السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / مقالات / رحلة الإنسان في كوكب الفضول

رحلة الإنسان في كوكب الفضول

رحلة الإنسان في كوكب الفضول –

بقلم سامية عبد الرحيم
بين السلبي والإيجاب، بقيَ الفضول مسرحا للنقاش والانتقادات. ما من نفس لا يُثيرها الفضول، وما من عقل لا يشدّه المجهول.

ما زال الإنسان يتفكّر ويتجوّل في عالم مليء بالأسرار والغموض. فإذا بالعزم والجهود يُدرك وهج المعرفة بين خيوط النور. حينئذ يستقل بذاته متناغما بفطرة الفكر، ومستقطبا العديد من البحوث. حتى يبرز من جديد قول رينيه ديكادرت: “أنا أفكر إذا أنا موجود.”، وهو  في المقام الأول من راودته الشكوك، حيال ماهية الإنسان من الوجود.
اذا أراد الإنسان التسلّح والعبور، عليه أن يحدد أولا مسار فضوله. إما يسحبه الى دوامات، فيخرج منها مبعثرا بالمتاهات. وإما يقتلعه من جذور الظلمة، ليرثه ثمار الحقيقة. وهذا ما حدث في قصة العالم العجوز. عجوز علماني أصيب بالعجز والخرف، بعد أن كان من أشهر علماء الفيزياء. اختار الموت بدلا من العيش في دائرة التذكر والنسيان. ما ان بات يتقارب على آخر الأنفاس، سأله شاب يافع عن سؤال يختص في علوم الفيزياء. فأجابه العالم: هل انت مهتم بهذا النوع من العلوم؟ أجابه الشاب: لا.. لكن لطالما أثارني الفضول حيال اجابة هذا السؤال. حينها أدرك العالم في نفسه أن تساؤلاته لم تنته. وان الفضول لازال ينخر عقله، مثلما ينخر السرطان العظام في كل مكان. حتى عاد باحثا عن تلك الاجابات في حضرة مرشد لم يسبق لأحد أن رآه. فبعد ان كان ذاهبا برجليه الى الهلاك، عاد الى فراشه متيقنا بحقيقة الأديان السماوية. مستمسكا بالعروة الوثقى التي عليها تحيا وتموت الأمة الإسلامية.
إن لم تكتف أيها الإنسان وتصر على ضرورة الفضول، وإذا كنت تعتقد بأنك متأخرًا وأنّ الأوان قد فات. تمهّل قليلا.. سأخبرك عن محي الدين أبدال.. عاش حياته متسائلا عن الروح والإنسان. لم يرتدع لحظة عن التنقيب والإستفسارات. و ما إن دنا على عتبة الموت، حتى لقيَ الاجابة واختصرها في عدة أبيات:
كانوا يقولون الإنسان الإنسان
الآن علمت ما هو الإنسان
كانوا يرددون الروح الروح
الآن علمت ما هي الروح
يقول محيي الدين: الحق القادرالخالق  يظهر جليا في كل شيء
ما هو الخفي؟
ما هو المرئي؟
ما هي العلامة؟ الآن علمت
من بحث وجده بداخله ومن لم يجده يبقى خارجا
إنه الذي في قلب كل المخلوقات
ما هو الإيمان؟ الآن علمت
أما هذا كان دور من أدوار الفضول. نخلقه في فضاء الخيال ونتقنه على أرض الحياة.
أتعلم أيها الإنسان..؟ للفضول ثغرات ملغومة. تتمثل بالطباع وتسيء إلى النفوس. في زمن تكاثرت فيه الهيهات والصيحات حتى تعددت بكل اللغات. ولدّتها الكدمات وخلفتها الصدمات.يا لها من مَذلات تحت عنوان المُذمات. ها هي الهيهات والصيحات مازالت حتى اليوم يُسمع صداها من سجون المعنفّات. تناجي بصراخ مكتوم وهي تسمع على خدها خرير الدمعات. فمن جهة اجد أناس يقفون على الشرفات ويشهدون على الإساءات. ومن جهة أخرى، أناس جلسوا بجانب النافذات، يسترقون سمع الإهانات. والعجيب في الأمر، تبقى في بيوتها تتناول الأحاديث وتقذف الإشاعات. أما أنا، تستوقفني هذه الكلمات، فأتذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فأين أينتم من هذا الحديث أيها الناس؟! وما فائدة الفضول إذا كان سينتهي بكلام يُنقل من فلان الى فلان؟!
