السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قراءة في كتاب / قراءة في كتاب محمّد الجابريّ «إشكاليّات الفكر العربيّ المعاصر»

قراءة في كتاب محمّد الجابريّ «إشكاليّات الفكر العربيّ المعاصر»

بقلم : زينة شوقي 

عناصر الفكر العربي المعاصر بين الماضي والحاضر 
قراءة في كتاب محمّد الجابريّ: إشكاليّات الفكر العربيّ المعاصر

(محمّد عابد الجابريّ ؛ إشكاليّات الفكر العربيّ المعاصر ؛ مركز دراسات الوحدة العربيّة ؛ ط1 ؛ بيروت حزيران 1989م)
توطئة :

يموج الفكر العربيّ المعاصر ويتلوّى بين نارين، مواكبة الحاضر من جهة، والتّمسّك بأمجاد الماضي من جهة أخرى ، حيث يرزح تحت وطأة الجهل ويتغنّى به… ما يخلق إشكاليّات صراع بين الأنا (العرب) وتقانتها اليدويّة الرّتيبة وقيمها الآخرويّة المثاليّة، والآخر (الغرب) بتقانته الآليّة المتطوّرة وقيمه الدّنيويّة الماديّة؛ بمعنى آخر صراع بين القديم والجديد.. هذه الأمور عزّزت الشّعور بالفراغ على صعيد الهويّة؛ ما جعل الأنا في ازدواجيّة فُرضت عليها، وأذكت نار التوتر والقلق من الآتي . فما هو السّبيل لحل هذه المشكلات الكبيرة ؟ وكيف نحلّل الفكر العربيّ تحليلاً عقلانياً نقدياً واعيًا ، في رأي محمّد عابد الجابريّ ، لنتجاوز القضيّة ونتخطّاها؟
يبرز، في قراءة لغلاف الكتاب، ثلاثة ألوان. ففي الأسفل اللّون الأخضر وربّما أراد به التّعبير عن الأرض أو العالم العربيّ ؛ واللّون الأصفر في الوسط وقد احتلّ مساحة أكبر، حيث يعبّر عن الفكر العربيّ ؛ وفي الأعلى اللون الأبيض وقد يعبّر عن السلام والوحدة… أي أنّه أراد أن ينتشر الفكر الواعي على الأرض في العالم العربيّ، بجوّ من الوحدة العربيّة والسّلام. ووجود خطين يقيّدان العنوان، يوحي بشكل أو بآخر بأن الفكر العربيّ المعاصر ما زال مقيّداً بسلاسل يوضّحها لنا في كتابه.
وقد ارتبط العنوان “إشكاليات الفكر العربي المعاصر”، بالكتاب حيث تطرّق إلى الإشكاليات المرتبطة بالفكر العربي المعاصر، ومعنى الفكر ودوره في عصرنا اليوم. كما وضّح الازدواجية في فكرنا، مقارنًا بين ثقافتنا التي تُرجعنا إلى الماضي، وثقافة الغرب التي تقوده إلى التّقدم. فحاول الجابريّ من خلال كتابه المساعدة على تجاوز المشكلات، بالوعي والفكر والنقد البنّاء، فمن واجبه أن يحمل على عاتقه هموم شعبه ، ويحاول إزالة أكبر قدرٍ ممكنٍ منها.

1– الفكر العربيّ المعاصر(قراءة تشريحيّة):

