بقلم أ.د.خريستو نجم
الحب والغزل في شعر ملوك بني أيّوب… بين الحقيقة والوهم
موضوع هذه الدراسة التي أعدها أنور الموسى جديد، لأن الباحثين قديماً لم يتوغّلوا في نواحي هذه الأطروحة (الحب والغزل في شعر ملوك بني أيوب) اجتماعياً ونفسياً وفكرياً. ذلك ان في هذه الدراسة فنوناً مستحدثة عن الملوك في العصر الأيوبي الذين اشتهروا في اللغة العربية بعدما تخلوا عن لغتهم الكردية، وأسهموا في إنشاء المدارس الكثيرة والمجالس الأدبية والعلمية، مروراً بالحروب الصليبية والحب العذري الذي يتّصف بالديمومة المستمرة.
أ – العذرية في الوجع والحرمان:
لا شك في ان تحليل الدراسة جيد، لانه ينتمي الى مناهج حديثة، ولا سيما التحليل النفسي لأشعار ملوك بني أيوب في الحب والغزل. وبما ان الألم كان من صفات ملوك بني أيوب، طالعنا الشعر العذري في قصائدهم العاطفية وان لم ينتسبوا الى قبيلة بني عُذرة، وآية ذلك تغنّى الشاعر الحزين تعبيراً عن شقائه في هواه:
وحيّرني الغرام فلست أدري كيف أنطلقُ فواعجبا، أكل العاشقين كما لاقيتُ لقوا؟
ويبدو ان الشاعر مرتبط بهذه الآلام الحزينة، ومنسجم بهذا العذاب الوجداني، مؤكداً رغبته العاطفية بقول الملك الأمجد (بهرام شاه):
وقد كنت حراً قبل ان أعرف الهوى/ فلما عرفت الحب صرت له عبدا
الحب عند العذريين لا يتبدّل مهما ازداد الوجع والحرمان. وبما ان شعراءنا بهذه الدراسة يشبهون (جميل بثينة). وأمثاله، لا غرابة في أن نقرأ شعر الملك (خليل الأيوبي) قائلاً:
انا مغرم عبد أسير في الهوى/ لسـواك لا أهوى ولا أتعشق
هذا ما قرأناه في الأطروحة التي ورد فيها التحليل النفسي بمصطلح (المازوشية) Masochisme المرتبطة عند الأيوبيين بمفهوم الحب والهوى، حتى أن الملك (بوري بن أيوب) أيضاً جعل العذاب في رأيه، أحد ركائن الحب العذري قائلاً:
فزدني عذاباً ما استطعتَ فإنني/ ليحلو عذابُ الحب عندي ويعذب
فالحب الذي يتغنى به الملوك الأيوبيون، فيه داء بلا دواء. ولذا سمعنا الملك الأمجد (بهرام شاه) يقول انه يعيش في معاناة بلا معالجة:
عندي من الوجد داء لا دواء له/ لم يدر كيف يـداويه مداويـه
فجلي أن العاشق العاطفي يظل خاضعاً لآلام هواه، بعيداً عن بلوغ مناه او اتصاله بمن يحب. وهذا دليل صدمة الانفعال والبعاد من خلال شعر عُذري أصيل. والشاعر العذري لا يزال راضياً بعذابه، ولا يتبدل عن حبيبته مهما تعذب. يقول الملك (خليل الايوبي):
انا مغرم عبد أسير في الهوى/ لسواك لا أهوى ولا أتعشّق
وهذا ما ورد في هذه الدراسة، عندما ذكر الطالب ان الملك (الناصر داود) لا يكترث لما يسببه الحب من آلام وعذاب، لانه يستعذب الهوى الشبيه بالموت، كما في قوله عن حبيبته:
يحلو هواها، وان أجرت دمي عبثاً/ ولا أبـالي، فان المـوت مقـدور
فالحب يجعل الموت وارداً كما رأينا في كتاب (ستندال) القائل: (الحب الصحيح يجعل فكرة الموت واردة في كثير من الأحيان). وهنا ما ورد في الأطروحة عن شعر الأمجد (بهرام شاه) القائل:
إذا مر يــوم لا أراك فانـه/ هو الموت أو أسبابه أو دلائله
هذا شبيه بما قاله ايضاً تاج الملوك (بوري بن أيوب) في شعره:
خلق الهـوى داء بغير دواء/ فعليــله أبداً بغيـر شفـاه
