بقلم د. وداع وجيه حمادي
لقد تغيّرت الحياة في كثير من وجوهها، ولم تعد كما اعتدنا عليها منذ كنّا أطفالًا، لقد خفت ضجيج الحلم، وتحوّل الصّراع القائم بين اليوم والغد إلى صراع مستميت بين الحاضر والماضي،
ولعلّ الماضي منتصر دائمًا في مرحلة ما بعد الأربعين، لا سيّما في خضمّ هذه الفوضى الاجتماعيّة العارمة الّتي لم تترك شائبًا إلّا وأظهرته وسلّطت عليه أضواء الجودة، هي نفسها تلك الّتي عبثت بأمجاد كلّ حضارة، وربّما كانت سببًا من أسباب تداعيها.
كثيرة هي الأشياء الّتي تغيّرت، وليت الأمر مقتصرا على التّغيير الحاصل في أشكال الحياة كلّها، إنّما يتجاوز ذلك إلى النّفس وما حوت من مشاعر، وإلى العقل وما جمع من أفكار، وهو تغيير طرأ واستجدّ فاستحالت الحياة معه غربة لا يمكن للمرء في عيشه فيها أن ينسحب إلى خارج عتبة قلبه.
ليست الغربة سفرًا وراء البحار، ولا طائرة تحمل أجسادنا على أجنحتها إلى عالم آخر، إنّما هي أن يصير عالمنا هو العالم الآخر، وأن تختفي معالم محيطنا، وتتشوّه وجوه النّاس من حولنا مضمونًا وشكلًا، وإن كان المغترب يخشى تشوّه وجوه من يحبّ في ذاكرته، إلّا أنّنا وإن لم نكن في غربة وقعنا في هذا الفخّ، وباتت الذّاكرة تشتاق أن تعيد إلى ثناياها بعض وجوه أولئك الطّيّبين.
إنّ ما يجري اليوم في ظلّ هذا التّخبّط الرّوحيّ يدفعنا إلى التّساؤل عن قدرة الإنسان على تحمّل خيبات الأمل، كذلك قدرته على تجاوز الخيبات، فأيّ امرىء مهما كان في نظر نفسه عظيمًا تسقط عظمته لحظة يسقط قناع الآخرين من حوله، وتصير خيبته حبلًا يلتفّ حول عنقه، وإن حاول إظهار عكس ذلك، إلّا أنّه لن يصمد طويلًا.
عجيب كيف للإنسان أن يشعر بالغربة وهو في وطنه؟ لا بل كيف له أن يشعر بالغربة ولم يكن يومًا على سفر؟ والأعجب شعوره بالوحدة وحوله أناس كثر، ظنّ أنّه يغتني بهم، فلا اغتنى بهم ولا أنصفه الوطن، فتاهت نفسه حيرانة تنشد راحتها، وعبثًا يحاول انتشال هذه النّفس من كلّ ما هو اجتماعيّ ملتوٍ، وعبثًا يظنّ أنّه ناجٍ.
إنّ الوهم الّذي ترويه عقولنا يفضي بنا إلى نزاعات داخليّة واضطرابات بين مقاومة تتجسّد في محاولة الحفاظ على نقاء ذواتنا، وبين رضوخ واستسلام لواقع الحال، ما يلزمنا أوجهًا متعدّدة من التّكلّف الاجتماعيّ، والسّعي في الحفاظ على كلّ ما هو شكليّ، والتّخلّي عن المبتغى في الجوهر، هذا الوهم الّذي يتمثّل في كون هذا العالم مرآة لمشاعرنا تنعكس فيها براءتنا، فتتكشّف لنا الحقائق بعد ذلك ما يصيبنا بخيبات الأمل.
لقد بات الوضع يقتضي حرصًا أكبر على أرواحنا، كذلك يقتضي رفضًا لأيّ فساد يطالها، كما بات القلق أكبر من خطر الانزلاق في هذه الفوضى العارمة الّتي تتسبّب في غربة نحياها في أوطاننا، ووحدة تُنهك أجسادنا، ولعلّنا في صبرنا هذا نزرع ثمار مجتمع أفضل، وربّما لن يكون الحصاد قريبًا، فالبذرة الّتي يجري زرعها اليوم، ستفيض خيرًا بعد حين، وإن طال الأوان فسلاحنا طول الأناة.
تغيّرت الحياة، وتباينت ظروفها، ولكنّ شيئًا واحدًا من الأجدر به الصّمود في وجه العواصف العاتية، إنّه القلب الّذي يدلّنا إلى الخير، ويشير إلى الصّراط المستقيم، فكم جميل أن تبقى قلوبنا تحيا طفولة لا تنتهي خيطان زمانها، ولا تخنقها عقارب زماننا! وبئس الغربة الّتي تنهش لحم أيّامنا الحاضرة فتجعلنا نرجو العودة إلى الماضي، لا بل بئس الحياة الّتي نحياها تتقاذفنا نار الوحدة على الرّغم من ازدحام البشر حولنا، كلّ ذلك لأنّنا لم نشبه غير أنفسنا، غير طينتنا الأولى، ولسنا في هذا العالم إلّا الطّينة المجبولة بلطف الخالق وحسن صنعه، وعلينا أن نكون حريصين على أمانته.