بقلم الكاتبة زينب مكي
يوم الوداع
….ترجّلنا من السيّارة، ودخلنا إلى المطار، فالجوّ عاصف، والأمطار تهطل بغزارة؛ حدّثت نفسي قائلة:” يا إلهي، قد اعتلت الشمس السماء طيلة أيام الأسبوع، فهل الآن تبكي السماء على رحيله؟”، و كأن دموعي والعواصف التي تتخبّط داخل قلبي غير كافية…
قام باحتضاني، وحطّ رأسه على كتفي وبكت عيونه، وكأنه مجبور على الرّحيل.. ثم همس في أذني :” انتبهي لنفسكِ جيّدا، فأنا أخاف عليك بقلبين، بقلب زوج، وبقلب أب.”، أبعدتُ رأسه عنّي، وقبٍلته على جبينه، وقلت له بقلبٍ شوّهه القهر :” حافظ عليك أرجوك، فهناك قلب أنت له الروح و النبض.”
عدت إلى البيت و قد راودني شعور بأنّه اليوم الأخير الذي سأراه فيه، بأنه يوم الوداع.
مرّت الأيام أكلّمه و يكلّمني، وفي كلّ مرّة نتحدّث فيها نبكي من الشوق و الحنين، و نسترجع ذكرياتنا سويًّا.
استغرقتُ الكثير من الوقت للاعتياد على غيابه، وفي ذات يومٍ كنت قابعة على الكرسي داخل المحاضرة في الجامعة، رنّ هاتفي عدّة مرّات، لكن لا أستطيع النظر إليه بُغية وجود الدكتور.. انتهت المحاضرة فرأيت الرقم الذي اتّصل بي، رقم غريب من خارج البلاد، لكنه ليس زوجي.
عُدت إلى البيت، فتحت الباب ودخلت، أمي و أخوتي والأقرباء والجيران مجتمعون، ألقيتُ التحية عليهم، لكن ملامح وجوههم لا تبشّر بالخير أبداً، جلست معهم، وكانت نظراتهم ترمي علَي شعور الشفقة، فصحت بهم:” أيمكن أن يخبرني أحدكم ماذا يحصل؟.”، فنطقت أخيراً جارتي وقالت :” العمر لك، أعلمونا بوفاة زوجك.”
هنا كانت الصدمة، فضحكت وضحكت وضحكت، ومن ثم وقفت و أنا أبكي و أصيح :” هذا هراء… هذا كذب.”
بدأت بالصراخ و حطّمت كل ما هو موجود أمامي، فأنا بالقوّة حتى اعتدت على غيابه، فكيف سأتحمّل فراقه نهائياً!
أتت جثّته، فحنيت رأسي على رأسه و قبّلته، و صراخي يعلو المكان، ” لمن تركتني، كنت السند، ها قد كسرت لي ظهري، يا حبيبي يا قرّة عيني، ألمْ أوصيك بأن تحافظ على نفسك، لماذا رحلت، لماذا؟”
رافقته حتّى التّربة، و كدْتُ أرمي نفسي في منزله الأبدي، إلّا أن أخي أوقفني و احتضنني…
مرّت الأيام، وأنا أعيش داخل صدمة، لا أقبل الخروج من غرفتي، و بالقوّة كانوا يطعمونني، و أعيش على أُبر المهدّئات.
وفي ذات يومٍ قرّرت أن أزوره، فرُحتُ إلى التربة، وجلست عند قبره، و أخبرته أني لا زلت أتمنّى أن يكون على قيد الحياة وأن يكون خبر وفاته مجرّد كابوس، فسمعت صوته يهمس لي :” يا حبيبتي، أنا أعلم كم أنّكِ حزينة على فراقي، لكن صدّقيني هناك من يرقص فرحاً لضعفكِ، و كما أنّي لستُ مرتاحاً بسقوطكِ، ويضيقُ عَلَيّ قبري كلّما بكيت، انهضِي من جديد، ودوسي على كل من ينتظر سقوطك، حققي أحلامك التي كنت تحدّثيني عنها تكرارا و مرارا..”
عندها قرّرت أن أقف مجدّدا، و أحارب كل من يبتهج لارتخائي، وأخبر أولئك الذين ينتظرون سقوطي، أنّ وقوفي أطول من أعمارهم.
مضت الأيام و أنا أعمل على نفسي، أكدّ و أجتهد لأحقق حلمي، تعبت كثيرا حتى أصبحت كاتبة كما أحب و أهوى.
وفي يوم من الأيام كنت عائدة الى منزلي، مررت قرب البحر، فأوقفتُ سيارتي و نزلت، جلست على شاطئ البحر، أُعلم أمواجه عن تحقيق حلمي، لترسله كخبر لزوجي، فربما يرتاح قليلا، فأتى إلى جانبي رجل مُسنّ، في يده صنّارة يصطاد بها رزقه، فسألني عن سبب دموعي، فقلت له: ” اشتقت لشخص لن يرجع أبدا، و لن يأتي مثله أحد، و كان يوصيني بأن أنتبه لنفسي كثيرا، ليتني أستطيع أن أخبره أنّي فقدت نفسي عندما غاب…”!
(ملاحظة: هذه قصة ليس بالضرورة أن تعبر أحداثها عن سيرة كاتبتها)