أ-الأصالة / المعاصرة :
بداية لا بدّ من تحديد مسألة إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث ، لأنّها “لا تعكس بالضّرورة وضعًا طبقيًّا، ولا تعبّر بالضّرورة عن مصالح طبقيًّة”، بل يميل استقلالها النّسبيّ عن الواقع، ولا تقبل الحل إلا بتجاوزها، لأنّ الواقع لا يعكس الفكر، وهنا يُطرح السّؤال: هل هي صراع طبقيّ أم مشكل ثقافيّ ؟
فالأصالة / المعاصرة ليست اختياريّة ، بل هي ازدواجيّة مفروضة علينا ، من خلال غرس بنى النّموذج الغربيّ في بلادنا، بالإغراء حينًا وبالقوّة حينًا آخر . ويدعو إلى التّفتيش عن طريق المعالجة لهذه المشكلة ، وهنا يُطرح السؤال الأهمّ : لماذا تأخرنا ؟ وكيف ننهض لنواكب التطور؟
هنا ، في رأي الجابريّ ، لا بد من الرجوع إلى الأصول لا لنعيده أو نقف عنده ، بل لنتحاور مع الماضي القريب والحاضر ونقفز إلى المستقبل.. وهذا بمنزلة حلم إيديولوجيّ يحتمي بالماضي البعيد (الأصول) . ويؤكد ذلك بقوله: “إنّ ميكانيزم الرّجوع إلى الأصول، سواء في النّهضة العربيّة الأولى الّتي قادها الإسلام أو في النّهضة الأوروبيّة الحديثة، ما كان يمكن أن يتّخذ شكل الرّجوع إلى الماضي ، من أجل تجاوزه هو والحاضر إلى المستقبل، لولا غياب الآخر ” . أي أنّ هناك ازدواجيّة في تعاطي الغرب، فهو لديه مظهران متناقضان : مظهر يمثّل العدوان ، وآخر يمثّل الحداثة؛ وبالتّالي النّتيجة تشويش الحلم النهضويّ ، وتعتيم الرّؤية في فكرنا لكي نبقى غائبين. لذا هناك تشابك في الحركة وصراع مزدوج ضدّ الغرب ومن أجله، وبذلك قام انبعاث الوعي الطائفي مقرونًا بالوعي النهضوي لزيادة الأمور تعقيدا. كما أن إشكالية الأصالة/المعاصرة هي إشكالية فكرية ثقافية محض. وإذا ما قارنّا بين التّراث ومضامينه المعرفية ، والإيديولوجية ، والمعيارية ، وبين الفكر العالميّ المعاصر ، لشعرنا بعمق الهوة الّتي تفصل بينهما . وهنا نلاحظ أنّ نجاح أوروبّا في التّقدم هو التّمسك بالتّراث، وتحديث القديم بحيث تستخدم المواد القديمة وتضيف عليها المواد الحديثة من خلال العقلانيّة بمساعدة التاريخانية. لذا على العرب إعادة بنينة الوعي بالماضي والحاضر إلى المستقبل. ويدعو العرب إلى الانطلاق من نقطة البداية في عصر صدر الإسلام (فقد اندمجت في ذلك العصر عدة ثقافات) ، والتعامل مع الثقافة الغربية ، والدخول في حوار نقديّ ، والتّعرّف إلى أسس تقدّمها ، والعمل على استنباتها في تربتنا الثّقافية ، وهنا تكمن العقلانيّة في إعداد التّربة الصّالحة الّتي لا تُستورد.

ب- أزمة الإبداع في الفكر العربي :
تعود أسباب أزمة الإبداع في الفكر العربيّ إلى أسباب عديدة. فالإبداع يتحقّق بشرطين أساسيّين هما الجدّة والأصالة، وليس الخلق من العدم؛ لذا فإنّ أزمة الإبداع تعمّ الفكر العربيّ ككل، والفكر هو أداة (أي بنية عقليّة) ، ومحتوى (أي بنية إيديولوجيّة) وهنا تطال الأزمة الأداة والمحتوى في تداخلهما . أما المهمّة الأولى لحل هذه المشكلة فتكون في الاستقلال التاريخيّ ، والتّخلّص من النّموذج/ السّلف، وآليّات التّفكير التي يكرّسها.. وهنا إذا حاولنا معرفة أسباب انحطاط العرب ، نجد نشأة ثلاثة نظم للفكر (بيانيّ ،عرفانيّ ، برهانيّ ) منذ العصر العباسيّ . و نشأة الخلافات… حيث انتصر فيها النّظام العرفانيّ الّذي سجّل استقالة العقل العربيّ، وكان السّبب في رقادهم. بالإضافة إلى ارتباط الدّين بالسّياسة، فكانت المحرّك الأساسيّ للثّقافة العربيّة، ما جعلها تخضع لتقلّباتها ، وتتأثّر بإخفاقاتها ونجاحاتها . لذا من شروط تجاوز الأزمة الانتظام في التّراث العربيّ لتجديده من الداخل، والانتظام في الفكر العالميّ المعاصر (أي إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل) .

