الأحد , فبراير 23 2025
الرئيسية / جامعيون ومواهب / نص لا نهاية له…وآخر أموات الحروب والأمراض!

نص لا نهاية له…وآخر أموات الحروب والأمراض!

بقلم أحمد يحيى

نص لا نِهاية له..

يستحضرني في هذا الوقت تحديدًا كابوس القرن الـ20.. الكابوس الذي فتكَ بالبشر من دون رحمة، وتسبب بوفاة نحو الـ300 مليون شخصٍ تقريبًا؛ واستطاع العلم في أواخر السبعينيات وبِمساعدة منظمة الصحة العالمية والأُمم المُتحدة القضاء على مرض الجدري في معظم أنحاء العالم.

تحديدا في هذا الوقت بعد اجتماعٍ استثنائي عقدته الأمم المُتحدة في 21 من سمبتمر الجاري، قالوا انَّ مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية هي أكبر خطر عالمي يهدد الجنس البشري حاليًا و يُعتقد أنها تتسبب في مقتل أكثر من 700,000 شخص سنويًا!

وبحسبَ المصدر، ناقش الاجتماع أسئلةً عديدة من بينها: كيف سنتمكن من علاج أمراض خطيرة تُصبح غير قابلة للعلاج؟ وكيف سنتمكن من كبح جماح المقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية؟!

والحقيقة أنَّ لا أحد _إلى الآن_ يعرف كيف ستؤول الأمور ولصالح من.. الطب، أم الميكروبات..!

بالعودة إلى موضوع الجدري، فإنَّ هذا المرض تلته أمراضٌ كثيرة.. وسبقته أمراض أكثر، ولم يستطيع الطبّ السيطرة عليها كُلّيًا.. ولم يستطع ابعاد براثن الأمراض عن أعناق البشر بشكلٍ نهائي، والحقيقة أنني أؤمنُ جدًا أن يومًا ما سيأتي وينتصر فيهِ العقل البشري على أمراضٍ كانت مُستعصية.. مرضًا بعدَ مرض.. وداءٌ بعدَ داء، دون أن تنتهي تِلك المعارك.

على أيِّة حال.. وإذا ما نظرنا إلى الوضع الحالي، نعرف أنَّ الخير بنا وأننا لسنا بحاجةٍ لأمراض لنفقد هذا الكمَّ الهائل من البشر، فما زلنا حتى الآن نفتكُ ببعضنا البعض بشناعة ووحشية ودون رحمة، دين يُكفّر دينا، عقيدةٌ تَحذفُ عقيدة، مذاهب وطوائف تتصارع، أَيدولوجيات تتقاتل، وما زلنا لا نُريد أن نستوعب ونقتنع بأنَّ كل إنسان على هذا الكوكب، ولدَ هُنا وعاشَ بيننا، فريدٌ من نوعهِ ولن يتكرر، وأننا نحتاج لطاقاته الجسدية والفكرية، لم نستطع أن نقتنع أن هذا الكوكب بِطبيعته وغذاءه ومشربهِ وملبسهِ وفصوله، يَكفينا كُلَّنا بِوفرةٍ تامة، إذا ما ابتعدنا عن هذا الشجع المُخيف الذي يفتك بنا.. ونفتك من خلاله ببعضنا. نعم.. هُنالك متّسع للسارق والمسروق، للقاتلِ والمقتول، للظالم والمظلوم.. للمؤمن والمُلحد واللاديني والربوبي، حتى الذين لا يريدوا أن يعرفوا العقل بالعقل جعلَ الله لهم مكانًا بيننا!!. لربما ليحفزوا الآخرون على المعرفة.. لا يهم، فهذا الكلام وفي هذا الوقت أشبه بِالنقشِ على الماء.

بالعودة إلى موضوع الجدري مرةً أُخرى.. وعلى الرَغم من أنَّ مجال الأمراض لا يستهويني كثيرًا، ولكنّي فكّرتُ في يومٍ من الأيام أن أبحث عن آخر شخصٍ توفى بسبب هذا المرض!!، والحال أنني أعرف أنّه ما من جدوى من تِلك المعرفة أو نتيجةٍ تُذكر، لكنَّ الفضول وحده كافٍ لأبحث وأعرف من كان الضحية الأخيرة للجدري، إن كان هُنالك سجلاتٍ موثّقةٍ طبعًا..!

