بقلم الأستاذة فاطمة حسين حمادي
تعد اللغة العربية واحدة من أقدم وأغنى اللغات في العالم، إذ تحمل بين حروفها أكثر من أربعة آلاف عام من التاريخ والثقافة. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل إنها تمثل هوية الشعوب التي نطقتها، وعكست تطور الحضارات التي نشأت في كنفها. من آثار اللغة في اليمن القديم إلى ظهور الخط العربي الفصيح في العصر الإسلامي، ترافق هذا التطور مع تمركز الضاد كأيقونة مميزة لهذه اللغة. “الضاد” ليس مجرد حرف بل هو رمز يفصل اللغة العربية عن غيرها من اللغات السامية والعالمية. هذا الحرف الفريد في نطقه يُعتبر علامة فارقة في فصاحة اللغة وأصالتها، ويعتبر جوهرها الثقافي الذي يميزها عبر العصور.
تمثل اللغة العربية رحلة طويلة ومعقدة، تبدأ من جذورها القديمة في شبه الجزيرة العربية وتستمر حتى يومنا هذا، لتظل واحدة من أكثر اللغات تأثيرًا في العالم. سُجلت العربية في التاريخ كأحد أبرز اللغات التي شكلت الهوية الثقافية، الأدبية، والعلمية في مختلف العصور. تبحر هذه الرحلة كجزء من العائلة السامية* للغات، التي تضم أيضًا العبرية، والأمهرية، والآرامية. ويميل الكثير من العلماء إلى الإشارة إلى أن اللغة العربية كانت تتطور من لهجات سامية قديمة كانت تُستخدم في منطقة شبه الجزيرة العربية – حيث بدأت الكتابة باللغة العربية في القرن الرابع الميلادي (1) تقريبًا، حيث توجد أدلة على استخدام الأبجدية العربية في النقوش والكتابات القديمة – والتي ظهرت بوضوح ابتداء من القرن الخامس الميلادي كإحدى اللهجات السائدة في المناطق العربية حينها.
والأبجدية العربية تُشتقّ من الأبجدية الشمالية الغربية (مثل النبطية والآرامية). كانت النبطية أحد أشكال الكتابة التي استخدمها العرب في القرن الثاني الميلادي في مناطق مثل الجزيرة العربية وشبه الجزيرة السورية، وتشتقّ كذلك من الآرامية التي أدت دورًا كبيرًا في تطوير الأبجدية العربية، حيث أن العرب في تلك الفترة تأثروا بالكتابة الآرامية، خاصة في النصف الثاني من الألفية الأولى ميلاديًا. وكان الخط المسند (2) هو الأقدم في كتابة اللغة العربية في الجنوب العربي، وكان يُستخدم في مناطق اليمن والحجاز. ومع مرور الزمن، بدأ الخط العربي في التحول والتطور إلى خطوط أكثر دقة ووضوحًا. في القرن السابع الميلادي، بدأ الخط العربي الذي نعرفه اليوم في التبلور بشكل واضح، خاصة مع انتشار الإسلام والإهتمام بكتابة القرآن الكريم. وفي العصرين الأموي (661-750م) والعباسي (750-1258م)، بدأ العرب في تطوير أنواع جديدة من الخطوط، مثل الخط الكوفي والخط المدني، مما ساعد في توحيد الكتابة باللغة العربية. وفي القرون اللاحقة، تطور الخط العربي بشكل مستمر، وظهرت خطوط جديدة مثل الخط الفارسي والخط الديواني والخط النسخي في العصور الإسلامية المتأخرة.
وفي علم اللغات، حيث تتشكل الكلمات من أصوات متناسقة – ومتتالية، تقف اللغة العربية متفردة بلقب غريب ومميز: “لغة الضاد”. يُعد حرف “الضاد” من بين الخصائص الصوتية الفريدة التي تميز العربية عن غيرها من اللغات، حيث لا يوجد هذا الصوت في معظم اللغات العالمية. هذا اللقب ينبع من تفرد حرف “الضاد” الذي يعد أحد أكثر الحروف تعقيدًا في النطق وأقلها انتشارًا بين اللغات الأخرى، ما جعل اللغة العربية تتميز به عن غيرها. تاريخيًا، أدرك العرب منذ القدم، وتحديدًا في فترة الجاهلية، أن “الضاد” يمثل علامة فارقة في لغتهم، حتى أنهم اعتبروه رمزًا للفصاحة والإبداع اللغوي، واستمر هذا الفهم خلال العصور الإسلامية مع انتشار اللغة العربية كلغة للقرآن الكريم والتشريعات الدينية.