2- مستقبل الفكر العربيّ :

في قراءة لمستقبل الفكر العربي على المستوى المنظور ، تتحدّد معطيات الثقافة العربية في وضعها الراهن بالأمور التّالية :
أوّلًا : تصل نسبة الأمية في العالم العربي ، بحسب الاحصاءات ، إلى 75% من حيث الكم . أما من حيث النّوع فلا نجد هناك انسجام ، ما يؤدّي إلى ظاهرة انفصام الشّخصية الثّقافية وازدواجيّتها .
ثانيًا : تقلّص تعليم اللّغات الأجنبيّة .
ثالثًا : ضعف الاهتمام بالبحث العلميّ وهذا الوضع الثّقافي لا ينتج فكرًا .
وأمّا معطيات الثقافة التي تنزع في عصرنا إلى الهيمنة على المستوى العالمي فتتحدّد في الآتي : غزو ثقافيّ إعلاميّ على الصعيد العالمي ؛ فأوروبّا كانت مسرحًا للتّداخل الثّقافيّ بين مختلف الحضارات والأمم . وهذا ما سينعكس أثره على الفكر العربيّ حتّى يغدو ممزقًا . فمنهم من سيستسلم لهذا الغزو ، وغيرهم سيرفض متثّبتًا في مواقع خلفية. وهنا خطورة الازدواجيّة في ثقافتنا وسلوكنا. ولكي نتخطى هذه المشكلة الخطيرة علينا أن نحقّق هدفين: الوحدة والثّقافة السّياسيّة العربيّة كونها جزءا من التّراث ؛ والتّقدّم على جميع المستويات (اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية..) . لذا يجب إعادة النّظر في هذين الهدفين، وترتيب العلاقة بينهما ، بشكل عقلانيّ يعتمد معطيات الواقع الموضوعيّ ، والامكانات الذاتيّة الفعليّة. كما أن خصوصيّة الثّقافة العربيّة من حيث أنّها لا قطرية، تعطي لدور المثقّفين العرب بعدًا قوميًّا، يجعل عملهم يخترق القطر الواحد وينعكس أثره على السّاحة العربيّة كلّها .
نستنتج ممّا سبق أهمية إعادة بناء مفهوم الوحدة ، حيث يتّجه تاريخ الكفاح الوطنيّ إليها في خدمة نقيضها ، أي الدولة القطرية التي تدعو إلى التجزئة في الظّاهر، ولكن مضمونها يلبس لباس الوحدة. لذا علينا تصحيح الوعي بالوحدة، فإنّ طريق الوحدة طريق شاقّ ومتعب. كما يتحتّم علينا استرجاع المفاهيم الموروثة والمبادىء وإخضاعها للنّقد الذّاتيّ. فعلى سبيل المثال : الحكم الدّيموقراطيّ المنبثق من الشّعب ، يجعل الدّولة علمانيّة ويفصلها عن الدّين، ويفهم الوحدة في تناقضها مع التّجزئة . وليست المشكلة هنا كامنة في لباس الدّولة لباسًا دينيًّا أو علمانيًّا بل في “انبثاق الحكم من إرادة المواطنين واختيارهم .”

3- بين العرب والغرب :

يتعزّز التّقدّم الأوروبيّ عبر فلسفة التّاريخ أي الرّجوع إلى الأصول، وإعادة تأسيسه بحسب الحاضر الذي أعيشه أي نحو التّقدّم، ما يجعله ممتدًا إلى المستقبل . أمّا العرب فتراجعوا متمسّكين بقشّة التّخلّف خوفًا من الغرق. وإذا قارنّا بين كوندورسيه وابن خلدون ، في رأي الجابريّ ، نجد أنّ المفكّرين العرب كابن خلدون قام بفلسفة التّاريخ فلسفة التّراجع ، “فانزوى في قلعة ابن سلامة معتزلًا السّياسة بعد أن فشل فيها مستلهمًا من التّاريخ الدّروس والعِبر ، نجده يكتب مقدّمته تحت وطأة ” ما حلّ بالعمران والأمم. فينادي بذلك بالخمول والانقباض، ويسارع العرب إلى الإجابة . وهذا ما يدلّ على البيئة الّتي كان يعيش فيها (تشاؤميّة) . أمّا كوندورسيه فقد نادى بفلسفة التّقدّم عبر الثّورة، والتّحرّر والكمال، لذا يفترض أن ننشىء علم المستقبل الخاصّ بنا ، حيث ندمج الماضي بالمستقبل لنحقّق المشروع الحضاريّ العربي. ولكي نحقّقه علينا تحقيق هذه الأهداف: الوحدة، فالتّمدّن ، فالعقلنة .
فالأسباب الّتي أدّت إلى فشلنا في تحقيق النّهضة العربيّة، وتزايد الشّعور بالهوّة التّقانيّة الّتي تفصل بين العرب المتخلّف والغرب المتّقدم.. حيث يقوم الغرب باستغلال التّقانة لتصديرها إلى الدّول النّامية، فتصبح بذلك دولًا مستهلكة وغير منتجة. ويستغلّ البطالة لإغراء الأدمغة العرب فيعاني العرب نزفًا علميًّا خطيرًا  فلا بدّ من حل هذه المشكلة بنقل التقانة وغرسها بالوحدة بين الدّول العربيّة.

