السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قراءة في كتاب / قراءة في رواية “من يتذكر تاي”؟!

قراءة في رواية “من يتذكر تاي”؟!

بقلم الكاتبة مهى هسي 

يقول ياسين رفاعية: “الآن لقد فقدنا كل شيء، وستنتشر الخيانات في طول الوطن وعرضه، من القمة إلى القاعدة، ولن نعود إلى فلسطين.”


يعود بنا الكاتب “ياسين رفاعية” الى زمن النكبة، ويصوّر حال البلاد ويتّخذ من بيروت العتيقة في ستينيات القرن الماضي مركزاً لثورة المثقفين على قضايا الأمة العربية ويجعلها خشبة مسرح لأحداث روايته. فيُفتح الستار على زقاق من أزقة “الحمرا” التي كانت أهم المناطق آنذاك وأكثرها إثارة للحنين. يتركنا الكاتب في حيرة وشغف لمعرفة حقيقة “تاي” ونحاول أن نجاوبه عن سؤاله الذي جاء في العنوان “من يتذكر تاي؟” ولكن من سيذكرها فعلاً؟

يُدخلنا معه إلى المقهى الليلي “تاي”- مُلتقى المفكرين والمثقفين- فيه تجتمع شخصيات محبطة وتعد هذا المقهى ملجأ لها للهرب والاحتماء فيه من قساوة الحياة الخارجية. ونكتشف عند هذه النقطة أن “تاي” هو المكان الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية، وهو بمنزلة رمز لشخصية رئيسة تحدثنا أو تروي لنا كل ما لديها من حكايات تعود لتلك الشخصيات التي تلتقي تحت سقف “تاي”. روّاد “تاي” من الرجال الذين يحملون على أكتافهم هموم الحياة وهم الذين فشلوا في مواجهة الظروف التي جاءت نتيجة للفشل العربي ونتيجة الفشل العسكري العربي الذريع في حرب الأيّام الستة.
في روايته الواقعة في ٢٢٦ صفحة يجعلنا رفاعية نتعلّق ب”تاي” حتى أننا ننتظر الليل معه للذهاب إليه. يفاجئنا رفاعية بأبطال روايته فهم من الواقع وقد ذكر أسماءهم مبيناً أسرارا.. أو يمكن القول “مذكرات” حياتهم داخل المقهى في زمن الهزيمة والفاجعة ومنهم: غسان كنفاني، سامي الجندي، أمين نخلة، عصام محفوظ، معين بسيسو…
الأحداث القائمة بين 1967 و1973 هي أيضاً حقيقية بتفاصيلها وأمكنتها. ونغوص معهم في قلب مكان سرّي لا نعرف عنه سوى أضوائه الخافتة، والألم. وزمان مفصلي لا نقرأ فيه إلاّ الهزائم واليأس…
ونسأل أنفسنا هنا: لمَ لم تدوّن هذه الأحداث على شكل سيرة ذاتية بدلاً من وضعها وإحكامها في قالب روائي؟ فياسين قد يكون عاش هذه الأحداث بنفسه. إلاّ أنّه لم يهتم في سبر الذات وأغوارها بل البحث في ذات البطلة وهي الموظفة في المقهى. فهي القوية التي تُدير المقهى وتدعم الرواد المحطّمين بأملها وقوته ويصفها وصفاً دقيقاً وكأنه يلمّح لنا أنه معجب بها وقد يحبها في إحدى صفحات الرواية. وهنا نجد تقاطعا بين اسم المقهى “تاي” والفتاة العاملة في المقهى التي تستمع إلى شكواهم، فالأنثى لم يوظّفها الكاتب في هذا المكان إلا لتأكيد أن الأنثى وحدها يمكن اللجوء إليها لما تملكه من قلب حنون ومسالم، أضف إلى ذلك أن الأنثى ترمز الى الجمال وهذا ما يحتاجون إليه في الزمن الرديء، ولا يظهر بذلك احتياجات جنسية بل عاطفية بريئة متعبة ولا تحتاج النفس الا لمن يستمع لها. وإذا ما تابعنا صورة “تاي” الغامضة ونظرنا الى ما بين السطور من أجل التقاط صورة واضحة تكشف جوانب “تاي” النفسية والثقافية والفلسفية والسياسية والفكرية، وجدناها شخصية مميزة من الخيال. هي “عائشة ابنة عبد الودود باشا” المصري الذي قُتل على يد المافيا الإيطالية التي بدورها اغتصبت الفتاة رغم جرأتها فهربت إلى لبنان وعملت في المقهى الذي كان قد توقف لمدة طويلة ولكن أصبح بفضلها محطّة مهمة يتوقف عندها الزمن. ألم يتوقف الزمن عند النكبة؟ ألم تغتصب أرض فلسطين؟ نعم، هي عائشة هي الأرض والوطن، هي امرأة جريئة ومختلفة عن نساء عصرها، يقول رفاعية: “امرأة مصرية ساحرة، ترث من مصر الجمال الفرعوني بشعرها الأسود الغامق، وعينيها السوداوين الناعستين، وفمها المزموم على شفتين دقيقتين، وإذا ابتسمت ضاء فمها بأسنان ناصعة البياض، إلى جسد مشدود لا يقلّ عن أجمل عارضة للأزياء”. هي مثقفة وقد درست الماجستير في الفلسفة وعلم النفس، وتخرجت من كليّة الإسكندرية. نتساءل هنا عن سبب عملها في المقهى الليلي رغم تلك الثقافة التي تتحلى بها وحياة الرفاهية التي عاشتها والمجد والكرامة. يقول المتنبي: ” يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”، وكيف لا وقد دفن الغرب ثقافتنا وحضارتنا وتركوا العرب في سكرتهم ونومهم لا يستيقظون. إن عائشة لا تتقمص فقط شخصية “تاي” وهي ليست ارض فلسطين بل إنها تتعدى ذلك لتكون رمزاً للواقع العربي.

الرواية من خلال البنية الفنية مشوّقة وأحداثها غير متوقعة مع أنها تشبه واقعنا كثيراً، حتى أن ياسين يفاجئنا بحبه لامراة أخرى وليس لعائشة رغم كل الدلالات التي قدمها وخيبت توقعاتنا. فكيف لعربي أن ينقذ عربي؟ وكيف لامراة جميلة وحيدة ذليلة وارض خصبة بالثقافة أن لا يتحكم بها رجل يكبرها بعشرين عاماً ويغريها بالمال؟ السرد كان سلسلاً ويعتمد على التصوير لينقلنا فعليًّا إلى ذلك المقهى، مستخدماً بذلك بعض الصور والتعابير الوجدانية التي جعلتنا نستشعر التيمة والألم والموت.
وما الحياة كما قال رفاعية (ص ٣١) إلا الموت والموت هو الحياة، كلاهما ضروري للإنسان، فمن الصعب على المرء أن يتقدم في العمر ثم يرى نفسه بهذه الحالة المزرية…