السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / جامعيون ومواهب / بلال بائع الطوابع الحكومية…بطابع الأحذية

بلال بائع الطوابع الحكومية…بطابع الأحذية

_1

(بلال بائع الطوابع الحكومية.. بِطابع الأحذية)

بقلم الجامعي أحمد يحيى

ما تقرأهُ الآن، ليس مقالاً ولا قِصة قصيرة، ولا حتى ضمن أيّ إطارٍ أدبيّ مُعين، فَهو عبارةٌ عن هواجس لاحقت بِلال منذ صِغره…بأن يكون سياسيًا مُخضرمًا.

والحقيقة أنَّ ملامح السياسة كانت ظاهرةً بشكلٍ جليّ عليه منذُ صِغره، فَكان يتلاعب بإقرانه كيفما شاء، ومِثلما أراد.
نعم، حِنكته قد رافقته منذُ الطفولة، وموهبته في أن يكون سياسيًا ماهرًا قد أينعت منذ عمر العشرِ سنوات.

لَطالما كان هاجس السهر في الليل يُباغته طيلة مكوثهِ في السرير وبعدَ أن تصدر الأوامر العُليا بِضرورة النوم، فلا يجدُ حلاً أمامه سوى الجلوس لساعاتٍ عديدة في غُرفته، يعبثُ تارةً، يُغني، يتخيّل ويكتب تارةً أُخرى. وأيُّ طفلٍ هذا _المُمتلئ بِطاقةٍ لا تنتهي_ الذي يرغبُ في النوم باكرًا.

ولا يُخفيكم أمرًا أنّه فكّر كثيرًا بأن يخدع والده، أن يُشتت أفكاره بشيءٍ ما، لِيستطيع السهر أطول فترةٍ مُمكنة.

جرّبَ كثيرًا، أمّا عن الخُدعة التي أفادتهُ بشكلٍ ملحوظ هو استدرار عاطفة جده، من خلال قراءته للنصوص التي يكتبها، واللوحات الساذجة التي كانَ يرسمها، وبتلك الطريقة، قد عقدَ صفقةً ضمنية مع الفن، فَهوَ يعبث به بطريقةٍ طفولية، وبنفس الوقت يُخدّر جدّهُ العاشق له وللفن فَيُطيل وقت سهره أكثر.

وفي مرةٍ من المرات، قد ضاق ذَرعًا بضيق الوقت، بالنصف ساعةٍ أو الساعة التي كانت تُمدد له بأقصى الحالات.

” في مُعظم الحالات الحُرية ليست قدرتك أن تحصل على أشياء بعيدةً عنك و لا تمتلكها، الحُرية لا يمكنك التصرف بها إلا إذا عرفت كيف تتصرف بالأشياء التي تمتلكها لتخدم من خلالها حُريّتك الشخصية ومُبتغاك“

“وهذا هوَ كان شعار الطفل بلال الذي يُريد إطالة استيقاظه، فَبات يكره النوم، باتَ يعرف أنَّ النوم من المُمكن أن يكون الوجه الآخر للموت، وبات يعرف أنّه كل ما كبر الإنسان وزادت مسؤولياته أحب النوم أكثر، فلماذا ينامُ الطِفل باكرًا، وبالفعل المُعاناة والنوم علاقةٌ طردية بامتياز”.

فكّرَ في حيلةٍ أكثر انتاجًا للوقت، وبعد ساعاتٍ عدّة في المدرسة وهوَ يُفكّر بالأمر مُتجاهلاً الدروس والمُعلّمات، خطرت بِباله خُدعةً جديدة.

عند الانتهاء من المدرسة، جلبَ إلى البيت في طريق العودة معه ورقة نخيل صغيرة جدًا، حيث كانت تتألف من عدة أوراق تَأخذُ كل واحدةً منها شكل قلم رصاص صغير مُتعلق بنهايته بِعامودٍ فقريّ كأنه عامود حرباء صحراوية.

في ذات اليوم جاء المساء، وقال له والده : إلى النوم.

فَردَّ عليه، أمام جده، بطريقةٍ بريئة جدًا وهوَ يحمل أوراق النخيل الصغيرة بيده: أُريد أن أرسم كل الأشكال المُتاحة لِتلك الأوراق بشكلٍ عبثيّ، على ورقة الرسم الخاص بي.
وبينما كان يقول له ذلك، انتزعَ الأوراق عن عامودها الفقري، وفرشها على الورق.

_2

بطريقته الطفولية التي تحدثَ بها، وبانشغاله، لم يدرِ والده أن تلك العملية قد تحتاجُ سنينًا، من الأشكال المُختلفة التي من المُمكن أن يرسمها.
أوه!، كيف للبراءة والتظاهر بها أن يفعلا كُلَّ هذا!، ولا أُخفيكم أمرًا أن ضروب البراءةِ تِلك كانت شيطنةٌ طفولية، وضروب الشفقة تِلك، كانتْ سذاجة طفولية، وهنا يصير الأبُ ابنًا، والإبن أبًا، ولكن كيفَ يصير الشعب حكومةً!!!.

بعد ساعة ونصف، انتبه، تيّقظ للخديعة، وقال له بطريقةً ضاحكة، وأقرب للسخرية: خدعتني يا بلال!!.

بهذا الشكل، صارت السياسة تليها الفن أدواته الأولى في الدفاع عن نفسه، في التعبير عن ما يجري، وبِأن يقصَّ حِكاياته بِكامل الأريحية.
هكذا عرفَ وأدركَ أن الفنَ مُنقذٌ للشعوب، كما كان مُنقذًا له، وعرف أن الطبيعة تُلهم الفنانين كما ألهمت هذا الطفل.