4- الرّوحانيّة العربيّة :

طغيان الرّوحانيّة الإسلاميّة والمسيحيّة على الفكر العربيّ لا بدّ من معالجته. ويجب أن نرفضها إذا كانت مرادفًا للخضوع لسلطة الكنيسة أو اللّاعقلانيّة .
وهناك تداخل وتصادم ثلاثة أنماط من الوعي في ثورة 23 يوليو ومشروعها القوميّ العربيّ: الوعي القوميّ الوحدويّ ، الوعي الطبقيّ ، والوعي السّياسيّ . لذا علينا أن نعمل على الوحدة العربية لا الهروب من مواجهة الواقع ، بل تحمّل المسؤوليّة بمحو الأفكار البعيدة عن الواقع. على سبيل المثال لا الحصر : فكرة ظهور المخلّص المتمثّل بالمهديّ المنتظر والبطل التّاريخيّ…
فالعالم دخل في أقصى درجات التّقدّم ، المرحلة النّوويّة ، وما زال العرب في قبيلة، يتفرّجون من جهة، ويتعاركون حول مسائل خلافيّة دينيّة وروحانيّة من جهة ثانية.
ونقول إنّ للفكر دورًا أساسيًّا في العالم المعاصر وينقسم إلى قسمين : العلم والتّقانة من جهة ، والفلسفة والإيديولوجيا من جهة ثانية. لذا أقحمنا الغرب في مسألة النّهضة، فالإنسانيّة معرّضة لغزو إيديولوجي وعقليّ، وتكييف المنطق والقيم والسّلوك، وتنميط الأذواق والاستهلاك. لقد وصل التّطوّر اليوم إلى المرحلة النّوويّة الّتي تخطّت المرحلة الصّناعيّة، والمشكلة هنا بقاء أو فناء البشريّة كلّها. والطّريق إلى النّهضة العربيّة بالدّرجة الأولى، هي نقد المجتمع والاقتصاد والعقل.

5- لماذا فشلنا في تحقيق أهدافنا :

