الأحد , فبراير 23 2025
الرئيسية / مقالات / لحظات بوسفورية

لحظات بوسفورية

بقلم أ.د. بومدين جلالي

من أدب الرحلة ……………… هدية ودية مني إلى عشاق السفر والكتابة : –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لحظاتٌ بوسفوريّة ……. من إيحاءات مدينة عرائس البحار …

ما إن قدّمْتُ نفسي إلى إسطنبولَ منخرطاً في فضاء وُجودها المرئي واللّامرئي حتّى بدأ يتشكّل في بصري وبصيرتي عالَماً مختلفا عن المعتاد، وجوّاً منمازا عن الأجواء، وإيحاء مغايرا للإيحاءات التي رافقتني في حلّي وترحالي سنينَ وسنينَ عدداً …
فكأنّ الشمسَ التي تعلّقْتُ بنبل بهائها منذ أن كان الزمنُ زمناً قدْ زادها الخجلُ بهاءً مُضاعفاً كذا مرّة وهي تُسْفر عن وجْهها باسمةُ ثمّ تغيبُ خلْف خِمار غيْميّ يرفعُ فتْنتَها إلى درجة الانبهار المطلق كلّما أعادَت الكرَّةَ بين نسمات شرقية ممتلئة بأثر الدفء الأسيوي ذي النفحات الصحراوية وأخرى غربية ممتلئة بأثر الثلجيات الأوربية ذات النفحات القطبية، وهي تَسْمَرُّ حيناً وتَشْقَرُّ حيناُ وتمزج بين السُّمْرة والشُّقرة أحيانا متعددة بمستويات متفاوتة متقابلة متناسقة متعايشة، وكأنّ القمرَ الذي رافقْتُ رحلاته الهائمة في كبد الليل وأنا هائم معه بدافع عوامل معلومة مجهولة في آن معاً قدْ أضاف لذاته ما أضافت الشمس لذاتها وخفّفَ من ليْل الليل بأضواء إسطنبولية ليست ككلّ الأضواء وحركات إنسانية أمتعت الأذواق وأبهجت الأحداق وعطّرت الشوارع والساحات والأسواق وقرّبت الآفاق بالآفاق حتّى بدا كلٌّ إلى كل في اشتياق والأشواق تزاحمها الأشواق …
حين جولاتي في رحاب أحضانها زرْتُ جامعاتها ومتاحفها ومساجدها وكنائسها وقناطرها وقصورها ومقابرها وأسواقها وأنا أتحاور مع فترات تاريخها المحكيّ واللّامحكيّ، وكنتُ – إذا ما تعبت قليلا – أجالسُ حديقة من حدائقها فتُجالسني بلطف يَروي ما يُروَى وما لا يروَى، كما زرت – وأنا أمتطي كذا وسيلة نقل – شوارعها الكبرى ومقاماتها العظمى والعديد العديد من أحيائها القديمة والحديثة ومحلّاتها الثقافية والتجارية والخدماتية، بدْءً بمهبط طائراتها أين تنشقّ السماء شقّا وانتهاءً بموانئ انطلاق مختلف عوّاماتها وقواربها الصانعة لبهجة المياه البحرية، كما زرت أيضا بعض مافيها من آيات ممتعات تحت الأرض وفي الممرات الضيقة وفي الزوايا الهامشية المتناثرة هنا وهناك في شقّيّ المدينة الهائلة، وغير ذلك ممّا لا يخفى على هواة السفر الحُر من قيود التنظيم القسري ومحبّي الاكتشافات المعتمدة على الصدفة والسؤال أكثر من اعتمادها على التخطيط والخرائط … وفي كل حيثيات هذه الرحلة الكبيرة التي لا يمكنها أن ترحل من وجداني وجدْتُ ووجدْتُ ووجدْتُ وسأظلّ أستنتجُ منها وأستنتجُ وأستنتج …
