّحويّ في تقديم الخبر على المبتدأ، على الرّغم من انتفاء ما يدعو إلى الوجوب.
لعلّ الشّاعر تَصَوَّرَ أن نشكّ في وجود العوسج وأشباهه من الأشواك في بستانه، لأنّ قدرته الّتي أشرنا إليها سابقًا جعلتنا نصنّفه في مصافّ الكائنات الأسطوريّة. وإذا صنّفْناه كذلك تقاعسْنا عن سلوك سبيل الكفاح الـمشروع لاسترجاع فلسطين، مردّدين: ومَن يفعَل ذلك إلّا أبطال الـملاحم في أخيلة الشّعراء؟
لقد ذكر الشّوك لإرساء الواقعيّة في طبيعة المناضلين، فهم يتألّمون: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ}. والشّوك هو الّذي كنّى به القرآن عن درب الجهاد: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.
لقد أراد الشّاعر أن يشعرنا أنّـــه في تعرّضه لصنوف الأذى مثلُ الآخرين، فليكن الآخرون مثلَه في مقارعة الأذى. ولهذا أيضًا نجد أنّـــه لم يُشِر إلى العوسج بالـــتّنكير، إنّ “أل” هنا ليست إلّا “أل” الجنسيّة، أي إنّ كلّ أصناف العوسج في بستانه، وهو قلبه، وإنَّ كلّ أشكال المعاناة في وسط طريقه، ولكنّها لم تمنعه من الـمسير.
***
ولأنّ العوسج لا يشكّل لبّ القضيّة، وليس إلّا كلمة يتيمة في معجم الشّاعر، ألقى عليها عصا موسى لتلتقمها.
لقد ذكر الرّيحان، وهو نبت أبيض طيّب الرّائحة، يضعه فوق القبور زُوّارُها. وهكذا يكون الاختيار دقيقًا، لأنّ الرّيحانَ كناية عمّا يُعِدُّه منذ الآنَ لقبرِه حيث سيستوي نعشه الّذي يحمله منذ سنين.
لــربّما كان الرّيحان كناية عن كلّ الـمحاولات الّتي يلجأ إليها الشّاعر، حين لا يستسلم لفكرة الـموت، ويحاول إنعاش الـميّت، عبر إنعاش التّراب فوق قبره، وهي محاولة قلبيّة، أليس الرّيحان في البستان، أي في قلبه؟
هذا الرّيحان لن ينمو ويكثر، حين تنهمر عليه أمطار خاصّة، ولهذا يقول: “شفتاي سمــــــاء تمطر”؟ وهاتان الشّـــفتان تعبّران أيضًا عن قصائده الغزيرة، وهي كفيلة بإخراج شعب بأكمله من الـموت الانهزاميّ. نعم، قصائده تـمنع الرّيحان أن يكون مجرّد محاولة. قصائده هي الوعاء الصّحيح لما في قلبه. ألم يوضح أنّ شفتيه هما السّماء، والسّماء هي الّتي تحتضن القمر، وما القمر إلّا قلبه؟
***
ولأنّ البستان الّذي تحدّث عنه الشّاعر يحوي صنفين: العوسج والرّيحان، نجده في حاجة إلى استئصال الأوّل، واستبقاء الثّاني، من هنا كانت النّار الّتي تحرق العوسج، وكان الحبّ الّذي يتعهّد الرّيحان.
والشّاعر أسقط حرف العطف في وسط العبارة “نارًا حينًا حبًّا أحيان”، لأنّ من شأن حرف العطف أن يشرك المتعاطفين في حكم إعرابي واحد، والشّاعر لا يريد أدنى صِلة من صِلات الاشتراك (النّار للعوسج ≠ الحبّ للرّيحان).