“الضاد” كان ولا يزال يُعتبر اختبارًا للفصاحة، إذ أشار العديد من علماء اللّغة إلى أن قدرة الشخص على نطق هذا الحرف بشكل صحيح تُعد معيارًا لاتقانه للعربية الفصحى.لا تجد “الضاد” بسهولة في لغات العالم الأخرى، فكيف لحرف واحد أن يصبح رمزًا لهوية بأكملها؟ هذا اللقب يعكس مدى ارتباط المتكلمين بالعربية بلغتهم وتفردها، ويمثل جزءًا من الهوية الثقافية واللغوية لهم.
إذا أردنا أن نتعمق في سبب تسمية اللغة العربية بلغة الضاد، علينا أن نبدأ بفهم الخصائص الصوتية لهذا الحرف، فصوت “الضاد” يتطلب وضعية خاصة للسان داخل الفم، مما يجعله معقدًا للكثير من الناطقين بغير العربية.
في علم النطق**، يُعد حرف “الضاد” من الأصوات التي تندرج تحت فئة الأصوات الإنفجارية المجهورة***، مجهور أي أن الأحبال الصوتية تهتز أثناء نطقه، مما يميز الصوت المجهور عن الصوت المهموس، مثل التاء. وإنفجاري أي أنه يُنطق بضغط الهواء خلف إلتقاء اللسان مع اللثة ثم تحريره فجأة، وهذا ما يجعل الصوت مميزًا ويعطيه القوة في النطق، ولثوي جانبي أي أن الهواء يمر عبر جانبي اللسان عند النطق، مما يضفي على الصوت طابعًا خاصًا. الضاد هو أحد الأصوات المزدوجة الشدة في العربية، حيث يتطلب نطقه ضغطًا كبيرًا على اللسان لخلق الانسداد المناسب ومن ثم تحريره. إنه حرف يتميز عن غيره من الحروف العربية بكونه فريدًا من نوعه، إذ لا يوجد صوت مشابه له في معظم اللغات الأخرى. في بعض الأحيان يتم الخلط بين الضاد والظاء، لكن هناك فرقًا كبيرًا في النطق. الظاء هو صوت إحتكاكي وليس إنفجاريًا، مما يعني أن الهواء يتسرب تدريجيًا بين اللسان والأسنان في الظاء، بينما ينحبس الهواء تمامًا في الضاد قبل إطلاقه فجأة.
كان حرف الضاد أكثر وضوحًا وتحديدًا في العربية القديمة، خاصة في الفترة الجاهلية والإسلامية المبكرة. ومع مرور الزمن، حدثت بعض التغيرات في نطقه، خاصة في اللهجات العربية الحديثة. في بعض اللهجات، تحول نطق الضاد إلى صوت مشابه للدال أو الظاء، وهو ما يعكس تحديات المحافظة على النطق الفصيح لهذا الحرف.
