السبت , أبريل 19 2025
الرئيسية / نقد وفلسفات / القضايا الأدبية ومصطلح “النّص الغائب” وما يتصل به من د أنور الموسى لطلاب الماستر

القضايا الأدبية ومصطلح “النّص الغائب” وما يتصل به من د أنور الموسى لطلاب الماستر

القضايا الأدبية ومصطلح “النّص الغائب” وما يتصل به

من د أنور الموسى لطلاب الماستر
لا بد قبل تعريف النص الغائب “TEXTE ABSANT” من تعريف التناص “INTERTEXTUALITة”،  نظرا إلى  تداخل المصطلحين، وتداخل عملهما، فلا تناص من دون نصّ غائب، ولا نصّ غائب من دون تناص، ولذلك فإننا  نتعرف الى النص الغائب من خلال معرفة التناص الذي صار معروفاً ومتداولاً من خلال الدراسات النقدية المعاصرة…
تحدّد جوليا كريستيفا التناص بالتعريف الاتي:”كلّ نص هو امتصاص لكثير من نصوص أخرى، ويشمل هذا التعريف في حقيقته المصطلحين معاً وعملهما، فأيّ نصّ جديد تشكيل من نصوص سابقة أو معاصرة وردت في الذاكرة الشعرية تشكيلاً وظيفيّاً، بحيث يغدو النص الحاضر خلاصة لعدد من النصوص التي امحت الحدود بينها، وكأنّها مصهور من المعادن المختلفة المتنوعة الأحجام والأشكال، فيُعاد تشكيلها وإنتاجها في أحجام وأشكال مختلفة، بحيث لا يبقى بين النّص الجديد وأشلاء النصوص السابقة سوى المادة وبعض البُقع التي تومئ وتشير إلى النّص الغائب، وإذا توخينا التقسيم الدقيق في هذا التعريف فإننا نجده يتضمّن في داخله النص الحاضر والنص الغائب وعملية التناص، أو تشكيل النص الحاضر من النصوص الغائبة تشكيلاً وظيفيّاً “كل نص= النص الحاضر”، “هو امتصاص وتحويل= عملية التناص”، “لكثير من نصوص أخرى= النصوص الغائبة”، ونفهم من هذا التعريف أن التناص يلغي الملكية الخاصة للنص والأجناس الأدبية والمناهج اللاّ نصية؛ فهو يلغي الملكية الخاصة للمؤلف، فالتناص عمل نصوصي آلي حتمي (كل نص امتصاص وتحويل)، فالتناص عملية متكرّرة بالضرورة، وكلّ نصّ جديد يولد من رحم نصوص قديمة، ثم يتحوّل النّص الجديد بدوره إلى رحم لولادة نصوص أخرى، ومن هنا يتضمّن التناص مقولة “موت المؤلف”، ثم إنّ هذه النصوص ليست من جنس واحد بالضرورة، لأن التعريف السابق لا يحدّد ذلك، فقد يكون النص الغائب شعريّاً أودينيّاً أو تاريخيّاً، أو من التراث الشعبي، أو سوى ذلك، ولذلك فإن مصطلح التناص يقول بتداخل الأجناس الأدبية وسواها، أو يذهب إلى إلغائها، ومادام التناص امتصاص نصوص سابقة وتحويلها إلى نصّ حاضر، فإن العملية لغوية خالصة، ولذلك فإن النص الغائب يلقي الضوء على النص الحاضر لفهمه وتأويله، ومن هنا فإن النص يفسّر النص، ومن هنا أيضاً فإن التناص يلغي المناهج اللاّنصّيّة.
والنّص عند جيرار جينيت طِرْس “PALIMPSESTE” أو نصّ جامع “ARCHITEXTE” ويشير المصطلحان – وهما عنوانان لاثنين من كتبه- إلى أن النص طرس يسمح بالكتابة على الكتابة، ولكن بطريقة لا تخفي تماماً النص الأول الذي يظلّ مرئيّاً ومقروءاً من خلال النص الجديد، وهذا يعني أن النص يكون في باطن النص، وأنّ النّص الجديد يخبّئ نصّاً آخر، ويرى جينيت أن الأعمال الأدبية نصوص اشتُقّت من نصوص سابقة بعملية التحويل، كما في المحاكاة الساخرة، أو بعملية التقليد، كما في المعارضة، ويتشكّل النص الجامع من النّص وما يمّهد له، ويذيّله، ويومئ إليه، ويتداخل فيه، ويتبطنه أويغذّيه، فالنص عند جيرار جينيت وقود للنص، ويدعو التناص “TRANSTEXTUALITة” مايخترق النصوص، ويمكّنها من اختراق سواها، ويرى أنّ النّص كل مايضع النّص في علاقة صريحة أو مخفية مع نصوص أخرى”3″، ويمكننا أن نتوقف هنا أيضاً عند هذين المصطلحين، لنقول إن الطرس والنص الجامع اسمان آخران لمصطلح التناص، أو هما قريبان منه كلّ القرب، وهما يتضمّنان النّص الحاضر الذي يخفي تحته نصوصاً غائبة تشكّلت تناصّياً.