والّذي يمنع الاشتراك أيضًا أنّ النّار نادرة، بسبب أنّه لا يرى الكثير من الأشواك المعتبَرة، ولذلك أردف “نارًا” بـ”حين” مفردةً. أمّا الحبّ فهو كثير، لكثرة الرّيحان، ولذلك أردفه بـ”أحيان” مجموعةً. وشتّان بين الـمفرد والـجمع. ولقد اختار المفرد لهذا، والجمع لذاك، عن حنكة، فالعوسج عدّه الشّاعر حالة استثنائيّة في معجمه، بخلاف الرّيحان.
ومع ذلك، أشعر أنّ قوله “أحيان” خلافٌ للأَولى، فلقد ألغى النَّصب، مع أنّه مفعول فيه! ألا نرى أنّه وقف بالسّكون، لا بالألف الّتي ينبغي أن تشير إلى تنوين النّصب؟!!
هذا أراه إشارة تنبّهنا إلى أنّ المعنى خلاف الظّاهر، وهذا يدفعني إلى أن أذهب بعيدًا في تفسير الكلمة “أحيان”، وأقول إنّها “أحيانـي” المكوّنة من الفعل “أحيا”، ونون الوقاية، وياء المتكلّم التّي حُذِفَتْ للتّخفيف. ولهذا شواهده في القرآن “يُحيينِ”، و”يسقينِ، و”أكرمَنِ”، و”أهانَنِ”…
ويكون الـــمراد أنّ السّماء الممطرة أنبتت الحبّ في البستان، أي في قلبه، فأحيتْه.
ويكون الجميل أنّ الشّاعر، لو تعرّض للموت في سبيل ما يؤمن به، ثمّ كُتبت له حياة جديدة، فإنّــــه لن يتوب عن نَفَسِه الثّوريّ، ولن يتَّــــــعِظ بما سبق من تنكيل، وسيكون في الأسطر الأخيرة ما يشبه هذه الحال، فالــــمطر أحياه، وفي كفّه قصفة زيتــــــون جديدة.
***
ونجد أنّ الحياة الجديدة، حياة ما بعد طوفان نوح، تحتضن احتمال الموت، ولهذا قال: “وعلى كتفي نعشي”.
ولربّما أقفز إلى المعجم، بحثًا عن معنى آخر، إذ من معاني “النّعْش” أنّها مصدر للفعل “نعش”. فهي الإنهاض والإقامة، أو الـجبر بعد الفقر، أو الــتّدارك من ورطة، أو الإعاشة والإخصاب. ولعلّ الــمعنى الأخير أقرب إلى الصّواب هنا، بل ربّما يكون في الأمر تورية، أو ضرب لعصفورين بحجر واحد، فالكتف كناية عن تحمّل العبء، أي إنّ واجب الشّاعر إعادة إحياء ذاته، بعد كلّ انتكاسة، ولا يريد منّة أحد من البشر.
ومعنى ذلك أنّ الـــمسيرة في كلّ الأحوال، ومهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والحيوات، مستمرّة.
***
ولكنّــــني لا أحبّ أن أقف عندَ هذا الـــحدّ، لأنّ تكرار الـــمشي في الـــنّصّ دفعني إلى استمطار المعاجم، والتّنقيب عن الحقل الدّلاليّ للكلمة، فتبيّن لي أنّ من معانيها الاهتداء، وبذلك فُسِّر قول الله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}، وإذا أردنا ترتيب الأمور بالمنطق، وجدنا أنّ الاهتداء إلى الطّريق يسبق الـسّير فيه، وهكذا يبدو أنّ الشّاعر يقول في آخر الـــنّصّ: أنا أهتدي إلى الطّريق، ثمّ أسير فيه، ولا أتخبّط، أو أرتجل.
***
وأخيرًا، لا نملك إلّا أن نؤدّي الـــتّحيّة لشاعرنا العظيم سميح القاسم، ولكن… إيّاكم أن تفعلوا ذلك منحنين، فالشّاعر لا يحبّ إلّا من كانَ منتصبَ القامة، مرفوعَ الهامة.