بقلم الأستاذة لمى التقي
رماديّة الحرب.
أخافُ أن يحمى الوطيسُ وأبقى بلا وطنٍ ،
أن أستيقظَ يوماً وأغسل وجهي بالدماء، وأن تتلبدَ سماؤنا بالغيومِ السوداء أبداً فتغدو عاجزةً على أن تمطرَ حرية،
أخاف أن أركضَ على جثثٍ ألبست الأرضَ أجسادَها المشوّهة فلا أميّزُ منها من احتضنتهم روحي،
أخافُ الليلَ الطويلَ القاصفَ العشوائيَّ ، فأمكثُ مُخبِّئةً رأسي تحتَ سريرِ الخلاص.. أحضنُ ذاتي بين يدي الراجفة،
أخافُ أن أدرك أخيراً أنَّ حياتنا هي دقائقُ من حربٍ نفسيّةٍ وثوانٍ من قصفٍ يحدّدُ نهايةَ أيامِنا المتعبة وأنَّ أرواحنا بخيسةُ الثمنِ و الأحلامَ تُدفنُ في داخلنا..
أخافُ أن تُهزمَ الكرامةُ في أرضِ الكرامة ونبقى مشرّدينَ في أرض الغربةِ اللعينةِ فتغدو ناراً بلا لهيبٍ تُدفِئُ موضعَ السرِّ فينا وتعطينا فرصةً بحياةٍ جديدة ويصبحُ لقبُنا أخيراً “النازحينَ اللبنانين” ،
أخافُ أن أهربَ من وطني فأحملُ جسدي المُنهكَ وأنسى روحي بين زوايا الطفولةِ المُدمَّرة ،أغدو جسداً بلا روحٍ فلا أجدُ حائطاً أكتبُ عليه كلمةَ وداعي الأخيرة ولا أرضاً أضعُ قُبلَتي على جبينِها.. أبكي التاريخَ تارةً والأحبابَ تارةً أخرى ولكنْ في جميعِ الأحوال أبكي الوطنَ…فالحربُ تسرقُ منّا كلَّ شيءٍ، تسرقُ السلامَ و الحريّةَ، المنزلُ الذي علَّقنا على جدرانِهِ ذاكرتَنا يُهدَّمُ، الحدائقُ التي ركضنا فيها تفرغُّ وتحملُ فقط في صميمها صدى ضحكاتنا.. وحدَها المستشفياتُ والمقابرُ تصبحُ مليئةً حينها،
تسلبُ منّا ساعاتِ الصباحِ الأولى وانتظارَ شروقِ الشمسِ فنغدو لا نميزُ بين الليلِ والنهارِ ويسلبُ منّا مللَ نهايةِ الأسبوع، أن تصبحَ مدينتي مكتظةً بالجنودِ بدلاً من جنونِ أترابي الجميل، أن أتقاسمَ رغيفَ الخبز على مدى يومينِ مع نفسي دون المقدرةِ على أن أتقاسمها مع الذين رحلوا وأصبحوا رماداً متناثراً على أرض الهزيمة، أخاف أن يُقتلَ كلُّ من عرفت حتى هؤلاءِ الأشخاص الذين رسمتُهم في مخيّلتي وحدهمْ من يجلسونَ على عرشِ السياسة ينجونَ.. ينظرونَ إلينا من قصورهمُ المشيّدة بحديدٍ الفسادِ ،أخاف أن يُسرق صوتُ المذياعِ فلا ينقلُ لي أسماءَ من بقوا ومن أخذتهم الرحمةُ، ويسرق صوت فيروزَ فلا من يبعثُ نفحةَ ضوءٍ في خضمِّ الظلامِ،أخاف أن يتحولَ منزلي إلى بقايا منزل وحين أشتاقُ إلى عائلتي أرفعُ قلبي إلى السماء لمقابلتهم، أخشى الأمهاتِ التي ستعلنُ حدادَ الحزن أبداً رافضةً الخروجَ من أرضها فتتحولُ إلى حضنٍ يحضنُ الوطنَ المجروح الذي يحمل رائحةَ أولادِها في طيّاتهِ أخاف أن أفقد يدي فلا أستطيع أن أدونَ ذكرياتي التي ستبقى لي الملاذ الأخير في خضمِّ العاصفة الأبديّة،
وقبلَ كلِّ شيءٍ أخاف أن يحدث كل ذلك،
وأخسر وطني!
فيبقى العَلَمُ لوحة نرسمها على صفحاتِ الأملِ الأخير،
وأبقى بلا وطن…
لمى التقي