السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قصة وسرد / كلمات متقاطعة

كلمات متقاطعة

بقلم د حسناء بو حرفوش

يصحو على شمس من ورق تحترق لما بقي له من حرية، يهرول مسرعا عساه يلحق بموعد “التتكيس”، من دون أن ينظر إلى الخلف، يسبر الأرض بإطار ذاب لونه بعد أكثر من سنوات مشاوير. يقطع أزقة المجمع فيتقاطع حفيف دعساته بصرير عربته البالية، فيلتقف صباح الخير من نافذة الجار ودكان الحانوتي وكاراج الميكانيكي، و”كم” يعطيك العافية من المارة في سياراتهم. مثله كمثل الآلاف في لبنان، تزرعهم البلديات على الطرقات العامة وفي أطراف الساحات.
لم تكن الساعة قد جاورت السادسة بعد، لكنه لبس “مريوله” وعاود الساحة مع رنين الساعات المنبهة في مباني بيروت. ترنّ كلها في آن معا كأن بها سيمفونية الوقت تعد له دوامه. يلملم أيّاما بيد امتزجت خطوطها بشحم الطريق وسواد الذكريات والأوراق المغمسة صباحا في الموقف، بزيت السيارات.
لم يتعلم القراءة لكنه ليس بأميّ. بات يألف رسومات سكان البناية ومتطلباتهم. فهاك في الزاوية ورقة أم ابراهيم، من أول سكان البناية، خُطّت بأصابع عجوز وبروح “ما تواخذني زيدهم على الحساب”، يقرأ في ارتباك الحروف مفاجأة ضيوف “ما كانوا في الحسبان” ويلمح فوق سطرين حمر شكل فنجان قهوة بنقطتين ويستنج بسخرية بريئة.. “بن؟”
يراقب الأرض بعينين هرمتين طغت كثافة طبقات الشحم على “ثلم” الأيام حولهما، يتبع حوافر السيارات والمارة بعد آخر”شتوة”، يتنبّه لقطّة “الحي” التي ترشده الى جيف الفئران والطيور التي أفقدها الطقس صوابها. فيسمع في موائها معارك الليل مع الطرائد في الشوارع الموحلة.
وهاك تحت “بلكونة” بديعة، عروس الطابق الثاني وردة سلخت عنها أوراقها كعذريّة صاحبتها. كم تشبه الأشياء أصحابها! يستذكر تلميذة مفعمة بالحياة لم يعد يرى سوى انعكاس صورتها على ستارة الغرفة المهجورة الا من شموع محتضرة.
تحدثه نفسه:”ليست الكلمات بحروف تطبع وترمى، ليست بمادة قراءة أو كتابة. كلماتنا تتقاطع مع قطع منا… تسرقها الوردة حين نشمها و”كباية” البلاستيك حين تغتصب شفاهنا، والسيجارة حين تحدث المارة بدخانها عما رأت منا… أوليست كلماتنا بأسرار نحفظها؟ فبأي حق ترمونها عارية للغرباء؟”.
يكمل رحلته بين “بقايا حياة” يقرؤها كشرلوك هولمز عصره. ههنا لائحة المشتريات للطابق الثالث، تسرّ له بالحالة الاقتصادية و ال”وضع” هذا الشهر، فيستبشر خيرا في طولها و”ينشغل باله” بمصير “البقشيش” اذا لم تسعها يداه. وما أكثر ايصالات الديليفري التي تحدّثه عن حال الطلاب في السكن الجامعي في الطابق الرابع ، ويحدّد في كثافتها مواقيت الامتحانات، أو حتى نتائجها.
أما على اليمين، قرب المكبّ “المزروك” بين سيّارتين، فتتكدّس مساحيق التجميل الرخيصة. يألفها في اطلالة “انجي” التي تحتفل بعيدها الثلاثين للمرة العشرين. بات يلمح منذ فترة، تنوع في المساحيق ووصفات جديدة، يأخذ “سرها” من صور النحل أو الخيار أو البطيخ، فتستفيق فيه طفولته:” الله يرحم ترابك يا امي… هيدا شعب بطران”.
هي السّاحة أمامه ملعب طفولة ومعبرعمر، تسكنها في اللّيل السّيارات المتعطّشة للبنزين وفي النّهار تمتلأ ب”صبحيات” الجارات قبل أن ترنّ الساعة الثّالثة فتغصّ بالأطفال العائدين من المدارس وتظفر ببقايا نهارهم، من أوراق “الشوكولا” الى “محارم” الزكام وأوراق الحلوى التي يرشقون بها أصحابهم.
دقائق قبل أن يودع الساحة للسيارات، يلمح العائدين من الملاهي الليلية، فيبتسم ل”أمجاد” كان صاحبها في يوم من الأيام ويطوي صفحة يومه بنظرة فخر الى عمله على الرغم من الألم الذي يمزّق مفاصله. سيستيقظ الأطفال على ساحة نظيفة، ولن يقرأ أحد “ضيقة” أم ابراهيم ولا “مأساة” العروس ولا “انتكاسة” انجي ولا حتى الأحلام المتكسرة على جداول اللّوتو.
غدا يوم جديد، سيلبس مريوله أيضا وسيعود للملمة ما بقي من انهزام السكان أمام “المادّة”. سينقل بعد على حدبته الذكريات في أكياس أميّة، وسيدفنها مع أسرار الأمس.. فهو الذي يتمنّى كلما أرهقته شمس الظهيرة أن يهجر هذا البلد التعيس، يتمسك بالعيش فيه بنفس الاصرار…لأجل هذه الساحة التي “تتزيّن” كل يوم، بكلمات متقاطعة من كل الأجيال… والأديان!