ليس من شأننا الخوض في الأجابات المقترحة لهذا السّؤال ؛ ولا في التّطوّرات اللّاحقة الّتي عرفها الوطن العربيّ سياسيًّا ، واجتماعيًّا، وفكريًّا منذ ذلك الوقت إلى اليوم ، فهي معروفة ومدروسة . ما نريده من وراء التّذكير بظروف تبلور الوعي النّهضويّ عند العرب ، في مثل هذا الوقت من القرن الماضي ، وبالإشكاليّة العامّة الّتي واجهها هذا الوعي، حينما كانت أوروبّا تعيش عصرها الصّناعيّ، وانطلاقتها التّوسّعيّة الاستعماريّة ؛ هو التّعرف إلى حالة الوعي النّهضويّ العربيّ اليوم . أعني إلى نوع الإشكالية الّتي يواجهها في هذا الوقت بالذّات الّذي بدأ فيه الغرب ، والعالم المصنّع كلّه ، يدخل في عصر جديد تمامًا ، العصر التّقاني الذي يبدو أنّه سيفرض نفسه على عالم القرن الحادي والعشرين بأقوى وأوسع وأعمق ممّا فعل العصر الصّناعيّ في القرن الذي بدأنا نودّعه أي القرن العشرين .
وإذا كان السؤال الذي عبّر به العرب عن وعيهم النّهضويّ في القرن الماضي ، سؤالاً مضاعفًا : لماذا تأخرنا نحن العرب ، نحن المسلمين ، نحن أبناء الشرق ؛ وتقدّم غيرنا الغرب ، أوروبا المسيحية ؟ فإن السّؤال الذي يعبّر اليوم عن الوعي النّهضويّ الجديد في السّاحة الفكريّة العربيّة سؤال مضاعف كذلك : لماذا فشلنا في تحقيق نهضتنا بعد أكثر من قرن من وعينا بضرورتها وعملنا من أجلها ؟ (نحن العرب ، نحن المسلمين من جهة) ؛ وكيف ينبغي أن نعمل كي نستطيع الدّخول مع الغرب ، والعالم المصنّع بصورة عامة ، في العصر التّقانيّ ؟ (نحن العرب ، نحن المسلمون ، نحن العالم الثّالث من جهة ثانية).
بدأ العرب في طرح هذا السّؤال النّهضويّ المضاعف الجديد منذ أوائل السّبعينيّات . ومن السّهل على المرء أن يتبيّن الدّوافع الّتي جعلتهم يطرحونه في هذا التّاريخ بالذّات :
إن هزيمتهم أمام إسرائيل عام 1967 التي سجّلت ، بصورة نهائيّة ، فشل التّجربة النّاصريّة ، حيث كانت بمثابة انطلاقة ثورية لتحقيق القوّة والعزّة والتّقدّم للوطن العربيّ كلّه ، للعرب المتنوّرين . لكنّ تلك الهزيمة وحدها كافية لتفسير الشقّ الأوّل من السّؤال : لماذا فشلنا في تحقيق نهضتنا.إلخ؟ أمّا السّؤال الثّاني ، فهو في الحقيقة امتداد لإشكاليّة مهمّة ، يعانيها اليوم العالم الثّالث كلّه ، وهي إشكالية نقل التّقانة إليه من المركز (الغرب) الذي بدأ يدخل فعلاً وبسرعة فائقة في عصر جديد عصر الثّورة التّقانيّة .
من هنا ، أي بفعل هذا السّؤال المضاعف ، تسود الفكر النّهضويّ العربيّ المعاصر نزعتان: نزعة إيديولوجيّة نقديّة تحاكم المئة سنة الماضية ، ونزعة تقنويّة اقتصادويّة مشغولة بمشكلة نقل التقانة إلى العرب .

اكتفى الكاتب بشرح وتفسير القضية المطروحة وهي سبب تأخرنا . وليبين أن السّؤال اليوم قد تغيّر ليصير بصيغة ثانية . كما أنّه استخدم الوظيفة التّفسيريّة والتّوضيحيّة ليقارن بين فشل العرب وتقدّم الغرب . فأثقل النّصّ بالطباق والمقابلة :عرب /غرب ، القديم/ الجديد ، المسلمين /المسيحيين …، حيث قارن عبرهما أسباب تراجع العرب وتقدّم الغرب .
إنّ ما تقدم يحيلنا إلى فهم المغزى بشكل أوضح ومفصّل ، حيث أراد الكاتب التغلغل في وعي الفكر العربي وإعادة بنائه ، فالحلّ الوحيد لهذه المشكلة هو العمل العقلانيّ والجدّيّ للنّهوض بالعرب . فيحاول الكاتب توجيه القارىء إلى بداية الطّريق عبر فهم الأمور وتحليلها ونقدها ، وهذا ما يساعد في الحلول .

6- مقاربة نصيّة :