ممّا وجدته وأنا أتأمل بعض مشاهداتي واستنتجته وأنا أقارن بين هذه المشهدية وتلك أنّ مدينة إسطنبول هي خلاصة تركيبية رائعة بين مجموعة من الحضارات والديانات والثقافات وفترات التاريخ المزدهر هنا وهناك … فما إن يلتقط ذهنك مجموعة من المشاهدات المنمازة حتّى ترى الحضور المتداخل المتعاشق المتمازج بين دمشق وبغداد والجزائر والقاهرة من جهة وبين أثينا وروما وبودابست وفيينّا من جهة ثانية، فإبهاج مختلف حضارات شرق البحر الأبيض المتوسط وشماله وجنوبه حاضر بشموخ وروح الديانات الوثنية القديمة والتوحيدية الأقل قدما تلفت نظرك في كل حدب وصوب … بدا لي وأنا أتغلغل في تلافيف ذلك الإبهاج المثير وتلك الروح العتيقة – في لحظة تأملية وأنا واقف في قلب قنطرة بوسفورية تسترجع ذاكرة المكان وترصد تفاصيل خصوصياته – أنّ إسطنبول ملتقى صناعات للمجد بصناعات للمجد كما هي ملتقى قارّة بقارّة وبحر ببحر وأجناس بأجناس وعقائد بعقائد وفنون بفنون وخِبْرات بخبرات ومِعمار بمعمار وتاريخ بتاريخ وبطولات ببطولات، أو بعبارة أخرى هي ملتقى لكل شيء بكل شيء إلى درجة أن يخال أي منخرط في فضاءاتها أنه منها وله شيء فيها ولا يمكن أن يكون غريبا عنها …
من أعالي صهوة تلك القنطرة البوسفورية الهادئة بهدوء الوجدان ذهبَتْ عيناي بعيدا بعيدا وذهبَتْ روحي الحالمة أبعد من ذلك بما لا يُقدّر بمساحة مكانية ولا مسافة زمانية فإذا الجوّ أشعارٌ وأخبارٌ وحكاياتٌ متزاحمة متتابعة تقصّ بعض نزوات التيارات التي أنجبتها البحار وأناقة الجمال الذي أضافه المعمار وأصالة التحف الفنية التي أبدعها الرسّامون والنحّاتون والموسيقيّون والمسرحيون والروائيون والسينمائيون ومختلف أصحاب الإلهام الحالم الذين عاشوا هنا أو مرّوا من هنا بين صبيحة وضحاها والمساء إذا تلاها وهمس الليل إذا ما في السهرات حكاها أو مَثـَّلها أو غنـّاها … من هذا الركن؛ تصل بطبْع خافت إلى عمق سمْعي معزوفةٌ موسيقية من أداء فتىً مررْت به جالسا في نفق وهو يُداعبُ أوتار كمان عتيق من خشب أحمر يعود إلى أعْصُر الكبار، وفيما بدا لي كانت المعزوفة تحكي بأنغامها المنسابة سلسلا من سلسبيل مقتطفات من يوميات عشّاق الأتراك والأكراد والأرمن والعرب والمجريين والجرمان والمقدونيين واليونان والرومان وغيرهم وغيرهم من الذين ركبوا الماء بين البحر الأسود وبحر مرْمرة أو جاؤوا من مختلف أصقاع اليابسة برّا أو جوّا ثمّ ارتمَوْا في لحظات بوسفورية ليست ككل اللحظات… ومن ذاك الرصيف تصل إلى عينيّ ظِلال السمّاكين الحوّاتين وهمْ يقفون في خشوع منذ آلاف السنين دونما أن يغيّروا في تمَسْرُح أَناهُمْ الصيّاد شيئاً يُذكَرُ باستثناء الأدوات والملابس المناسبة لكلّ عصر … ومن الاتجاهات كلّها – اليمين واليسار، الأمام والخلف، الأعلى والأسفل – تراءتْ لي عرائس البحار التي غادرتْ المياه منذ فترات وقد جفّت ذواتها وتحوّلت إلى كائنات أخرى صانعة حياة المدينة الفاتنة أو التي تمارس مغادرتها في الحين ورذاذ المياه البوسفوية يتلألأ فوق مختلف مفاتنها كأنه يرقص مع أشعة الشمس المنسحرة نهارا أو مع أشعة الأضواء الموَشّحة إذا ما الليل قال : السلام …
