السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / تحية إلى العمّال في يومهم-

تحية إلى العمّال في يومهم-

تحية إلى العمّال في يومهم-

بقلم علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

صبيحة عيد العمال، أنا في البيت، بيتي، لليوم الخمسين على التوالي، أسكب كوباً من الشاي، فبرد المدينة هنا لا يرحم، والغربة أيضاً، وذاكرتي التي تنهش مني الرأس والقلب في آن، ووعيي السياسي لا يرحم، فكلما نما، تلاشت معه ومع كل نشرة أخبار صورة الوطن الجميل. أما حاسوبي المحمول، فمنه يصدح الشيخ إمام بأروع ما غنّى عن مأساة القوى العاملة وصراعها الوجودي مع تحالف الرأسمالية والديكتاتورية. يقول مولانا:

شيد قصورك ع المزارع … من كدنا وعمل إدينا
والخمارات جنب المصانع … والسجن مطرح الجنينه

جملتان فقط، مع دندنة على العود، وبصوته المشبع بمعاناة المصريين، يختصر مولانا إستراتيجية سلطة رأس المال في سحق عظام العمّال “الغلابة”، تلك السلطة التي، في لبنان مثلاً، حوّلت البلد إلى مستعمرة عقارية لا تشبه وجوه أهلها التي تحرقها الشمس بعد أن أحرقتها الحرب، ولا تأذن لهم التنعم بشوارعها وأسواقها ومحالها، التي يفوق سعر حذاء فيها الحد الأدنى للأجور بأضعاف مضاعفة.
وكما في البلد كذلك في الأطراف، دمّرت سلطة رأس المال الزراعة، فهرب أهل الريف من جوعهم المحتوم إلى أقبية أحزمة البؤس، وهجروا أرضهم التي غرسها الأجداد يوماً بلحمهم الحي ليصنعوا رغيفهم. أما من بقوا، فهم أولئك الذين يكابدون لينتصر أملهم على اليأس، الذين يطلع عليهم، كل موسم إنتخابي، رجل قبيح مع إمرأته المتبرجة بأمراض العصر، تجرّ كلبها الأليف، ويحيطها المستزلمين من حرّاس وأمنيّين، ليحدّثا العمّال عن مواسمهم الموعودة، وعن جدلية تلازم الأرض والعرض، قبل أن يولّيا أدبارهما، ويتركان الناس مرميين على قارعة الوعود الإنتخابية. أولئك الناس الذين يصفهم مولانا، فيقول:

واتقل علينا بالمواجع … احنا اتوجعنا واكتفينا

فالعامل، هو الجندي الحارس من غدر الأعداء واللصوص، وهو الفرّان الذي يصنع الخبز كالأمهات، وهو عامل النظافة الذي ينظّف شوارعنا من قذارتنا البدائية، وهو طبيب القلب أو التجميل لصورتنا القبيحة، لكسلنا الكثير، لخجلنا بمهنة نفضل عليها البطالة، هو عامل البناء لا المقاول ولا المقامر، هو المهندس والأستاذ والحرفيّ والصناعيّ والمزارع. العامل هو سلسلة الحياة حين يبتسم لفتاة صغيرة لأنه يرى فيها أحلام أخته الصغيرة التي تركها تنتظر حصتها من رغيف الحزن ومكانها في مقعد الدراسة في قريته النائية. الغامل هو الموشوم بمذكرة اتهام دائمة من مصلحة الضرائب، فتقاسمه أجره دون جدارة، وإن تخلّف ساعةً، يقوده ضابط إلى العدالة، نفسها العدالة التي تطأطأ رأسها ككلب منزلي مطيع للّص القابع خلف طائفته ومكتبه. والعامل، هو المثقف جيداً، والعارف بشؤون الناس وشجونهم، وهو المتمسك بصورة وطنه كما يراه، وكما يريده، حقلاً للعلم وللقمح وللإنتاج، وطنٌ يبنيه بساعديه، وهو أجمل بكثير من وطنٍ يبشره به دعاة العدالة الإجتماعية من عبدة المال وحيتانه. فالعامل، هو الذي يعيد رسم ملامح الأوطان ويبنيها، ثم يود لو يشتري لأبيه تذكرة حج إلى مكة، فيرد قليلاً من الجميل الجميل.
أسكب الشاي مجدداً، يبدو أن الشتاء هنا طويل. بردانٌ، لكنّ ما يحرق القلب أن بيروت تجلس على كف مقاول أبيض ينهبها، بيروت التي كانت يوماً كل شيء لا يشبه استسلام أهل البلد للمال، أو إستسلامهم للسبات، بيروت هذه لا شيء فيها بعد يقنعني. يختم مولانا، فيقول:

نسلك طريق ما لهش راجع … والنصر قرب من عنينا

لا بدّ أن في هذه الأرض ما هو لنا، للإنسان فينا، للعامل الذي يخرج لكسر الطبقية التي تتهمه بالعوز، أو بالفقر، أو بالثياب الرثة أو برائحة العرق. لكن الأرض سوف تبقى تحب ما فينا من كدٍّ وعمل وكبرياء، لأنّنا متعبون، والمتعبون، يشبهون هذه الأرض وتشبههم.