وقد استطاع رولان بارت أن يطوّر مصطلح التناص، ويعمّقه، ويوسّع آفاقه، وينقله من محور النّص إلى محور النّص القارئ، لانفتاحه على آفاق وحقول ثقافية، ومصادر لا نهائية، وتحدّث بارت عن النص كما يتحدّث عن “جيولوجيا الكتابات”، والـ “أنا” لدى القارئ هي أيضاً مجموعة من النصوص مقارنة بمجموعة النصوص في النص PLURALITة، وهي أيضاً غير محدّدة وغير معروفة الأصول، وهذا يعني انتقال التناص من ذاكرة النص إلى ذاكرة القارئ، وهنا تتعقّد المسألة وتزداد تنوّعاً وغموضاً، ففي ذاكرة المؤلف -في أثناء إنتاج النص- نصوص يضمّنها نصّه الجديد، وفي ذاكرة القارئ- وفي أثناء قراءة النص وإعادة إنتاجه- نصوص أخرى خاصة به،وهذا ما تعنيه عبارة “النّص جيولوجيا الكتابات”، ثمّ إن القارئ ليس واحداً، وهذا ما يفتح النّص على آفاق التأويل والتعدّد والاختلاف، وما يجعل النص نصّاً مفتوحاً “TEXTE OUVERT” .
النّص الغائب إذاً هو النص الذي تُعاد كتابته تناصّياً في نص جديد، وهو المصدر الذي يستقي منه النص الجديد المادة الأولية لإنتاجه، ويتضمّن الرموز والإشارات التاريخية والاجتماعية والتراثية المختلفة التي تتوافر في النص الجديد دون الإشارة إليها بشكل صريح أو مباشر، وهو ما لم يقله النص، ولكنّه يشير إليه، وهو خلاصة لما لا يُحصى من النصوص الكائنة في الذاكرة أو القابعة في اللاّوعي الفردي أو الجمعي، وكلّ إشارة في النص الجديد تتوجه، وتشير وتومئ إلى نصّ أو نصوص أخرى، ويكون الصوت القديم مخبوءاً في الصوت الجديد، كما يكون الحضور دالاًّ على الغياب، وهذا يوصلنا إلى أن النصوص تتسرّب إلى داخل نصّ آخر ذاتيّاً وآليّاً، حتى إنه لا يعود ثمّة وجود لنّص محايد أو بريء، ويصبح النص مرادفاً للحياة النّصية، وقد قال بارت في معرض حديثه عن قراءاته لنص أورده ستاندال:”أتذوّق سيطرة الصيغ، وقلب الأصول، والاستخفاف الذي يستدعي النص السابق من النّص اللاّحق”، ثمّ يؤكّد بعد ذلك: “تعذّر الحياة خارج النّص اللا متناهي سواء أكان هذا النص هو بروست أم الصحيفة اليومية أم الشاشة التلفازية، فالكتاب يصنع المعنى، والمعنى يصنع الحياة”.
وللنص الغائب صفة الحضور بالقوّة والفعل والتماهي، فهو لا يُستدعى، لكنّه يكون بما فيه من قوّة وفعل، فلهذا النّص فاعلية الحضور في النّص الآخر، وهذا يعني أنّه يتصف باللاّزمنية واللاّمكانية، وهو ذو قابلية للانبناء بطرق مختلفة عن الطريقة التي حضر بها سابقاً، ثمّ هو قابل للتعبير عن قضايا تتكرّر في المكان والزمان، سواء أكانت ذاتية أم اجتماعية، كالحبّ، والموت، والمغامرة، والتضحية، ولا يكون النص الغائب حاضراً إلاّ إذا كان فاعلاً، ولا يكون فاعلاً إلاّ إذا كان مضيئاً وصالحاً لإضاءة أخرى أو تجربة معاصرة، “وليس بمقدور أيّ نصّ أن يكون فاعلاً خارج إعادة إنتاج ذاته ومنتوجيّته”.