في كل أساطير الخيال الواقعي، عبر تجليّاته المسكوت عنها عالميا، ترد “عروس البحر” بصيغة الإفراد الأبدي باستثناء “عرائس البحار” التي شكّلتْ السرّ السحري للقسطنطينية إسطنبول في كل تاريخها المازج بين أساطير الغرب والشرق وبين حقائقهما الواقعية في آن واحد، من غير خلل ولا خطل ولا خجل ولا وجل … زجليات جمَعتْ جمال كل الزجليات، وتناغمات نسّقتْ جلال كلّ التناغمات، وألوان حاكاها قوسُ قزح في سماوات الأمطار والإعصار وممرّات الندى فوق واسع الأنهار ومروج الربيع المزخرفة بتغاريد الطيور وتعانق الأزهار … ربّما كانتْ تلك العرائس القادمة من غيْب الغيب والمتّجهة نحْو غيب الغيب هي بعض ما وصل إلى بلاد الأناضول من زمن الحيثيّين إلى زمن طيب رجب أردوغان في حكاية ممتعة طويلة ساهمت في نسجها كواعب أتراب تغذّيْن من سرّ بينيلوب وسحر شهرزاد …ربّما وُلدتْ عرائس إسطنبول من عنْف التيارات البحرية العابرة لمضيق البوسفور تعبيرا منها عن رفض العنف الإنساني الذي ملأ الدروب بالصراخ والعويل وملأ القلوب بالمراثي والتأبينيات وملأ أوراق الإعلاميين والمؤرخين وكُتّاب الشهادات واليوميات بكذب صادق يتقاطع بالصدق الكاذب ويُحَوّل الشيئين إلى شيء واحد … ربّما، بل من المؤكد هذه المرّة أنّ عرائس البحارذات العبقرية والجنسية البوسفوريتين قد وضعتْ أناملها بمهارة فائقة في مجمل المنسوج المادّي واللّامادي الذي سيقترح غدا أو بعد غد رؤية أخرى لمسار الإنسان والمكان والزمان …هكذا فكّر قياصرة بيزنطة، وهكذا فكّر سلاطين آل عثمان، وهكذا يفعل الفكرُ الحديث الحَداثي المُسْتحدَث المُحَدِّث اليومَ بروح عالية مؤسّسة على قواعد أقوى من قواعد السابقين والمجاورين والمنافسين والمشاركين في هذا الحلم الإنساني العتيق المتجدد باستمرار …
وما يُعطي مصداقية ضخمة لهذا الأمر المؤكد هو التطور الضخم للحكم الديمقراطي والأداء الاقتصادي والإبداع في كل نشاط يحتاج إلى إبداع، كما تثبته لغة الواقع الرقمي المنشورة هنا وهناك … مع التشبث بالخصوصية، وربط الصلة الوثيقة بالانتماء، والانفتاح على الكونية؛ إذْ من حضوري لخطابات عدد من المنابر ومشاركتي في بعض الموائد المستديرة وسماعي للناس في كذا جلسة متعددة الأجناس لفت انتباهي أنّ الأتراك يتكلّمون أولا باللغة التركية وهذه خصوصية وأصالة، ثم يتحوّلون إلى اللغة العربية وهذه عقيدة وانتماء، ثم ينتقلون إلى اللغة الإنجليزية وهذه كونية وانفتاح … في توافق تام ومن غير عقدة من هذه ولا تلك …
وفي الختام؛ هذا آخر ما دوّنْتُه في مفكّرتي وأنا أودّع أرض القرن الذهبي بصدر دافئ جدا في يوم بارد جدا :
– ناقشْتُ بعض أعلام جامعة السلطان محمد الفاتح فاستنرْت …
– زرْت متحف القلعة في حديقة طوبْكابي الثقافية فابتهجت …
– تجولت في أنحاء آياصوفيا فانبهرت …
– ركبت نشوة البوسفور فانسحرت …
– صليت في رحاب الجامع الأزرق فارتفعت …
– استنتجت أن تركيا تسير في الاتجاه السّويّ فاستبشرت …
………………………………. والسلام عليك يا أرض الجلال والجمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إمضاء : – الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي —
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