يمثل الشعر الجاهلي اللغة العربية في أرقى صورها وأجملها. فالشعراء الجاهليون كانوا بارعين في استخدام مفردات اللغة بشكل مبدع ودقيق، مما جعله مرجعية لغوية فريدة. حافظ الشعر الجاهلي على الفصاحة والبيان والجمال، وهذا ما جعله يحتفظ بمناعته في اللغة العربية الفصحى حتى اليوم. كانت اللغة الجاهلية نقية وغير محوّرة، بحيث كان الشاعر يستطيع التعبير عن نفسه بأسلوب أنيق، ويستخدم الأساليب البلاغية مثل الاستعارة والجناس والتشبيه والمجاز بكفاءة عالية. هذا الإحتفاظ بالفصاحة والبلاغة جعل الشعر الجاهلي يشكل معالم اللغة العربية الفصحى التي استمرت في الشعر العربي الحديث. وتباهى الشعراء والخطباء باستخدام العربية كوسيلة للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، وتباهيهم بفصاحتهم وقدرتهم على السيطرة على قواعد اللغة ونطق أصعب حروفها، بما في ذلك “الضاد”. ويمكننا هنا أن نستعرض أصعب ما نظم الشعراء نطقا ومعنى:
أَلَمٌ أَلَمَّ أَلَمْ أُلِمَّ بِدَائِهِ إِنْ ٱنَ آنٌ آنَ آنُ أَوَانِهِ (3)
عِشِ ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُرِ انْهَ اثرُ فُهْ تُسَلْ غِظِ ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِ لِ اثنِ نَلْ (4)
ويبرز بدء تأثير العربية على التراث والحضارة في القرن الثامن الميلادي حين أسس أسس الفراهيدي (5) بحور الشعر وقام بتطوير علم العروض من خلال دراسته الدقيقة للإيقاع الشعري واكتشافه الأنماط المنتظمة التي تتكرر في الأبيات الشعرية. من خلال عمله هذا، قام بتقسيم الشعر العربي إلى 16 بحرًا شعريًا بناءً على تفاعيل وصيغ إيقاعية محددة. بحور الشعر تعتمد على ما يسمى بالتفعيلات، التي هي وحدات صوتية تتكون من حروف تُنطق في ترتيب معين وفقًا لقواعد العروض. والتفعيلة هي وحدة صوتية تتضمن مجموعة من الحروف المتتابعة التي تشكل وزنًا محددًا. وهنا، فإنّ بحور الشعر العربي تعتمد على التركيب الصوتي للكلمات في أوزان تتماشى مع إيقاع معين، وبالتالي فإن توزيع الحروف في الكلمات يحدد سير الإيقاع وتناغم الأصوات.
وفي الخلاصة المتواضعة، نصدق القول أن تاريخ العربية مليء بالتفرد والابتكار، حيث امتزجت اللغة مع الشعر و الأدب لتشكل جزءًا من التراث العميق. تبقى الفصاحة و البلاغة، التي تعتبر مقاييس لنجاح نطق الحروف العربية، أهم مظاهر تميز اللغة في شعرها، ويمثل الضاد رمزًا لهذه التميز. كما أن العلاقة بين أحرف اللغة العربية والوزن الشعري جعلت اللغة تتسم بموسيقى لا تضاهى، آلاتها القلم واللسان والحلق وأوتار صوتية. أما اليوم، الآن، فقد أضحى الكثيرون يخطئون بإملاء العربية ويعرّبون معظم ما يستطيعون من المعاجم الأجنبية جهلا منهم باللغة الأم.
(1) نقوش حمير تعرف كأقدم النقوش العربية المعروفة تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وقد وجدت في جنوب الجزيرة العربية أي اليمن، حيث كانت تستخدم الأبجدية العربية القديمة، والتي كانت تعتبر شكلًا ابتدائيًا للكتابة بالعربية، ونقوش المديّن التي عُثر عليها وتعود إلى القرن الرابع الميلادي، وتحتوي على كتابات بلغة عربية قديمة.
(2) كان الخط المسند يُكتب غالبًا بشكل عمودي على الصخور أو الجدران ويتكون من حروف يتراوح عددها بين 29 إلى 32 حرفًا، وتعتمد الكتابة فيه على الخطوط المستقيمة والمنحنيات البسيطة وكانت النقوش تبدأ من الأعلى إلى الأسفل وكان يُستخدم في كتابة الكلمات من خلال الحروف الصامتة، ولم يكن يحتوي على حروف للتمثيل الصوتي للحركات (الفتحة، الضمة، الكسرة). ومع مرور الوقت، بدأ التوثيق الصوتي لبعض الحركات في بعض النقوش.
(3) ما معناه: لقد أحاط بي ألم لم أعرفه من قبل إن جاء وقت شفائه من الله فقد آن ذلك له. وهو بيت شعري منسوب للمتنبي دون أدلة وافية
(4) بيت شعري للمتنبي ويتضمن 24 فعل أمر
(5) أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (100 هـ170 هـ – 718م 786م) عربي من الأزد ولد في عُمان وتوفي في البصرة. مؤسس علم العروض وواضع أول معجم للعربية وأسماه العين.
*Semitic: belonging to the Afroasiatic language group. This family includes languages spoken in parts of the Middle East, North Africa, and the Horn of Africa. The Semitic languages are characterized by their use of trilateral roots (three consonants forming the base of a word) and include some of the world’s oldest written languages
**Phonetics
*** Voiced plosive sounds