”جانيت باركر“ مُصورة فوتوغرافية وطبيبة انكليزية، نعم.. ”جانيت“ كانت آخرَ شخص مات بسبب الجدري، حيثُ التقطت الفَيروس عن طريق حادث وقع في مُختبر في كلّية الطب بِجامعة برمنغهام.
دخلت ”جانيت باركر“ المُستشفى وأظهر التشخيص إصابتها بمرض الجدريّ وتُوفيّت في 11سبتمبر من عام 1978 حيثُ أُصيبت بالمرض في هذا العام بتاريخ 24أغسطس.

كانت جانيت آخر من يُمسك بيده الجدري ويصطحبه معه.. كان قدرًا ما أو صدفةً جعلت من ”باركر“ العشاء الأخير لهذا المرض عندما كانت قوته تتداعى. والحقيقة أن شهرة ”باركر“ ومعرفتنا بها كانت تتوقف على موتها.. على حادثةٍ تاريخية لن تتكرر ربَّما.

واذا ما ابتعدنا عنِ الأمراض ونظرنا في تاريخ الحروب نجدُ أنَّ الجُنديِّ ”هنري جونتر“، التابع للقوات الاستطلاعية الأمريكية كان آخرَ من قُتِل في الحربِ العالميةِ الأولى، الحرب التي بدأت في عام ”1914“، وانتهت عامَ ”1918“ بِوفاة أكثر من 37 مليون شخص.

وقّعت هدنة الحرب هذه في الحادي عشر من شهرِ نوفمبر عام ”1918“ وفي الساعة 11:00 صباحًا. وكانت تِلك الساعة.. الساعة التي شهدت نهاية حربٍ دامية.. نِهاية حربٍ لم ينتصر ولم يُهزم بها أحد.. نهاية حربٍ كان الخاسر الأكبر بها هوَ الشعب، نهايةَ حربٍ كان يَعرفُ قادتها أنهم سيموتون وأنّ قادة آخرون سَيأتون ويعلنون الحرب فوق عظامهم ورفاتهم.. ومع ذلك لم تنفع كل تِلك الذكريات.. لم تنفع العِبر ولا الدّماء ولا الحطام، ونحنُ بِدورنا نعرف أننا نسير في طريقٍ سنعترف به يومًا ما.. أنّه لا وجود لحروبٍ وقعت في الماضي تفوق حروبنا.. لا حقد وقعَ في الماضي يفوق حقدنا على بعضنا وثأرنا وهمجيتنا ورعونتنا.. لا حرب سَتعلّمنا بأن نتفقَ يومًا.

قُتل ”جونتر“ في تمام الساعة ”10:59“ على يد جندي ألماني عندما واجهت كتيبة ”جونتر“ هذا الحاجز الألماني الذي كان يقف عليه الجُنديّ. لقد اعتقدَ ”جونتر“ أن الألمان كانوا يريدون قَتله.. والحال أن الألمان كانت لديهم معلومات عن الهدنة التي تمّت وحاولوا تنبيه جونتر بطلقات تحذيرية كي لا يقترب.. ما اضطرهم إلى أن يقتلوه عندما رفض التحذير وتابع تقدمه.

والحال أننا إذا ما بحثنا عن أحداثٍ تاريخية كَتلك الأحداث سنجد الكثير ولن يكفينا من الزمن القليل، وإذا بحثنا عن نقاط التقاء وتقارب سنجد الكثير، لا سيّما أنَّ الفارق بين الحدثين الذين ذكرناهما آنفًا هوَ مسبب الموت وطريقته.. وإن اختلفت الأسباب يبقى الموت واحد.
هكذا التاريخ.. يُعيد نفسه بِنفسه دون تبريرات، ودون أن ينتظر منّا أن نتعلم ونتّعظ.. يُعيد الحروب والإبداع والأحداث، يُعيد لحظاتِ الفرح والبكاء والإنتصارات.. يُعيد الجمال والقبح والرعب.. وماذا بعدَ كلّ تِلك الأحداث!!.. لا شيء..!!.
صمتا دامٍ.. وغبارًا يلوك أمجادًا وهزائم.. يزحف الزمن اتّجاهنا ونهرب منه إلى الخلف.. ننتظر قَدرًا ما يُعيد تكوين حضارتنا.. ويزحف الزمن نحونا وخبز الإنسانية يزداد عفونةً يومًا بعد يوم. ومن بين كلّ هذا، وحدها الصدفة من لا تَرفع الرايةُ البيضاء.. إنّ هذه الأخيرة لا تفتأ أن تخلق أحداثًا تكون نقطة تمحّور في تاريخنا الكونيّ. فالصدفة التي جعلت من اينشتاين عالِمًا أحدثَ ضربةً عميقةً في تاريخ العلم.. هي ذاتها التي جعلت من هِتلر مجرمَ حربْ، والصدفة التي جعلت من بيكاسو رسامًا هي ذاتها التي جعلت من ستالين رجلاً يمتلئ بالقبح والإجرام.. إنَّ الكون الذي حملَ أباطرة وسفّاحين هو ذاته الذي حملَ رسّامين وكُتّاب وعلماء.. والرحم الذي وضع نيتشه وسبينوزا وسقراط لا يختلف عن الرحم الذي حملَ مُلوكًا ظالمين وفقهاء ورجالاً أفتوا بالقتل والتعنيف وكانوا روادًا لعصور الظلام والجهل. وفي لحظةٍ ما مُحددة.. وفي الوقت الذي باع أحدهم عقله.. كان هُنالك شخصًا آخر يعمل على تهذيبه وتطويره في عزلته.