إن هجرة النص من نصّ إلى آخر أو من فضاء إلى آخر، أو من ماضيه إلى حاضره، هجرة اختراقية تحوّلية، فهو ينبثق من نصّه ليتكوّن في نصّ آخر وفضاء آخر وزمن آخر، وتتطلّب هذه الهجرة المتعدّدة الأبعاد أن يتحوّل، فقد كان في ماضيه يقول شيئاً، وعليه أن يقول شيئاً آخر مختلفاً وبطريقة مختلفة في حاضره أو وضعه الجديد، وتتطلّب هذه الهجرة أن يحيا النص في ظروفه الجديدة حياة أخرى من خلال الحوارية والتفاعلية، وتعني إعادة إنتاج النص إعادة إنتاج معناه ومبناه وشكله وحجمه، وربما تعني أيضاً إعادة إنتاج جنسه، فقد يكون النص تاريخيّاً أو دينيّاً أو أسطورياً، ثم يغدو شعريّاً، ويكتسب النص الغائب في هجرته الجديدة، ملامح وصفات جديدة، لم تكن فيه من قبل.
وليست هجرة النص الغائب توافقية دائماً بالضرورة مع النص الحاضر، كما هي حالة التضمين، وإنما هي هجرة حوارية تفاعلية وظيفية، كما هو شأن الشكل العضوي، فقد كان النص يحيا في فضاء خاصّ به، ثمّ هاجر إلى فضاء آخر، وبما أنه يمتلك صفة الحضور بالقوّة وبالفعل، وبما أنه يتميّز بالشمولية والتحول، فهومرن، بحيث إنه يتفاعل مع معطيات الفضاء الجديد، ويتحاور معها، فيقترن النّص الجسدي بنّص جسدي آخر، ويحدث التفاعل والتزاوج والتوالد، وتتغيّر طبيعة الجسد المهاجر، لتبني علاقات جديدة غير العلاقات التي غادرها هذا الجسد قبل أن يقترن بالجسد الجديد، إضافة إلى أنّه ينبغي أن يجيب عن أسئلة المكان الذي هاجر إليه، فيغدو بفاعليته الجديدة غير النص الذي كان فيما مضى، فـ “هجرة النص أساس لكلّ فاعلية نصّيّة”..
ومصادر النص الغائب كثيرة ومتنوّعة، يكون بعضها في نصّ، ولا يكون في نصّ آخر، وهي تهاجر من الذاكرة، لتحطّ في ذاكرة أخرى، وتكون في المتن الشعري المعاصر والقديم، والعلوم الإنسانية تراثيّة وتاريخية، والنصوص الدينية والأسطورية، والمكان والزمان والموضوع والمواقف وسواها، وقد تكون هذه المصادر أدبية أو غير أدبية، فقد استخدم شوقي-مثلاً- في مسرحياته، حياة مجنون ليلى وكليوباترا وعنترة وعلي بك الكبير وقمبيز، فكان النّص الغائب أدبيّاً، أو سياسيَّاً، أو قوميَّاً، وقد يكون النص الغائب شعريَّاً، ففي قصيدة “نهج البردة” لشوقي، كان النّص الغائب هو “بردة البوصيري”، واستدعى أمل دنقل في قصيدته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، أحداثاً وشخصيات من التراث العربي القديم، للتعبير عن التجربة الحزيرانية، وأعاد شوقي كتابة “بردة البوصيري”، وهي النص الغائب، في نصّه الحاضر “نهج البردة”، ومن السهولة العثور على معجم خليل حاوي والسيّاب وأدونيس والبياتي ونزار قباني في كثير من قصائد الشعر العربي المعاصر، وقد تتمّ إعادة الكتابة هذه من خلال أحد القوانين الثلاثة التالية: “قانون الاجترار- قانون الامتصاص- قانون الحوار”، ففي القانون الأول يكون النّص الحاضر استمراراً للنص الغائب، وهو إعادة له إعادة محاكاة وتصوير، ويتلخّص عمل المؤلف هنا في أن يقدّم إلينا النص الغائب في أوزان شعرية، وفي قانون الامتصاص قبول للنص الغائب وتقديس له وإعادة كتابته بطريقة لا تمسّ جوهره، وينطلق المؤلف هنا من قناعة راسخة، وهي أنّ هذا النص غير قابل للنقد أو الحوار، ولا يعني هذا سوى مهادنة للنص الغائب والدفاع عنه وتحقيق سيرورته التاريخية، أما قانون الحوار فهو نقد للنص الغائب، وتخريب لكلّ مفاهيمه المتخلّفة، وتفجير له، وإفراغه من بنياته المثالية، وهو لايقبل المهادنة، فهو أعلى درجات التناص وأرقاها”9″.