من هنا اصبح وضع الشاعر المازوشي، قريباً من بلوغ الموت الذي يرغب فيه الملك الأمجد (بهرام شاه): (فما الموت الا للمحب مريح). وهذا معناه (ثناتوس) Thanatos اي اله الموت عند الإغريق، ابن الليل وأخو النوم. واستخدم (سيغموند فرويد) اسمه ليرمز غريزة الموت التي تهدف إعادة الكائن الحي الى الحالة اللاعضوية التي كان عليها قبل الميلاد. فالشعراء الايوبيون على الرغم من صدمة الانفصال والبعاد، ما زالوا يتلهّفون الى الأحلام والسعادة من خلال شعر عذري أصيل. فلا غرابة ان يسترجع الماضي، وهي ذكريات الحياة الجنينية التي فقدها متألماً كما في قول الشاعر الأمجد (بهرام شاه):
تذكَّـر أيـام الصّبـا فتألمـا/ وعصراً لريعان الشّباب تصرّما
ب – الحبيبة/الأم، في ملوك بني أيوب
معنى ذلك ان المرء لا يزال في حنين عودته الى بطن أمه قبل ولادته. وهذا دليل المشاعر الأوديبية الدائمة في أعماق الانسان بهذه الدنيا. وكثيراً ما طالعتنا هذه الناحية في قراءة هذا البحث. مثال ذلك جذور التعلق بالحبيبة/الام، وعلاقة الطفل الدائم بأمه. فالأمومة هي الفردوس الذي نَعِمَ فيه بسعادته، منذ كان في أحشائها، ثم طفلا في صدرها، ثم صبياً على حضنها. يطالعنا في هذه الدراسة تحليل السعادة التي يستمدها المرء من رعاية الأم، ثم يتعرض الى انتكاسات كثيرة بمقدار حرمانه منها. مثال ذلك (صدمة الولادة) ثم صدمة الفطام التي تحرمه حنان الثدي الدافئ، ثم السقوط في المشاعر الأوديبية. ولان الانسان مع تطور شبابه، لا يتخلّى عن هذه المشاعر الأوديبية في علاقته بالحبيبة، يتجلّى ذلك في نكوصه الى الطفولة Regression مرتبطاً بالتجويف الفمي والشفتين، وتستمر معه في زمن النضج لانها طبيعة العلاقة الذوبانية. فهي تسمح للشاعر العاشق أن يجتاف Introjecter الموضوعات المشتهاة شمّاً وسمعاً ونظراً، فضلاً عن اللمس الأكثر حسية بدائية. يقول تاج الملوك متمنياً تحقيق المشهد الغرامي المتمثل بلثم خد الحبيبة ورشف ثغرها:
فبتُّ ألثم خدّا، ورده أبـدا غضّ،/ وأرشف ثغراً ريقه شبم
هذه المشاعر الاوديبية وردت في الأطروحة لشرح الأبعاد المعنوية في قصائد الملوك الأيوبيين الذين تعلقوا بالحبيبة/الام. فالطفل بنظر المحللين يظل مرتبطاً بأمه، لانها الفردوس الذي نعم فيه منذ كان في أحشائها، ثم طفلاً في صدرها، ثم صبياً على حضنها. وتأثير الأم في الطفل أشد من تأثير الأب. فهي تغذّيه من دمها أشهراً وتطعمه لبنها، وتربيه سنين طويلة في حجرها أي حضنها. من هنا طالعتنا في هذه الدراسة صورة الأم. نقلاً عن لغز (عشتار) اي الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. فالسماء الزرقاء التي تنشر غطاءها فوق الأرض هي الأم، والبحر الذي يصدر عن مياه أزلية لا نهاية لها، هو ايضاً الأم. وكذلك الأرض هي الأم الحقيقية للإنسان، يعود اليها في مماته. ولذا قال (ستندال) في كتابه: (الحب الصحيح يجعل فكرة الموت واردة في كثير من الأحيان). صحيح ان عذابه بالحب أوصله الى الموت، ولكن الموت يهديه الحياة الجنينية في بطن أمه قبل الولادة، لأن الام هي الارض التي ولد فيها. والوطن أيضاً هو المرأة الحبيبة. هذه الآراء يؤكدها التحليل النفسي من خلال مصطلح الأرض/الأم La Terre/Mere. يقول (ولفغونغ ليدرير) Wolfgang Lederer ان الارض الأم اسمها Matrix, Mater, Materies. ومعاني كل هذه الاسماء Matire اي مادة الوطن.
