الجمعة , فبراير 21 2025
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / “زورق مخيّلتي” بقلم الأستاذة لمى التقي

“زورق مخيّلتي” بقلم الأستاذة لمى التقي

 

“زورق مخيّلتي”

“أنا لستُ أنا، ولستُ الحقيقةَ إلاَّ حينَ أكونُ وهميةً، أعيشُ حياتي الخياليةَ داخلَ الكتبِ التي أطالعُها والحكايا التي أتوهَّمُ أنني أعيشها، كأنني أكتبُها داخلَ رأسي، وأبنيها حجراً حجراً  لأعيشَ داخلَها، إذْ لا بيتَ لي سواها، كأنني أعالجُ الخوفَ بالحُلم….”
لكم حياتكم الأرضيّة ولي حيواتي الخياليّة،
لكم سطور الوقت ولي أبجديّة شاسعة…
حفرة تهاويت داخلها.. كنتُ أركض هاربة من الخوف الذي كان يلتف حول طفولتي من كل جانب، هربتُ بعيداً  عن الضعفِ والكراهية، بعيداً عن الرَّثاثة والهشاشة وسقط المتاع، بعيداً عن الزّيف الذي يأخذُ زينتَهُ حتَّى لكأنَّهُ الحقيقة… كانت أجراس العنف تدقّ في أذنيّ فتجعل جسدي يرتجف راقصاً على نغمات اللكمة التي ستلتصق بجسدي الطريّ دون محالة. كان السّواد يلتفّ أحلامي الليليّة، وإثر الجبن الذي استوطن مدينتي الداخلية يتجسّد أمامي في عقارب الزمن الزاحفة بي من رماد إلى آخر…
كان البيت الذي سكن جسدي فيه سجن تحررت منه روحي بواسطة كتاب سقط بين يديّ وانتشلني نحو الحريّة، عندما خرجت فتاة الأعوام الأولى بحقيبة تتكدّس في داخلها متاهات العلم، حكم عليها أمام زملائها بأنّها محدودة الذكاء، فهربت بخيالها تتوسد كتابها خلف قضبان المقاعد، لينقلها بذلك إلى عوالم تسبح فيها فتتبلّل بظلال الأبجديّة..
لم تكن المدرسة من قامت بتعليمي الهجاء، لقد كانت القصص التي دسستها في جيب حقيبتي من فعلت ذلك! رفضتني المدرسة مرّات عدّة وكنت في حالة الشّرود الأبديّ أنتقل إلى حيث تحتم عليّ صوت حجريّ، يؤنّبني بقضيب خشبيّ يسجّل بذلك لكمة أخرى فوق يديّ  فيسقط الخيال الذي أمسكه، وأستيقظ على واقع جاهدت لكي أتغاضى عنه…
كانت الكتب زورق مخيّلتي. نُبحر معاً في بحيرة الحلم اللامحدود. نتعانق بين ضفتيّ الواقع والخيال.
الكتب رمّمت داخلي المهدَّم. أعطتني هويّتي الضّائعة بين أكوام غبار الأحداث.. شدّت على يديّ لتنقلني إلى حيث جلست بجسدي وحلّقت بروحي التّائهة نحو عوالم التقيت فيها بشخصيات أحببتهم، تعانقنا بواسطة الأبجديّة، ودخلت في دهاليز وهمهم لأبني من خلال الخيال الذي يعتري حياتهم واقعي…
الكتب انتشلتني من براثن الخوف والوحدة. حمت جسدي الطريّ من تورُّماته الأزليّة. شيّدت حصانا أدبيًّا لروحي، وأعطتني معيارًا جديدًا للتفوُّق..
في اليوم العالميّ للكتاب.. أقف حاضنة ملاذي الذي أحتمي به من هزليّة واقعنا، أغوص فيه لأنزع السواد الذي حطّ في داخلنا وشكّل غشاوة مزريّة على مستقبلنا.. بواسطة الأدب سننجو والكتاب مرساة لسفينة خلاصنا التي، إذا أبحرنا بها، ستوصلنا حتماً إلى برّ الخلاص.
في زمن آكلت غبارَ النسيان رفوفُ القراءة، وأصبح الكتاب منسيًّا في خضمّ احتلال التكنولوجيا ووسائل اللهو حياتَنا، يبقى لصداه صوتٌ يتلو بصفحاتِه تراتيل الحكايات..
والكتابُ في إشراقاته استعادةٌ لإنسانية الإنسان التي فينا والتي جبِلنا عليها، فهي في الأنباض منْ قلوبنا، وهي في الخفق منْ دمائنا..
لكم مدينتكم المليئة بالحدائق الوهميّة ولي وطن لشدة عمق معالمه.. أنبت فيه أشجاراً وأثمر..