والصلة بين التناص والنص الغائب هي صلة الحضور بالغياب، أو هي حضور الغياب في التناص وغياب الحضور في النص الغائب، ولذلك فإنّ النّص الغائب يكون مُسْتبْطَناً في النص الحاضر، وهو يمثّل صورة من صور استلهام التراث وتوظيفه إذا كان النص الغائب قديماً، ويمثّل صورة من صور المثاقفة إذا كان النص الغائب معاصراً ووافداً، والعلاقة بينهما علاقة اللاحق بالسابق، فالسابق هو الأصل (النص الغائب)، واللاحق هو التابع، ولكنّ التبعية هنا زمنية لا فنّيّة، وهي أيضاً لا قصْدية، وهي تختلف عن السرقات الشعرية في نقدنا القديم، لأنّ النّص الغائب هو الذي يتسلّل من الذاكرة إلى النص الحاضر في التناص، لحاجة الأخير إليه، ولكنّ النّص القديم يُجرّ ويُستلب في السرقات الشعرية، يقول بارت:”ليس نصّ بروست هو ما أدعوه، بل ما يأتي إليّ. إنه ليس سلطة، بل مجرّد ذكرى حلقية”.
وهذا ما يؤكد أن الشاعر الكبير لا ينقل ولا ينسخ، وإنّما يكون مسكوناً بتجربته ورؤاه وبجميع آثار السلف.
والصلة بينهما حتمية، فالنّص الحاضر يتنفّس بوساطة النصوص الغائبة ويحيا بها، ويتكلّم بألسنتها، وهو لا يتكلّم في زمن سابق على زمنه، وإنّما يتكلّم من خلال سياقه وحضوره وحاضره”.
النّص الغائب أحد مكوّنات النص الحاضر، وهو يعمل وينبض في العمق، ويبيّن مصطلح التناص أن حركية النص من مكوّنات نصوص سابقة عليه أو معاصرة له، وهذا يعني أن عمّل المؤلف في تكوين نصوص جديدة من نصوص كثيرة، بعضها من جنس النّص الجديد، وبعضها من أجناس مختلفة، أنّ عمله هذا نصوصيّ، والنصوص الغائبة سابقة على المؤلف ودوره في صنعها ثانوي، أما الدور الأولي فهو للنصوص نفسها، ولو لم تكن آفاق هذه النصوص تتحاور وتتجاذب والنّص الجديد لما تشكّل هذا النص علىهذه الصورة التناصيّة، ولذلك فإنّ مؤلف أيّ نصّ متعدد، وهو لا زماني، ولا مكاني، ولا أجناسي، وهذا يستدعي إلى الذهن مقولة “موت المؤلف” عند بارت، وأهمّ مافيها أنّ اللغة هي التي تتكلّم في حين أن المؤلف صامت أو غائب في أثناء حضور القارئ، وأنّ النص المنجز ملك القارئ وحده.
يتشكّل النّص الجديد إذاً من النّص الذي يشكّل الخلفيّة (الأصلي/المرجع/ النص الغائب)، والنص الذي ينفتح على هذه الخلفية (النص الجديد المفتوح)، ولذلك فإنّ الدلالة الشعرية تكون غير مباشرة، فالقصيدة تقول شيئاً وتعني في الوقت ذاته شيئاً آخر، وما الحضور سوى علامة على الغياب، ويُتطلَّب من القارئ الجادّ أن يحفر في طبقات النص ليكتشف المسكوت عنه، وهذا لا يكون إلاّ في البنى المغيّبة، والوصول إلى بعض هذه البنى المطمورة يحتاج استحضار النصوص الغائبة لاستكمال النّص الحاضر، فالنص يحتاج إلى ماهو خارجه لتتمّ قراءته وتحليله، والنص الغائب عامل تفسيري للنّص الحاضر، والنصوص الغائبة مكوّنات لشيفرات خاصة، نستطيع بإدراكها فهم النص الذي نتعامل معه وفضّ مغاليق نظامه الإشاري ومعرفة بنياته وعلاقاته وأساليبه الحديثة التي تعتمد على الترميز والتكثيف، ولذلك فإنّ النصوص الغائبة مفاتيح نستطيع بوساطتها الولوج إلى النّص الحاضر والإمساك بالرؤية التي يعالجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.