ج – الأنوثة والذكورة والرموز الدينية
ولأن الطفل منذ ولادته يرتبط بهدهدة الأمومة، يظل مولعاً بالايقاع النغمي الذي بدا في العصر الأيوبي، وامتزج بالشعر وإيقاعه حول موضوع الحب والغزل. هذا النغم الظاهر في نتاج الشاعر له جذور أوديبية قديمة لاحت كثيراً لدى شعراء الملوك تعبيراً عن حالتهم النفسية: حالة الفرح وحالة الحزن. ومن يقرأ موشحات الملك (خليل الأيوبي)، يجد فيها الغناء والموسيقى، مثال ذلك:
سلبت لي رقادي يا ناعس الجفون/
رميت في فؤادي سهماً من العيون
فالفن طابع غنائي، مصدره التنفيس عن الهم والعذاب، لانه تفريغٌ لأوضاع مؤلمة.
أكبر الظن، ان شعرنا العربي اكثر النتاج عزفاً موسيقياً في هذه الدنيا. والدليل ان شعرنا العربي كان السبب الموحي الى الغربيين في ابتكار شعرهم الذي سموه (تروبادور) Troubadour. والحق ان العرب عندما احتلوا الأندلس وأطلقوا شعرهم الموزون، تأثر الغرب بالشعر العربي المطرب واخترعوا حينذاك مصطلحهم الشعري (تروبادور)، وهي كلمة مصدرها اللغة العربية (طرب). والطرب نوع من الهدهدة التي وردت في هذه الدراسة نتيجة ولع الأيوبيين بالأمومة. بيد ان الأوديبية لا تعني الارتباط الدائم بالأم دون الأب، فمرور الزمن يربط الطفل أيضاً بأبيه لانه يجسِّد القوة او الرجولة التي يرغب الطفل في اكتسابها لنفسه. من هنا يغدو الوالدان في الأحلام رمز الملك والملكة. وهذا ما قاله ميخائيل نعيمة:
(ان المرأة نصف انسان، والرجل نصف انسان، ولن يكون الانسان الكامل الا بالاثنين متحدين).
