السبت , فبراير 22 2025

حصن غزة

بقلم أ.د. رائدة احمد أستاذة جامعية لبنانص

حصنُ غزّة

في ليلِ ذلك اليومِ الربيعي، نشرَ العدوُّ جنودَه حولَ حصنِ غزّة الأبي، للمرة العاشرة، إنّهم ينتظرون قرارَ الاقتحامِ. كانوا يتحيّنون فرصةَ الهجومِ، يبحثون في قلعةِ شاؤول، وتلّةِ غاسول، عن تاريخهما، فلم يجدوا غيرَ الأدواتِ النحاسيّة والحجريّة، التي حُمِلتْ من شبهِ الجزيرةِ العربيةِ، منذ فجر التاريخ، فجنّ جنونُهم، وثاروا ثورتَهم، وارتدوا الشرَّ، والجريمةَ، والظلمَ، وحاصروا غزّةَ بكيد أصنامِهم الحديدية، لينزعوا ذلك الرداءَ النقي عنها، ويعاقروا استقرارَها، فتستحيل لقيطةً بين أيديهم.
خافوا المسيحَ فصلبوه، لكنّه عادَ إليهم شعباً حرًّا، ليقتلعَ عيونَهم، يهدّد كيانهم، خافوا النبيَّ محمد، فأبعدوه، غير أنّه عرّجَ إلى السماءِ، وأسرى ليلًا، ليصبحَ أمّةً، تهدِّدُ كيانَهم الغاصب، ويصطادُهم كالعصافير
لم يبق أمامَهم سوى الرِّجال، والأطفالِ، والفتيةِ، والشيوخِ، والأمهاتِ الحوامل، فأسروهم، غير أنّ ليلَهم طال، حاولوا أن يُفرِغوا غزّةَ من ذاكرتِها، فهبّت عليهم من كلّ العصور، وأوقدتِ الذاكرةَ َ التاريخية، أيقظتْ ذاكرةَ الماضي والحاضر والمستقبل، وذاكرةَ كلِّ الفصولِ. خافوا من كلِّ جذعٍ عضُدٍ، آخذا بالنزول ليرتدي الأرض، فيحملُها حرّة، إلى عمق التاريخ حيثُ المسيحية والاسلام.
كيف لا تعرفُ سهامُ ما في تلك الأرضِ من خيراتٍ، تعودُ إلى سواعدِ أجدادِ أجدادِها، وقد شهدتْ شجرَة الزيتون، وهي تنمو على صوتِ ناي أماني الحشيم، وتقطفُ البرتقالَ من بستان زكريا الزبيدي، وتنقلُ الأسلحةَ معها إلى ذلك القبوِ المظلمِ، تحت منزل محمد العارضة، ومعها فتيةٌ، لمّا يبلغوا الحلمَ، يحملون على أكتافِهم أكوامَ الحجارةِ، ودمَهم، وألعابَهم الصبيانية، ليصنعوا منها قنابلَ وصواريخَ، ويذودون بها عن الوطن..
هي تعرفُ أنّ الفدائيين يخطّطون لعمليةٍ ضخمةٍ، يواجهون بها العدوَّ الغاشم، فهي فدائية، كانوا يأتونها بالأسلحةِ ليلًا، لتنقله نهارا تحت عباءتِها قطعةً إثرَ قطعةٍ، وتدسّه في القبوِ بانتظارِ اليوم المعهود.
أزبد الحقدُ في قلبِ سهام، وفاحَ صهيلُه، ونما خوفها على الأطفالِ الذين بدأَ العدوّ يأسرُهم، ويزجُّهم في بطونِ دباباتِهم ، ولكنّها لن تتراجعَ، فغزّة تنتظرُ ابنتها وبنيها لتتحرّر، وهي جاهزة للتضحية
كانت سهام تنافسُ البرقَ، ارتدتْ ثيابَها، وضعَت عباءتَها فوق الثّيابِ، وكعادتِها، كانت تدخلُ القبوَ في ذلك اليوم، تنزعُ عباءتَها، تزنّرُ خصرَها بالقنابلِ، ترتدي البنادقَ على كتفيها أوسمةَ تضحية. ثم تضعُ عباءةَ الشّرفِ على جسدِها فوقَ السلاحِ، وتخرُجُ من القبو مُثقلةً بالحديدِ، وتسيرُ من دون أن تثيرَ انتباهَ الوحشِ الضاري، الذي كان ينغلُ في بيوتِ غزّةَ الصامدةِ نغلَ ذئابٍ قرِمَتْ إلى الّلحم، ويحاصر غزة الأبية.
وما هي إلا أيامٌ قليلةٌ، حتى استكانَ قلبُ سهام، وهمدَت نَفْسُها، آن الأوان لتنالَ شرفَ الشهادة أخيرا. فالعمليةُ الانتحاريةُ التي حصدتْ عشرات الجنود، جعلتِ العدوَّ يرتدُّ خائبًا فاشلًا مرعوبا، بينما كانتْ سجونُه تستنيرُ بعيونِ الأطفالِ الأبطالِ، الذين أصبحوا أسرَى حربٍ، خاضوها بحجارتِهم وطفولتهم، وأجسادِهم ودمهِم، وها هم يولدون من جديدٍ، لينتصروا، سقطت سهام شهيدة، فولد ت فلسطينُ مئات الفدائيين.

د. رائدة علي أحمد من وتريات الحرية