ولكنه رحل…!
2019-04-03
قصة وسرد
1,920 زيارة
بقلم الكاتبة مهى هسي

ولكنه رحل…
أوشك هذا اليوم على الانتهاء، ومشهد هذا اليوم لم يرحل من ذاكرتي، من يعلم! قد يبقى ذلك المشهد ذكرى جميلة أو شوكة صغيرة، أو ربما فصل في رواية. مشهد أعاد لي زمن بأكمله! ربما لأنني كنت مريضة جدًّا اليوم، وهذا ما جعلني أكثر هشاشة من ورقة مبللة، وربما كان الإشفاق على النفس أو أنه الحزن الذي يطفو عندما تسقط في الثلج فيدفىء قلبك، أو تؤلمك حتى أنفاسك فتبكي على كل شيء عابر أو ماضٍ… على كل تلميح أو ذكرى أو خيال… لا أعرف إن كانت مصادفة أن خصلة من شعري احترقت اليوم، قصصتها، ورميتها، ونظرت إليها مفرودة في القمامة.
مشيت لأكثر من مرة في الشارع المقابل لكلية الحقوق، لم تسقط اليوم قطرات المطر الخفيف على شعري كالعادة، لكن البرد كان لطيفاً مثل ذكرى أليمة تغادر الجسد، مثل ثلجٍ على جرح. وقفت تحت شجرة علّني ألتقط خلسة صورة له، أعرف أن المسنين يغضبون بسرعة لذلك لم أقترب أكثر. هكذا كان جدي حين كنا أطفالاً صغاراً، كنا ننزل من السيارة أمام بيته مبهرجين بثيابنا الجديدة وبكلات الشعر والحقائب ومسدسات الخرز، هكذا نحن لم نعرف من الألعاب سوى المسدسات! وكان جدي ينهض بقامته الطويلة النحيفة مرحباً بنا بصوت عالٍ وحفاوة كبيرة، يعصر خدودنا الصغيرة بشدة ويقبلنا بعزم. كانت أصابع جدي خشنة، وخدوده كذلك، أحياناً كان يحملنا إليه ويشد أكثر على وجوهنا، فنتبرم ونتذمر ونتضايق وما إن نفلت من يديه نركض بعيداً هاربين. وقد كان لجدي مكتبة صغيرة تنبعث منها رائحة الكتب القديمة، نتسلل أمامها كاللصوص لنسرق الكتب وأقلام التلوين، وكانت متعتنا الوحيدة هي الاستغناء عن جميع الألعاب لنسرق كتب جدي ونشوهها بالألوان أو نقوم بتمزيق الصفحات لنصنع طائرة من ورق. صراحة، كنت أخفي على أولاد العائلة حشريتي لمعرفة ما تتضمنه هذه الكتب، وسبب حرص جدي الشديد عليها فكنت أسرق الكتاب وأذهب به إلى غرفة الجلوس، ألبس نظارات جدتي وأقلّد جدي وهو يقرأ، يهتز كتفه وهو يضحك وينظر بطرف عينه نحوي وفجأة يتجهّم وجهه ويرمي الكتاب من يده بغضب ما إن تدخل الكرة التي يلعب بها الأولاد إلى غرفة المكتبة.
أما هو … ذلك المسن صاحب البشرة السمراء فاليوم كان يحمل كتاباً ضخماً ويقرأ وهو جالس على كرسيه كالمعتاد أمام بوابة الكلية ليبيع الكتب التي ربما يتبرع بها التلامذة أو أنها كانت يوماً ما في مكتبته الخاصة. أعرف هذا..جدي أيضاً كان يفعل ذلك. اقتربت منه بخجل:
مرحباً يا عم، هل تسمح لي بالتقاط صورة لك؟ بانت أسنانه المتراصة البيضاء وذلك الوهج الأثيري أمدني بطاقة إيجابية.
بكل تأكيد ! ربما اعتاد على التصوير فهذا المشهد أصبح غريباً عنّا في بلادنا: “رح مثّل إني عم اقرأ الكتاب”. ابتسمت وأخذت صورة له ثم حدقت به جيداً وهويت أمامه مثل الرصاصات الفارغة كأنني شبح شفّاف… تمر من خلاله الأبنية المتصدعة ورائحة طعام الأيتام، كأنني في الماضي الذي كان في الثانية الماضية فقط، يسبقني شعري والهواء، ولم أعرف من قبل صفاءً كهذا. ثم اقتربت منه: شكراً ، شكراً، انت رائع يا عم… انظر الى الصورة كم هي جميلة!
شعرت بسعادة عارمة في وجهه، وخجلت من تلك الضحكة الجميلة لأنني لم أسأله عن أي كتاب. ابتعدت عنه ولم أبتعد عن المكان، كررت خطواتي في هذا الشارع لأكثر من مرة وأنا أفكر: لو كان هنا لمثلت له كيف التقطنا الصور مع الخراب، وكيف صفرنا على الشرفات وقلدنا شكل جثث الألغام، كأنها مجرد لعبة، كأننا مجرد أكياس من الهواء، وقفنا كمن يودع سفينة محملة بالموتى، وداع دون تلويح، ثم عدنا إلى بيوتنا نحكي قصص وسائدنا التي لم تجف… ولكنه رحل…
رحل جدي في حرب تموز وضاعت ملامح كتبه تحت الركام، أذكر أن دموعي يومها انهمرت على جسدي كله، وأنني بدلت قميصي الأسود على الدرج، قبل باب المنزل بخطوات، ولم أعانق أحداً، فقط ضحكت بصوت عالٍ على جدتي وهي تضرب يدها على رأسها قائلة: “راحوا الكتب يا اسماعيل… راحوا!”
رحلت تلك اللحظات منذ زمن، رحلت الترحيبات الصاخبة والعناقات والاحتفاءات، صار كل شيء عادياً، كل شيء ممل وسهل، وانطبعت الأماكن كلها بملامح واحدة اسمها البؤس. مر هذا الوقت دون أن نلحظ، ودون أن ننتبه، أصبحنا كلما وطئنا مكاناً، ننتظر أن يضمنا أحد أو يعصر خدودنا و”يهرينا من البوس”…
وقفت أمامه مجدداً وهذه المرة كنت أبحث بين الكتب التي يعرضها وأنظر بطرف عيني بين الفينة والأخرى نحوه، أردت أن أقول له أشياء كثيرة… أردت أن أقول: صباح الخير على الذين نحبهم ويحبوننا، على الوجوه المتسمرة في الصور واللافتات، على المفقودين والتائهين والمكلومين والثكالى، على الجدات والأصابع الخشنة، على جدي الذي نسي أسماءنا ، صباح الحب كيفما كان وأينما حل وزار، صباح من رحلوا…صباح البلاد اللئيمة.
وأود الآن لو أضحك أيضاً، مثل هارب من السجن، هارب مصاب بطلق ناري في القلب، يقهقه مع الأشجار والريح، ويدفئه دمه، ويريد فقط أن يعانق ذلك الرجل… أن يعانق تلك الكتب… أن يعانق احداً… كي يموت سعيداً.