والحق ان هذا الرأي يتفق ومصطلح (أندروجين) Androgine الذي ورد في كتاب (أفلاطون):
Le Banquet. فـ(أندروجين) رمز لاول مخلوق في الدنيا، فيه الذكورة والأنوثة معاً، شقَّه (زيوس) Zeus نصفين ورماهما في العالم، وأصبح النصف يبحث عن نصفه الآخر بغية استرجاع وحدته العريقة كما ورد في الأساطير. طالعنا هذا المعنى في شعر (بهرام شاه) الذي غرق في علاقته بالحبيبة/الام، كما في قوله بعد رحيل حبيبته:
أحبابنا إن رأيتم من قضى أسفاً/ بعد الفـراق على أحبـابه فأنـا
ولا بد ايضاً من ذكر الرموز الدينية التي وردت في الاطروحة عن طريق الطهارة العذرية. فالشاعر الايوبي يستخدم في أشعاره رموزاً دينية كشخصية النبي (يوسف) والنبي (يعقوب) و(أيوب) وغيرهم:
يا من حكى يوسفاً في حسن صورته/ جِدْ لي بوصلٍ، فاني فيـك يعقوب
فالشاعر يطلب الاستعانة بالأنبياء ليستريح من التعب. ونتيجة ذلك، شبه (تقي الدين عمر) حبيبته بالجنة:
كأنك الجنة من حلهــا/ نال أماناً من أليم العذاب
د – البنية اللغوية، والتفسير النفسي
نذكر أيضاً منهج الرومنسية المرتبطة بالطبيعة كما وردت في هذه الدراسة التي ذكرت الاغتراب في شعر الملوك. فالأرض التي ذكرناها سابقاً صورة من الرومنسية، وكذلك الشمس والقمر والليل، ولا سيما الدمع الذي فضح الأسرار للوام:
يا أدمعي في رسمها الجاري/ أوضحت للَّـوَّام اخبـاري
فبكاء الشاعر نسخة من الرومنسي الحزين كما في قوله:
لا غرو أن أبكي ليالي قربها/ وقد انقضت ببعـادها الأيام
فجليٌّ أن حبَّ الملوك شبيه بجميل بثينة وليس بعمر بن أبي ربيعة.
اضافة الى التحليل النفسي والرومنسي، بد أيضاً المنهج اللغوي الذي تعمق الباحث فيه عن طريق المستوى اللفظي ودلالته النفسية. فالتكرار في قصيدة (بهرام شاه) دور مهم في إظهار معاناته، فتكرار لفظة (ديار) في البيتين الأول والثاني، يحمل في داخله دلالات نفسية توحي بمكان وجد فيه الشاعر حبيباً وحبّاً وحياة. وكذلك تكرار لفظة النداء (يا) في البيت العاشر من إحدى القصائد، توحي أيضاً بدلالة نفسية معينة:
فيـا حبّذا تلك الليالي وطيبها/ ويـا حبّذا إحسانها وذنـوبها
فاللغة يرتبط بها إيقاع وصور لدى (بهرام شاه) الأيوبي. من هنا أهمية القافية أيضاً كما يقول (شوبنهور): (أهمية الوزن والقافية في تحريك الخيال). وسمعنا (طه حسين) يقول: (الشعر كلام مقيد بالوزن والقافية). ولذا وجدنا في هذه الدراسة أبعاد القوافي: الهاء، والطاء، والعين. مثال ذلك قصيدة الشاعر (بهرام شاه) في قافية (الطاء)، وقوله في حرف (العين)، اضافة الى (الراء):
يا أدمعي في رسمها الجاري أوضحت للَّـوَّام اخبـاري
كل ذلك بنغم بطيء يوحي بزفرات الشاعر وتأوهاته.
فالملك الأيوبي شاعر حب ومعاناة، لا شاعر غزل إباحي. لذلك نراه يجانس جناساً تاماً بين كل قافيتين من القصيدة. والجناس معناه تشابه الكلمتين في الكتابة، واختلافهما في المعنى. مثال ذلك تكرار كلمة (ولا حبت)، في الشطر الاول والشطر الثاني:
سلفن أيـامي ومــا جـاءت به، ولا حبّت
وبَنتْ حظّي ما مشتْ فـي حبـه، ولا حبّت
(فكلمة (ولا حبّت) الاولى، معناها: ولا أعطت. والثانية، معناها: ولا دَنَت)).
وكذلك يستخدم الملك خليل الأيوبي التشابه والاختلاف بين كلمة في نهاية الشطر الاول، وأخرى في الشطر الثاني:
وحقك إنني بالعشق بـالِ ولم يخطر سواك اذن ببالي