أتظن أيها الانسان أن الفضول بلا كفاح يدوم؟ أم أنك رضخت للعُرف الموروث في مجتمع مأسور؟ لا تيأس حيال الذين تمرّدوا، فأزلجتهم الأكثرية في قفص محكوم. وتذكر دائما، بين الجامح والقامع خط رفيع ألا و هو الفضول. إما يكون للجامح قنبلة موقوتة. وإما يكون للقامع فرصة مهدورة. إلا ان الفضول بين الاثنين لا يضيع ولا يحتار. يمهّد للأول طريقا فسيح المجال. و يهجر الاخير في قعر الجهل و الظلام. انتفض أيها الانسان، فهذا الموقف المشهود يستحق النهوض. و لا تأبه للذين اعتادوا على الصمت حتى أصابهم الجمود. ان كنت تأسف على هذا الحال، تيقن بأن لا شيئا محال. لا تدري لعلّك تغزو و تبلور الارث المنثور.
أما اذا كان ترددك وضعفك يهمسان لضميرك بأنك لن تنجح بالتغيير و النضال. فاعلم ان الضمير لا يهاب و لا يخضع للاستنكار. ما دمت ترفع صوتك على مرارة الاضطهاد، ستخلق مشهدا مبهرا من الاستنفار. لا تبالِ بكثرة الجهل والخرافات، بالعزيمة و الصبر تقطعهم الى قطع واشلاء. بل احرقهم و انثر رمادهم على الانهر و المحيطات. لتطفئ املهم بالعودة كالبركان الذي سيُبدّد نيرانه مجددا في معظم النفوس و المعتقدات. استمع لما تقول الكاتبة جولسيران بودايجي اوغلو: ” ان الذكي هو من يعرف اذا تغير، يتغير كل العالم بأكمله “. و انت ايها الانسان، أليس لديك ذكاء كاف تمحو به وصمة العار و تغدو به الى أوسع الآفاق؟ أم انك رضيت بها و سجنت نفسك خلف القضبان، متهاونا و مبررا بعدم القدرة والانقلاب. اذا كنت تعتقد أنك غير مسؤول، فالله عزّ و جلّ يقول: ” إنّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ “.
ان حدث لديك تقلّب بالأفكار، عُد و انظر الى الوراء كيف كانت المجتمعات يسودها الظلم و الدمار. لا تبتئس من تكرار المسارات عبر الاجيال. لطالما كان لها كلام آخر لم يكن بالحسبان. و اعلم ان تغيير المسار يمكن ان يساهم كثيرا في حياة الانسان. ان تسلّحت بالفضول و انغرس بداخلك جشع الاستقلال. أزهر و فاح عطره في جوف كل محتاج. محتاج و متعطش لمن يفك أسره و يجتاح.
يا أيها الانسان، اذا كان يُراودك الفضول عما يحدث اليوم في غزة و الجنوب. قم بجولة عبر العصور، لتعود الى اليوم المشهود. يوم غُلبت فيه الروم، مثلما ستُغلب الصهاينة و اليهود في وقت غير معلوم. لكنه حتما آت، فإنه اليوم الموعود. أما انا، يثيرني الفضول عن تلك النفوس. ما بها لا تقوى على النهوض. لا ادري ان كان يعتريها الخوف و الجمود، أم انها غير قادرة على الدفاع و الصمود. النصر لا ينبع إلا اذا تحالفت الشعوب. أيها الانسان، أ نفسك تُشبه تلك النفوس؟ أم انك تتخبط للعبور الى ساحة الحروب؟ حتى و ان لم تقاتل بالأسلحة و السيوف، باليقين و الايمان تزلزل العقول.
ها انا الآن ضائعة في كوكب الفضول.. اعبر بين الاحجار و الصخور.. اجول بين الاشجار و الزهور.. ثم تحملني النسور على اعتابها و تجتاز بي الجسور.. أسفلها أمواج تكاد توشك على الفتور.. فإذا بها تهيج بالاسرار و تخط الكلمات على السطور.. يا له من كوكب يُذهل العيون.. ما من اسوار تعيقك للدخول.. هكذا هو الفضول لا يعرف الكلل و لا الذبول.. يتنقل بين الكائنات و يفوح.. ليبقى اثرا في الداخل لا يزول..