إبن خلدون وكوندورسيه.. أو التّراجع و”التّقدّم” *

” كان هذا في تاريخ أوروبّا الحديثة .. أمّا في تاريخنا نحن العرب ، فلقد برزت الحاجة إلى رؤية فلسفيّة للتّاريخ مع ابن خلدون يوم كان حاضر الوطن العربيّ والإسلاميّ يشهد تغيّرات متلاحقة مزدحمة في كل بقعة من بقاعه . ولمّا كانت تلك التّغيّرات تعكس في اتّجاهها العام تراجعًا وليس تقدّمًا ، فلقد اتّجه صاحب المقدّمة إلى تفسير التّراجع لا التّقدّم . ومن هنا كانت فلسفة التّاريخ الخلدونيّة فلسفة لـ التّراجع في التّاريخ ، بينما كانت فلسفة التّاريخ عند مفكري أوروبّا القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر فلسفة لـ التقدم .
وهكذا نجد ابن خلدون الّذي انزوى في قلعة ابن سلامة معتزلًا السّياسة بعد أن فشل فيها مستلهمًا من التّاريخ الدّروس والعبر ، نجده يكتب مقدّمته تحت وطأة ما نزل بالعمران شرقًا وغربًا في منتصف المائة الثّامنة [للهجرة=عصر ابن خلدون] من الطّاعون الجارف الّذي تحيف الأمم وذهب باهل الجيل ، وطوى كثيرًا من محاسن العمران ومحاها ، وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفلّ من حدها ، وأوهن من سلطانها ، وتداعت إلى التّلاشي والاضمحلال أحوالها ، عمران الأرض بانتقاص البشر ، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السّبل والمعالم ، وخلت الدّيار والمنازل ، وضعفت الدّول والقبائل ، وتبدّل السّاكن… وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة .
أما في أوروبا القرن الثّامن عشر فإنّنا نجد كوندورسيه (1743-1794 ) ، مثلاً ، على الرّغم من أنّه انزوى هو الآخر في فندق صغير خارج باريس ، هرباً من السّياسة ، سياسة الطّاغية روبسبيير ، نجده يفكّر في الحاضر والمستقبل بوحي الثّورة الفرنسيّة الّتي عاشها من داخلها، الثورة الّتي “نادى لسان الكون في العالم ” من خلالها ، لا بـ الخمول والانقباض كما كان الشّأن أيّام ابن خلدون وفي علم ابن خلدون ، بل نادى بـ التّحرّر والتقدم والكمال . لذلك نجده ، أعني كوندورسيه ، يعلن في كتابه معالم صورة تاريخيّة لمظاهر التّقدّم في الفكر البشريّ ، الّذي كتبه في معتزله المذكور ، يعلن أنّه ليس ثمّة حدود مرسومة لتقدّم الملكات الإنسانيّة لأنّه لا حدّ على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال . وبما أنّه ليس ثمّة قوّة أعلى من الكمال ، فإنّ مسيرة الإنسان نحو الكمال لن تعرف حدًّا ولا نهاية إلّا مع اختفاء الكرة الأرضيّة التي أسكنتنا الطّبيعة عليها . أمّا ما دامت الأرض في مكانها من الكون فإنّ مسيرة البشريّة نحو الكمال ستتواصل والتّقدّم سيطرد ، وسيأتي زمن لن تشرق فيه الشّمس إلا على الأمم الحرّة وحدها – إذ لن يكون هناك غيرها – الأمم التي لا تعترف بسيّد آخر غير عقلها ، ولا يجد الطّغاة ولا العبيد ولا الكهنة واتباعهم الأغبياء المنافقون أيّ مكان لهم ، اللّهم إلّا على صفحات التّاريخ وخشبة المسرح”.

* المقاربة النّصّيّة :

