بقلم علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات
إطلالة على واقع المرأة اللبنانية في اليوم العالمي للمرأة
شغل موضوع المرأة حيزاً مهماً في كل الحضارات عبر العصور، وكان دائماً موضع تداولٍ أو حتى إشكاليةً مطروحةً لم تنته معالجتها حتى يومنا هذا. المرأة من حيث التعريف المبدئي، هي أنثى الإنسان، أي أنّها بالدرجة الأولى هي إنسان. وقد يكون مستغرباً لدى بعض القرّاء أنّنا ننطلق في مقالتنا هذه من هذا التعريف المبدئي، لبداهته، ولكنّ هذا التعريف، على بداهته، ما زال موضع تقييم لدى بعض المتفلسفين ممن ينتمون إلى فكرٍ ذكوريٍّ أصوليّ، بالمعنى السلبي للأصولية. وبناءً عليه، فإن للمرأة كل ما للإنسان، من تركيبٍ عقليّ وعاطفيّ. فبعض الأقوال المأثورة في ما سمّي إصطلاحاً ب”الشرق”، تدّعي أن للمرأة نصف عقل، وهذا الإدعاء تدحضه تجربة إنسانية ضاربة في التاريخ، وحقائق علمية، أثبتت عبر التجارب، أن التركيب البيولوجي لعقل المرأة، ليس أقل تعقيداً من تركيبه لدى الذكور، وأن قدرتها على الإدراك والتعلم لا تقل البتة عما لدى الذكور، بل تذهب العديد من الدراسات للقول أن عقل المرأة متفوق في جوانب عدة، خاصة في ما يتعلق بالذاكرة البصرية والقدرة على تعدد الوظائف. أما في الجانب العاطفي للتركيب الإنساني، فالكل يجمع أن المرأة متفوقة فيه على الرجل، وهذا الإجماع تثبته التجربة الإنسانية، وتتناغم معه الحقائق العلمية التي تثبت أن بيولوجيا المرأة أغنى بالهرمونات والناقلات العصبية المولدة للعاطفة.
بعد التدليل على هذا التعريف المبدئي للمرأة كإنسانٍ كاملٍ بالعقل والعاطفة، ننطلق في معالجة إشكاليتها في التاريخ، والحاضر، والمستقبل، من حيثية واقعها ودورها. تاريخياً، كان دور المرأة مؤشراً رئيسياً على تقدم المجتمعات وتطورها، وقد برز لها باعٌ كبيرٌ في حضارات كثيرة أبرزها الحضارة المصرية القديمة، حيث لمعت أسماء ك”نيت حتب” (٣١٠٠ ق.م.)، ملكة مصر والملكة الأولى في التاريخ، و”مريت بتاح” (٢٨٠٠ ق.م.) الطبيبة الأولى في التاريخ، و”إنخدوانا” (٢٣٠٠ ق.م.) الأميرة الأكدية والكاتبة الأولى في التاريخ. تطوّر دور المرأة عبر التاريخ بإستمرار، من جمع للطعام النباتي في مجتمعات الصيد القديمة، إلى التدبير المنزلي ورعاية الأطفال، حتى دخولها شريكاً جدياً للرجل في سوق العمل مع التطور الصناعي والإقتصادي والإجتماعي الهائل في القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
وبالتوازي، ظلت المرأة عبر التاريخ، وحتى يومنا هذا، قطب الرحى في الحياة الإجتماعية، فهي الأم المتفانية التي تغدق الحب على كل أفراد الأسرة، وهي الشريكة التي عليها العمدة في بناء أي بيت، بمعناه المعنوي، وحتى بمعناه المادي بعد دخولها شريكاً منتجاً في الحياة المادية للبشرية. وتكثر الأقوال المأثورة التي تظهر دور المرأة وتدلل على أهميته، كالقول أن المرأة هي نصف المجتمع وهي التي تنشئ نصفه الآخر، عبر التربية والرعاية، وأن الأم هي مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعباً طيب الأعراق، إلخ … في ظل كل هذا، أين نحن اليوم من المرأة اللبنانية، وهل أعطيت حقوقها الإنسانية الأولية في مجتمعنا؟
إذا أردنا النظر إلى نصف الكوب الممتلئ، فقد حققت المرأة اللبنانية إنجازات عديدة، ونجحت في تحصيل العلوم في مختلف الإختصاصات وبأعلى الشهادات والدرجات، وإستطاعت عبر كفاءتها من دخول سوق العمل، وإثبات جدارتها، حيث تلعب اليوم دوراً ريادياً في شتى المجالات، كما تمكنت من تحصيل تمثيل سياسي في البرلمانات والحكومات، رغم وجود جدليات حول جدية هذا التمثيل. كذلك تمكّنت من التحرّر من السلطة الذكورية بقدرٍ مقبولٍ مقارنةً بما هو سائدٌ في المجتمعات الشرقية عادةً، وإستطاعت توسيع هوامش الحرية المتاحة لها، لكن ذلك مرتبط بالبيئات اللبنانية المتنوعة ضمن المجتمع الواحد.