و انت ايها الانسان، اذا كنت تود المرور والضياع في كوكب الفضول. كوكب رممته انت بحب الاستطلاع و بغية الشروق. لا تنسَ ماذا قال مولانا جلال الدين الرومي قبل قرون و قرون:
” بالأمس كنت ذكيا فأردت ان اغير العالم “
” اليوم انا حكيم و لذلك سأغير نفسي “
تمعّن قليلا بعمق هذا القول و استمع الى قول آخر تقوله الكاتبة جولسيران:
” ان الكتاب الذي يتعلم منه الانسان موجود داخل الحياة. لكن الكتاب الأكبر الذي يتعلم منه موجود داخل الكائن العجيب و الذي يُسمى الانسان “. أما عن هذا الكتاب، انت من تنسج على أوراقه الكلمات. كتاب تتفرّد به عن باقي كل المخلوقات. كتاب لا يكتمل إلا عند لحظة الممات. يتجذر بداخلك كشجرة لا تعرف الثبات. شجرة تنمو و تكبر ما دمت تسقيها من باقة مزخرفة بكل ألوان الحياة. شجرة تثقّل على أغصانها اوراقا، منها خضراء و منها يابسات. لا يهم ان شئت او ابيت، انت من تنقش عليها مزيج الخبرات و التغييرات. تتبرعم و تصدر حفيف المشاعر و الانفعالات.
أفكرت يوما ان تفتح هذا الكتاب! أم انك حلقّت بالفضول بعيدا عن الذات؟ لكن مهما ابتعدت عنها، تظل ملازمة لك في كل زمان ومكان. تناديك لتولّي حثيثا إليها دون ان تشرّع للفرار الباب. واعلم أن الفضول إذا توجّه نحو مهمة التعرف على الذات، ارتحل بك الى طريق متنوعا بالمفاجآت. كل مفاجأة تقدم لك الكثير من الأسرار والحكايات، نسيتها للتناغم مع غبرة صفحات الكتاب.
سأعطيك مثالا عن فتاة مشت عليه تائهة، تبحث عن نهايته لعلها تبين. فجأة، تسمع صوتا من خلفها يناديها وهي متعجبة. تلتفت الى الوراء، فلا تجد عيناها من تصيب. ثم تكمل خطواتها باحثة و متسائلة، اذ بفتاة تلوّح لها بيدها من بعيد. تقترب إليها و هي محتارة، فتقول لها الفتاة: لقد كنت انتظر من يكون لي أنيس. تابعوا السير سويا وهي لها مستمعة، تحدثّها عن قصص تحتفظ بها منذ زمن بعيد. ما ان تنتهي حتى تصبح متلاشية، كأنها لم تكن لكن كانت لطريقها دليل. تكمل خطواتها مسرعة، تبحث عنها لعلها تجيب. لتجد طفلة صغيرة مبتسمة، تدنو إليها، فتهمس الطفلة: انا لك رفيقة على هذا الطريق. فتجد الفتاة نفسها محتاجة لها ومحدّثة، عن كل ما يجول في داخلها وعن ما لا يغيب. لتقوم الطفلة بدورها مواسية لها و قائلة: قد حان وقتي للذهاب، لكني سأكون لك كالدفء حميم. وما ان تكمل لتسمع مجددا ذاك الصوت، يُطلق من فتاة كانت منذ البداية مراقبة. فتسألها من انت؟ تجيب الفتاة: انا هو انت، وأنت كنت على درب قصده لا يخيب. أما انا كنت لك دائما منتظرة، وهذه رحلتك منذ وقت طويل. بدأتها وأنت تائهة، فختمتها و انت متصالحة مع ذاتك و مع كل سقوط كان لك معيق.
لا شك أن مسيرتها تخللت بعض من الألغاز. كالفتاة التي لوّحت لها، تمثلت بذلك الكتاب. وعند استماعها لتلك القصص، كانت تقلب الصفحات و تقرأ الكلمات. أما عن تلك الطفلة الصغيرة، فهي التي تحمله ممسكة بيد الفتاة. و الآن ايها الانسان، بعدما اخبرتك عنها سأطرح عليك سؤال:
أ متصالح مع كتابك، ام تركته على الرفوف، تتبعثر أوراقه بين النجوم والسحاب؟