يعرض الكاتب التناقض أو الطباق في عنوانه: ابن خلدون وكوندورسيه..أو التّراجع و”التّقدّم”، تناقض في الأفكار بين ابن خلدون الّذي يفلسف التّاريخ بالتّراجع والانقباض ، وكوندورسيه يفلسف التّاريخ من خلال التّقدّم والكمال . لذا يطرح الإشكاليّة التاليّة : ما الفرق بين فلسفة التّاريخ عندنا نحن العرب ، وبين فلسفة التّاريخ عند الغرب؟
بدأ النص بـ”كان” وتبعتها “أمّا” في الجملة الثّانية لتُعارض الجملة الأولى وتتناقض معها ، في التفريق بين فلسفة التّاريخ عندنا نحن العرب وعند الغرب ، واستخدم”ولمّا” و “من هنا” ليفسّر فلسفة التّاريخ الخلدونيّة ، ثمّ “وهكذا” ليكمل تفسيره عن سبب فلسفة ابن خلدون لتاريخه ،أي الفلسفة التّراجعيّة ، بعدها استعمل”وهكذا” و”وكأنّما” ليكمل تفسيره الأسباب التي أدّت إلى هذه الفلسفة . “أمّا” لننتقل من فكرة إلى أخرى متناقضة معها ، فينتقل من شرح التّراجع في فلسفة ابن خلدون إلى فلسفة التّقدّم المتمثّلة بأحد الفلاسفة الغربيّين وهو كوندورسيه . و”بما”و”أمّا” لشرح فلسفة التّقدّم عند الأوروبيّين . وكلّ هذه الرّوابط كانت في خدمة النّصّ التّفسيريّ المقارِن .
نجد هناك استشهاد بقول أحد فلاسفة أوروبا “كوندورسيه” الذي يفلسف التّاريخ بشكل متفائل ما يدفع الشّعوب نحو التّقدّم والكمال والتّحرّر، ويشرح قوله مؤكّدًا على أهميّة فلسفة التّاريخ في التّأثير على حياتنا ، ما جعلنا نحن العرب في ناحية والغرب في ناحية أخرى .
كما نجد طباقًا واضحًا في الكلمات ، وهو نتيجة التّناقض في الفلسفة بين العرب والغرب : “الأمم الحرّة” و”العبيد” ، “الماضي” و”الحاضر” ، “العرب” و”الغرب” ، “التّراجع” و”التّقدّم”، “الخمول “و “الثّورة”… ، هذا الطّباق خدم النّصّ في المقارنة بين الفلسفتين :التّراجع والتّقدّم . كما نجد هناك تكرارًأ للكلمات المفتاح :التّراجع والتّقدّم ، أو ما يترادف معها للتّأكيد على الفكرتين اللّتين تشكّلان محور النّصّ .

نخلص إلى القول ، من خلال ما تقدّم ، حاول الكاتب أن يضيء على مواطن الضّعف فينا نحن العرب ، ومواطن القوّة في الغرب للاستفادة من فكرة “فلسفة التّاريخ التّقدّميّة “، كما يطبّق الغرب وليس “فلسفة التّاريخ التّراجعيّة” كما يطبّق العرب ، ومن خلال الإضاءة على المشكلة ونقدها – من وجهة نظر الجابريّ – نكون قد بدأنا بأول الطّريق ، طريق النّهضة والتّقدّم . ومن المهمّ أن يُعنى المرء بقضايا أساسيّة ومشكلات تواجه شعبه ، ما يؤكّد انتماءه لوطنه . فهل سيعمل العرب على النّهضة بعقلانيّة وجدّيّة ليمثر مستقبلًا واعدًا ؟

7- نبذة عن الكاتب :

محمّد عابد الجابريّ (1936م – 2010م) ، هو مفكّر وفيلسوف عربيّ من المغرب . حصل على دبلوم الدّراسات العليا في الفلسفة عام 1967م ، ثمّ دكتوراه الدّولة في الفلسفة عام 1970م ، من كلّيّة الآداب بالرّباط . كان عضوًا في مجلس أمناء المؤسّسة العربيّة للدّيموقراطيّة .
له مؤلّفات عدّة منها :
– نحن والتّراث : قراءات في تراثنا الفلسفيّ (1980م)
– تكوين العقل العربيّ (نقد العقل العربيّ 1) (1982م)
– بنية العقل العربيّ (نقد العقل العربيّ 2 ) (1986م)
– العقل السّياسيّ العربيّ (نقد العقل العربيّ 3) (1990م)
– مدخل إلى القرآن في ثلاثة مجلّدات .
– أضواء على مشكلة التّعليم بالمغرب (1973م)
– التّراث والحداثة : دراسات ومناقشات (1991م)
– الدّين والدّولة وتطبيق الشّريعة (1996م)
وغيرها الكثير من المؤلّفات القيّمة . كما حاز على جوائز عدّة منها :
– جائزة بغداد للثّقافة العربيّة اليونسكو (1988م)
– جائزة الرّوّاد . مؤسّسة الفكر العربيّ بيروت (2005م)
– جائزة ابن رشد للفكر الحرّ (2008م) وغيرها .
واعتذر عن جوائز منها :
– جائزة المغرب (اعتذر عنها مرارًا )
– جائزة العقيد القذّافيّ لحقوق الإنسان (2002م) وقيمتها 32 ألف دولار .
– جائزة الشّارقة الّتي تمنحها اليونسكو (2001م)…