ولكن مع الأسف، ما زالت المرأة اللبنانية تعاني ما تعانيه نساء العالم الثالث، فهي ترزح تحت وطأة السلطة الذكورية المهيمنة على أنظمة الحكم السياسي، وعلى سوغ الأعراف والعلاقات الإجتماعية، أي ما يسمّى إصطلاحاً “العادات والتقاليد”. تستمد هذه السلطة الذكورية قوتها من موروثٍ متخلّفٍ يتبناه الكثيرون إلى حدّ التقديس. هذه السلطة تمعن في الإطاحة بأدنى الحقوق الإنسانية للمرأة. فالمرأة تعاني الإضطهاد لمجرد كونها إمرأة، فهي في مجتمعاتنا مدانةٌ بجيناتها، فمنذ ولادتها، تجد نفسها خاضعة لسيادة الذكر، أباً كان أم أخاً أم زوجاً، فهو يقرّر عنها زيّها، ويختار لها أصدقاءها، ويقيّد حركتها، ويخضعها للمساءلة، ويزوّجها قسراً، ويرسم لها حدود حريتها، التي هي غالباً أضيق من الحدود المتاحة للذكر. وقد تتعرض المرأة من أجل إخضاعها إلى أشنع أساليب الترهيب التي قد تصل حد العنف الجسدي ناهيك عن العنف النفسي الذي يمارس ضدها. ورغم إنحسار هذه الذهنية مؤخراً مع إتساع رقعة العلم والتحضر، إلا أنها ما زالت راسخة في نفوس وعقول الكثيرين من الشرقيين “الرجال”.
وأبعد من ذلك، تعاني المرأة من إضطهادٍ عبر قوانين الأحوال الشخصية، فهي مغبونة من خلال الكثير من النصوص والتشريعات التي ترعى الحياة الشخصية للمواطنين. وفي هذا السياق، تكثر المآسي وتتعدد، وليس آخرها أو أفظعها قصة السيدة المطلقة التي حُرمت حضانة أبنائها، وحُرمت بعدها من المشاركة في تشييع إبنتها التي توفيت بعد الطلاق. ضف على ذلك العديد من النصوص التي تبرر جرائم التحرش اللفظي أو الجسدي وجرائم الإغتصاب. إن هذه المآسي التي تكابدها المرأة تفضح تخلف مجتمعنا. مجتمعنا موبوء بالذكورية ولا بد من إعادة النظر بقيمه والنظم الراعية له. وإن هذه الوحشية التي تتعاطى فيها الذكورية الحاكمة مع شريكها الإنساني مرعبة ومخيفة، وهذه العقلية الرجعية المستندة على موروث مقدس، لا بد أن يتم وضع حد نهائي لها.
إن إنصاف المرأة في لبنان لا يتحقق إلا عبر ثورة قيمية مجتمعية عارمة تنسف الواقع السائد في النفوس كما في النصوص. ويتحقق ذلك عبر تعزيز التربية والتعليم، وإدخال قضايا تدعيم وتمكين المرأة ضمن مناهجنا التربوية وأنشطتنا الثقافية. كما يتوجب إنتزاع تشريعات قانونية جدية مدنية تساوي الإنسان بالإنسان، ذكراً كان أم أنثى، لكنه معلوم أن هكذا خطوة هي صعبة المنال في ظل نظامنا السياسي القائم على حكم أرباب الطوائف وأزلامهم من علماء البلاط الذين يرعون مصالحهم الروحية ويمسكون بعصب الناس الطائفي-الغرائزي. لذلك فإن جل ما يمكننا فعله اليوم هو رفع الصوت عبر الإعلام ووسائل التواصل، كل على قدر إمكانياته، والعمل عبر حركات هادفة وجمعيات مبادرة من أجل الضغط على السلطة السياسية وتكوين رأي عام واعٍ يواكب ويدعم هذا الإتجاه. ورغم كثرة ملاحظاتي على الحركة النسوية في لبنان والعالم الشرقي بشكل عام، ورغم أنها، أي هذه الحركة، تميّع أهدافها عبر ممارسات سطحية أحياناً تكون بلا معنى ولا مغذى، لكنها تبقى حاجة في ظل واقع كواقعنا، أقله لرفع الصوت وإبقاء قضية المرأة في الضوء، وذلك أضعف الإيمان.
وختاماً، أستشهد بقولٍ للشاعر والإعلامي اللبناني الأستاذ زاهي وهبي:” يضطهد رجلٌ إمرأةً، لأنّه لا يستطيع أن يكونَها.” في اليوم العالمي للمرأة، والذي جاء على إثر عقد أول مؤتمر للإتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس (١٩٤٥)، أعايد كل نساء العالم، وأخص بالمعايدة أمي، فرحمها هو وطني الأول الأشد دفئاً وأماناً. كل عام وكل نساء العالم تمضين قُدماً في مسيرتهن الإنسانية الحضارية، من أجل العدالة والتحرر والتمكين، وإسقاط قوامية التستسترون والذكورية المتوحشة.