عن العلمانية وأزمة العقل العربي
2019-12-04
مقابلات وتحقيقات
948 زيارة
كتب د.محمد عبد العزيز يوسف
يظن كثيرون أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وحسب، فهذا التعريف الكلاسيكي القديم لها كمفهوم. وقد اختلف المفكرون في تفسيرها حول رأيين . الرأي الأول قال إنها الزمن مقابل الغيب أو الحياة الدنيا في مواجهة الآخرة.وبمعنى أوضح إن هذا المصطلح هنا عبارة عن دال مدلوله السلطة الزمنية في مقابل السلطة الدينية.وقد نشأ هذا التصنيف نتيجة صراع حاد وطويل بين رجال الدين والسياسة والاقطاع، ما أدى في النهاية الى الثورة على تعاليم الكنيسة وصياغة نظم علمانية كرست مبدأ العدالة والمساواة ووضعت آليات سليمة لتداول السلطة. هذا على المستوى السياسي.فماذا عن المستوى المعرفي؟
لقد احتكر رجال الكهنوت في أوروبا لمدة طويلة المعرفة ومنعوا دونهم من تداولها وقد بلغ بهم الأمر حد محاربة العلماء واصدار صكوك “الحرمان” بحقهم واحيانا قتلهم! وحين اذكر تلك المفارقة أستحضر في ذهني نكبة ابن رشد رجل العقلانية الاول في تاريخ المسلمين والذي حورب واحرقت كتبه في قرطبة! أمام هذا المشهد ،لم يعد بوسع الأوروبيين سوى التحرر من القيود التي كبلت بها عقولهم فكان لا بد من دخول عالم التنوير . عندما بدأت ارهاصات التغيير في أوروبا لم تعد تعاليم الكنيسة بمناهجها الدراسية قادرة على الاستمرار، ولم تعد كذلك قادرة على الاجابة عن تساؤلاتهم حين بدأوا بقراءة كتاب الكون، فأعادوا احياء الفلسفة اليونانية، وقرؤوا التراث الإسلامي وانجازات العلماء المسلمين.
هذه توطئة تاريخية عن دوافع ظهور العلمانية بمعناها الجزئي..ولنا وقفة اخرى عند مفهوم العلمانية الشاملة. أما في شرقنا ” المؤمن ” فليس الصراع اليوم الا اشبه بنسخة عما حصل في اوروبا ابان عصور الظلام. الفكرة المحورية في الموضوع هي: انه اذا كانت العلمانية مرادفة للحداثة ، واذا كانت العلمانية عبارة عن متتالية نماذجية بحيث انك لا تخرج من مرحلة حتى تدخل في معترك مرحلة جديدة اكثر تعقيدا ، فمن أين يبدأ شرقنا المؤمن؟ إذا كان الغرب ذو عقل مادي يفكك ويركب ويقرأ الظواهر في اطار علاقة السبب بالمسبب_اي وفق مبدأ السببية_ فإن شرقنا المؤمن ما زال قابعا في كهف افلاطون ! فأخطر ما في الأمر هو ان العقل العربي لا يزال عقلا “قياسيا” ،فإنك كلما طرحت مسألة او اشكالية معرفية ملحة فسرعان ما يعود لكتب الماضي يستمد منها الأسانيد ليقول لك: لقد وجدت في ذلك الكتاب او تلك “المصادر” ما يسعفني في تفسير مااستشكل علي! هلا أخذت موقفا ذهنيا يا عزيزي ازاء ما استشكل عليك ورحت تتأمل وتفكك وتركب على غرار العقل الغربي ؟ ولا يسعني هنا الا تذكر فيلسوف قرطبة مرة اخرى _ ابو الوليد ابن رشد_ !!!! أي حداثة نريد ونحن نصور العلمانية على انها رجس شيطاني ؟ إن الدخول في عصر العلوم والانجازات وليس التنعم بما يتحفنا به الغرب كل يوم، ان هذا الدخول لا طريق له سوى العقلانية . واذا كانت العلمانية بمعناها الجزئي تلتزم الصمت تجاه حياة الفرد الخاصة ،أي لا تتدخل في ادق تفاصيل حياته ومنها الروحية ،فأين الشيطنة في ذلك ؟