إذن، من خلال الورقة تِلك, ومُخيلّة الطفل في بلال وقدرته على الدهشة وعدم فقدان جوهر الأشياء عند الأطفال نعرف كم أن الطبيعة هائلة، ورائعة،وبها من الصور والدلالات ما يجعلنا نُبدع ونستلهم ونكتب ونقص ونُؤلف ونألف، ومن خلال ورقة النخيل تلك نعرف، كم أننا نحتاج الفن.

إن الفنّ بِكافة أنواعه لا يُمكن له أن يكون فقط الصورة التي نُشاهدها، حيث الفنان كالعابد المُتصوف الذي يُريد أن يجتاز مراتبًا عُليا تّجاه الخالق بالقراءة والتعبد والتأمل، وهكذا الفنان، يصل، كل ما استطاع أن يُصادق الطبيعة، أن يقرأها، وأن يُحيط حُبًا وروحانية بأصغر موادها، حتى ماهيتها كَكُل.

فَعندما ننظر إلى لوحة قديمة، نحن فعليًا ننظر إلى روحِ الفنان، إلى شعوره في لحظة الرسم، وإلى درجات ألوانه وكأنما كان نصًا بيانيًا يظهر أمامنا.
ننظر إلى الأحداث والمُعاناة التي مرَّ بها، وعاصرها واستطاع توظيفها وادهاشنا بها.
دائمًا ما كان بلال يتساءل!!، كيفَ لِلوحةٍ أن تُخبرنا عصرًا بأكمله.

وبالمثل، عندما نقرأ نصًا ونشاهدهُ، فإن ذاك النص أكثر من أن يكون كلامًا وحِبرًا على ورق، فالكاتب يضع هواجسه، ينقل صورًا خيالية كان يتمنَّ لو أنها تحققت، الكاتب يقرأنا قبل أن نقرأه، وإذا لم يفعل ذلك فإنّه يخوننا، لنخونه حتمًا.

أرَ أننا ابتعدنا كثيرًا عن الموضوع الأساسي، وبذلك فَقد نظلم بلال وهواجسه.

إذن، تفكير بلال في المدرسة بِخدعةٍ جديدة، لم يكن كسلًا وعدم انتباه، بل كان تفكيرًا يستخدم به السياسة والفن ليصلَ لِمَ يُريد، وبذلك فِإنه قد يكون يُرضي جدّه، ويكسب عدم غضب والده منه بطريقةٍ ذكية.

وبِذات الوقت، قد نبّهنا بِلال بطريقته الطفولية، كم أنَّ في الطبيعة أشكالاً وصُورًا نستطيع من خِلالها أن نخدم الفن.

والحال أنَّ ذاك الطفل الشقيّ قد صارَ شابًا يافعًا، ولم يدخل في مجال السياسة، بل دخل الفن من أوسع أبوابه، وفي نفسِ والوقت لم يترك السياسة.

ومنذُ صِغره، وعندما كان يحتاجُ شيئًا ما من أبيه، لا يطلبه منه، فَحين يُريد حِذاءً جديدًا، فإنه يرسم على الورقة حِذاءً مُتّسخًا ومُهترئًا وبذلك كان يعرف والده بإنه بحاجة لذاك الشيء، فذاك الخجل الذي يتّسمُ به منعه من أن يكون سياسيًا. حسنًا ، لم يكن وقحًا بما يكفي!!.

والآن وبعد عشر سنين كان ذاك الحذاء سببًا في دخوله السجن، وقد لا نستغرب الأمر كثيرًا، فعندما كان يرَ الذل والمهانة التي يعيشها الشعب، والتي يرضى بها، وعندما رأى الفساد الثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي.
وبما أنّه لم يدخل المُعترك السياسي، فَقد رسم فردتي حِذاء مُتسختين ومهترئتين، وكتب بخطِ صغير على كل فردة، الشعب والحكومة، وبجانبه قلم يفتح ثغره ويلوك حِذاء الحكومة، والشعب كان مبهورًا بذلك.

في النهاية، بيّن لنا بلال كيف نُدرك وظيفة الفن، بِأن نعرف أولاً ما هوَ الإنسان، وأن نعرف ما هيَ مشاكله، وكيفية الوصول لِحلول، والأهم من ذلك فِأنه قد بيّن لنا النتائج المُترتبة والمتولدة على استخدام تلك الحلول، وتحليل ومعرفة الأنا.

وقد عرّفنا من خلال هواجسه وتفكيره في المدرسة، أنّه حين يدخل العقل المحض في الأعمال الفنية والتفكير، لانتاج عمل فني مُدهش بحق، ذاك لا يُفيد، فالفن الحق ينبع من المُخيلة.
وأنَّ كلَّ عملٍ فني يتخلله عمل سياسي ورسالةً سياسية، وتتوقف قوة وحنكة تلك الرسالة على قوة المُخيلة والعمل الفني.

آهٍ، كم نحن ذاك الطفل، وكم ذاك الطفل يُعاني.

بلال الآن بائع طوابع أمام مؤسسة حكومية، ويرسم في أوقات فراغه رسوماته، ومن بينها، كُرسي ويعتليه أطيافٌ وهمية وخرابٍ مُنمّق ، وجماهير مُلتفة تُصفق حوله بِقوة، وأحيانًا خوّذًا ممتلئة بالفراغ، وقد قررَ أن يدخل السياسة، بشرط أن يصير لِلحذاء المُهترئ طابعًا في بلده، وهذا ما لن يحصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.