والسبب من كلِّ هذا.. لا نعرف تحديدً!!.. ولكن سيقول أحدكم؛ لولا المُعاناة لاندثر نصف الأدب، لولا القبح لما كان هُنالك جمالاً.. لولا الصراخ لما استطعنا أن نُميّز صوت الموسيقى ونعشقها.. لولا الأساطير والدّماء والحروب لما عرفنا لون الجمال. نعم.. إنَّ أقصى درجات الفرح لا تُعرف إلّا من خلال الألم.. وإن أقصى درجات الإبداع لم تُعرف إلّا من خلال المُعاناة.. وفي نفس الوقت كان الإجرام أيضًا وليد المعاناة..
فَ ”فان كوخ“ الذي حوّل معاناته لِلَوحات أبهرت نصف سكّان العالم.. وكافكا الذي حوّلَ آلامه إلى واحدة من أجمل النصوص التي كُتبت في تاريخ الأدب.. قد وُلِدوا بجانب أناس ارتكبوا من خِلال معاناتهم وأمراضهم جرائمًا مُتسلسلة..

آخيرًا وليسَ آخرًا ولا يسعني في هذا السّياق إلا أن أتبنى ما قاله ألبير كامو يومًا وصدق به: ”لسنا ننشدُ عالمًا لا يُقتَل فيه أحد، بل عالمًا لا يمكنُ فيهِ تبرير القتل“.

وبعد زفرةٍ شديدة جدًا تبقى كلمة: لن ننتهي!!..
وهذا المقال بِدوره لا نهاية له على الإطلاق، سيأتي أحدهم يكونُ مُهتمًا بالأحداث السياسية بعد عشر سنين ربما لِيُكمله ويكتب عن آخر شخص قُتل في الحرب التي تدور في ”سورية“، وسَيأتي شخصًا يهتمّ بالطب ويكتب عن آخر شخص توفيَّ بسبب مرضِ السرطان.. ويأتي بعده من يهتمُّ بالفن ويكتب عن آخر لوحة قد رُسمت في حقبةٍ فنيةٍ ما وهكذا دَواليك. والحقيقة.. أنَّ ضربًا من الغيرة والفضول يمتدان بي إلى أن أعرف آخر كِتابٍ كُتب وآخر شخصٍ قُتِل وآخر لوحةٍ رُسمِت وآخر قطرة دمٍ وماء امتزجتا ببعضهما في تاريخنا الكونيُّ هذا..

هُنا يكمن أحد عناصر الجمال.. في الصدفة واللانهاية، وأمّا أنا فقد لا أكون شيئًا في كينونتي تِلك، ولربما نكون أنا أو أنت أو هوَ أحدَ آخر أولئك الأشخاص الذين أحدثوا أثرًا في عالمنا هذا.. مِمَن قَتَلوا وقُتِلوا، وظَلموا وظُلِموا.. وأحدثو شرخًا وأصابوا، وكتبوا أو جعلوا هُنالك شيئًا جميلاً يستحق الحياة، ورُسِموا ورَسموا. على كلِّ حال لستُ مُتأكدًا من الكلمة الأخيرة.. وأحدكم ليس مُتأكدًا من كلمة أُخرى وبذلك نحذفُ احتمالاتٍ تاريخية وننتظر بِلهفةٍ من يُكمل هذا المقال..

وَ تُنسى..!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.