السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / مقالات / .عن الصين ومأساتها في وعينا الجماعي

.عن الصين ومأساتها في وعينا الجماعي

بقلم علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

نجحت البروباغاندا الإعلامية العالمية في الإنتصار على وعينا الجماعي الإنساني مرة أخرى، وبدا ذلك جليّاً في التعاطي العالمي مع ما يحصل في الصين من مأساة، نتيجة تفشي ڤيروس كورونا القاتل. هذه البروباغاندا التي تعمل على إضفاء صور نمطية عن الجماعات البشرية بما يتناسب مع أهواء القيمين عليها، وبما ينسجم مع تصورهم لهذا العالم ثقافيّاً وإقتصاديّاً وفكريّاً. ولا يمكننا أن ننكر أن هذه الدعاية نجحت بالتسلل إلى لاوعينا، حتى بتنا نخضع نفسيّاً وعقليّاً لسلّم أولياتها في تصنيف البشر بين من هم أكثر أهمية، ومن هم أقل أهمية. وفي هذه السياق، تكثر الأدلة الحسية على هذه الظاهرة، فحدث بسيط في حادث أبسط في مجتمعٍ ما، تتسلط عليه الأضواء، ويصبح الشغل الشاغل للكوكب ومن عليه، في حين أن أفظع المآسي في مجتمعٍ آخر، تمر مرور الكرام، ولا تعدو كونها في ذيل أولوياتنا وفي أبرد عواطفنا.
وأحدث الأمثلة على ما أنف ذكره هو مأساة الصين الجديدة في ظل تفشي مرض كورونا وكيفية التعاطي العالمي معها. هذا المرض -الوباء- الذي تتسبب به سلالة خاصة من فيروس كورونا، والتي، حسب منظمة الصحة العالمية، لم تحدد من قبل من البشر، علماً أن هذه الزمرة الواسعة من الفيروسات التي يمكنها أن تتسبب في عدد من الإعتلالات الصحية، والتي قد تترواح بين نزلة البرد العادية حتى المتلازمة التنفسية الحادة. وقد أسفر مؤخراً تفشي هذه الفيروس إلى إصابة عشرات الآلاف من البشر، ووفاة 565 مصاباً حتى تاريخ كتابة هذه المقال، ومن بين هؤلاء، 564 حالة وفاة في الصين فقط.
الصين، 9.6 مليون كيلومتر مربع من الأرض، 1350000000 نسمة، أي ما يربو على كونه خُمس العالم من حيث السكان. بلد جذوره ضاربة في التاريخ، حضارة عمرها ألوف السنين حيث نشأت أول المجتمعات الإنسانية حول النهر الأصفر. وتشير العديد من الدراسات في الأنثروبولوجيا أن الهوموإيريكتس عاش في الصين قبل أكثر من مليون عام، وأن في الصين أشعل الإنسان النار لأول مرة. وبعدها، عاش في الصين أممٌ وشعوبٌ، عملت في الزراعة والأعمال الحرفية كشعوب البايليغانغ في العصر الحجري الحديث. وتباعاً، تحوّل النهر الأصفر إلى تجمع حضاري ما زال العلماء يعثرون على أثاره حتى يومنا هذا. نمت الحضارات في الصين على مدى عشرين قرنٍ حتى القرن الحادي عشر في ظل ثلاث أسر حاكمة: تشو وتشين وهان. وعلى مدى هذه العهود، تقدم الصينوين في العلوم والزراعة والحرف، وحددوا طول السنة الشمسية ب 365.25 يوماً. وبعد أفول عهد الأسر الحاكمة، دخلت الصين في حروب أدت إلى تقسيمها إلى ممالك متناحرة فيما بينها، لكنها سرعان ما انتهت، حيث شهدت البلاد عهد إزدهارٍ حضاريٍّ جديد في ظل حكم سلالة تونغ، فتوحدت الأراضي، وسنت الشرائع، وشيدت المدارس والجامعات، وقدمت الصين للعالم أول كتاب مطبوع عام 868.
وكما في التاريخ، كذلك في الحاضر، تستمر الصين في كونها قطباً عالمياً راسخاً، فهي مصنع العالم، فلا يخلو أي بيت من بيوتنا من شيء “Made in China”، من أبسط المنتجات الحرفية إلى أعقد وأذكى التكنولوجيات المتطورة. أثبت الشعب الصيني عراقته وإجتهاده للعالم أجمع، ففي أوروبا، حيث أعمل منذ مدة في إحدى المختبرات العلمية، نطلق على سبيل الفكاهة عبارة “الأعمال الصينية” على كل تجربة تتطلب الكثير من الوقت والجهد. ولكم عرفت رجالاً صينيون وسيدات صينيات، سماهم التواضع في اللباس والطعام وطريقة العيش، ثم يفاجئونك بمراتبهم العلمية وأبحاثهم ومشاريعهم للمستقبل. فالصين رائدة في الإنتاج العلمي كما في الإنتاج الزراعي والصناعي والتكنولوجي.
ولما واجه هذا الشعب وباءً يهدد حاضره ومستقبله، وقف العالم بين متفرّجٍ ومتنمّرٍ، وكثرت النكات من الشعوب الخمولة عن الصين والصينيين، في حين يواجه خُمس المجتمع البشري، من أطفال، وآباء، وأمهات، وصغار، وكبار، وشيوخ مأساتهم بإمكانياتهم الفردية، المذهلة بلا شك. وكما نجحت الآلة الإعلامية العالمية بالأمس أن تسم المنتجات ذات الجودة المتدنية، بأنها منتجات صينية، والحقيقة خلاف ذلك بالتأكيد، نجحت اليوم بإقناعنا بأن الإنسان الصيني “أقل أهمية” في سلم إهتماماتنا وتعاطفنا الإنساني المفترض،. نعم، ربما لا يتقن الصينيون لعبة الميديا ولا ال “Show off”، فهم شعب منغمس بالعمل والعلم والإنتاج، فلم تهبّ الدنيا لمساعدتهم، وربما تشكل اللغة حاجزاً ثقافياً يحول بيننا وبينهم، فقد لا نعرفهم ولا نعرف حقيقة مأساتهم، لكن لا شك أن تعاطي العالم المتفرج أو المتنمر يثبت أن وعينا الجماعي الإنساني يهزم مرة أخرى أمام الدعاية وصنّاعها، وأنّ قيمنا، وشعورنا، يجب إعادة النظر بها. يحضرني أخيراً قول الفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي: “أشنع ما في الأمر هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز نفوسنا، هذا التعود على الشر هو ما ينبغي أن نحزن له.” السلام للصين، لشعبها، لعلومها، ولتاريخها، ولحاضرها، ولمستقبلها.