السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / الأدب المنتفض / الهوية وبائعة الفجل لتميم البرغوثي (مقاربة سيميائية)

الهوية وبائعة الفجل لتميم البرغوثي (مقاربة سيميائية)

الهوية وبائعة الفجل لتميم البرغوثي

مقاربة سيميائية

أ.د.أيمن أحمد رؤوف القادري

مع تميم | الهوية وبائعة الفجل – YouTube

نحن إزاء مرئيةٍ (فيديو) من سبع دقائق تقريبًا، منشورة في قناة تميم البرغوثي “مع تميم” عبر يوتيوب، في 18/4/2022م. والبرغوثي يظهر في المرئية يخاطبنا مباشرة أحيانًا، ويظهر منه صوته فقط مع رسوم معبرة أحيانًا أخرى: المقهى والناس والأقنعة- القهوة المنسكبة- قناطر الأندلس- الشمس والقمر…

والعنوان الذي يتضمن كلمة “الهوية” فرض نفسه على كلّ المرئية، فـهي تناقش بأسلوب شعبي هادئٍ مستمدّ من شوارع القاهرة، مفهومَ الهوية المعقّد المرتبط بالدين واللغة والعرق والبيئة المكانية والوسط الاجتماعي، وإن كانت النتيجة أن البرغوثي اتخذ مفهومًا جديدًا يقوم على تجميع المظلومين في دائرة واحدة تشكّل هويتهم. ويبقى الشق الثاني من العنوان “بائعة الفجل” يطرح أسئلة ملحّة، حول مدى ارتباط الفجل بالهوية!

***

نبدأ بــــالمقهى الذين يكون عادة ملتقى الأشخاص المتقاربين في الرؤى، تجمعهم طاولة واحدة، يتسامرون أو يلعبون النرد، أو يحتسون القهوة، والقهوة بذاتها اكتشاف عربي، لكنه غزا أقطار الأرض، فكأنما أراد البرغوثي أن يجعل الهوية تلك المظلة التي يتلاقى تحتها أناس بينهم شجون مشتركة، وكأنه أراد أيضًا أن يخبرنا أنه يناقش شأن الهوية العربية بشكل خاص، مع معرفته أن هذه الهوية استطاعت كسر الحاجز القومي، وامتدت تأثيراتها إلى أقطار الأرض. وربما لذلك جعل الذين يجتمعون في المقهى ذوي أقنعة، ليقول إنّ كلّ من يجتمع معك على هدف ما، لا يلتفت إلى ما تكون عليه، بل إلى ما تريده وتسعى إلى تحقيقه معه.

وحين انسكبت القهوة نسأل: ما الدلالة؟

يعتقد المصريون أن القهوة المسكوبة هي علامة على السعادة والحظ السعيد، ولكن لا تسكبها عن قصد، لأن ذلك قد لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة مفيدة. وواضح هنا من خلال الصورة أنها سكبت عمدًا، فكان الأمر تعبيرًا عن الضرر، ولهذا تبعها طوفان عارم يشبه طوفان نوح الذي قضى على البشرية الضالة.

وسرعان ما امتلأت المشاهد برموز الممالك الماضية (البابلية والأشورية والقرطاجية والفرعونية…)، والرموز الدينية المتعددة (العمامة والقنسوة والصليب والهلال…)، والأسلاك الشائكة للدلالة علـى الحدود المصطنعة بين الدول في القرون الأخيرة، وتليها صور من المعالم التاريخية في القدس ودمشق والمغرب وغيرها، للإشارة إلى أن مفهوم الهوية الضيقة أسهم أحيانًا في الانقسام العربي. وتتخلل هذه الرموز دوائر لولبية توحي بالحيرة والشعور بالدوار، وذلك بسبب كثرة التفسيرات للهوية (قومية- لغوية- دينية- وطنية…)..

غير أنّ هذا الكلام كله كان منسوبًا إلى صاحب البرغوثي الذي يظهر بثياب غربية وقبعة لعلّها ترمز إلى التخفّي، وقد ظهر بدل الوجه عين كبيرة، ومعلوم أنّها من شعارات الماسونية التي تشكل الخلفية للدسائس الصهيونية. وكأن البرغوثي بذلك يقول إنّ الذين يثيرون المشكلة بشأن الهوية، هم هؤلاء، ولا بد أن أرد عليهم.

وفعلًا تولّى البرغوثي الرّدّ:

وهنا جاء دور بائعة الفجل، لتدلي بشهادتها، ولا شكّ أنّ الفجل يرمز إلى الأمور الزهيدة التافهة، وفي ذلك إشارة إلى الطبقة الشعبية المسحوقة من الفقراء، فهي التي تعلم الحقيقة، لا أفراد الطبقة المتعالية الذين أظهرتهم المرئية بـالبِذْلات الرسمية وربطات الأعناق. ثم إنّ الفجل ينمو تحت الأرض، فهو متجذّر، وتجذّره يرمز إلى الهوية الراسخة المرتبطة بالأرض.

وبائعة الفجل على وجه الخصوص تمثل القيّمة على الهوية الصحيحة، ولذلك أنطقها البرغوثي بالمفهوم الصحيح للهوية، حسب رأيه طبعًا، وأشار إلى أنّ الهوية ينبغي أن تكون تجميعًا للمظلوين في الأرض كلها.

وتتالى الصور المعبرة لدى مناقشة مفهوم مصطلح “الخواجا”/ الغريب، فـباب الشقة الخشبي المغلق القديم المحاط بفانوسين تراثيين ونجوم وورود يعبّر عن مفهوم الجار، لأنّه يحيل الحياة إلى بستان فريد من الطمأنينة والثقة والسِّحْر، والدمية والألعاب تعبر عن الطفولة، إذ فيها اللهو والمرح.

وبعد ذلك، ظهر البرغوتي بصورته المتحركة، وقد خرج من الإطار الذي تكون فيه عادة الصور المعلّقة على الجدران، وخلفه نجوم الليل، وقطع الفجل المتطايرة، كأنها أجرام تسبح في الفضاء، وبذلك يقول لنا: آن أوان ذكر الأمور غير الاعتيادية، بكسر القوالب، ومخالفة المألوف، وارتقاء مستوى الفجل (الهوية)، من أن يكون في الأرض إلى أن يكون مع النجوم.

وصار البرغوتي بعد ذلك يسرد أسماء أعلام لامعين في التاريخ، وكلّهم من العرب والأعاجم، ومن مذاهب إسلامية متباينة، وقال إنّهم ينتمون إلى أمة واحدة. وهذا يعني أن هذه الأمة هي أمة الإسلام.

وسرعان ما قفز إلى ذكر الجنود الصهاينة المحتلين لفلسطين والجنود الأميركيين المحتلين للعراق، وأعلن أن بائعة الفجل ستراهم مختلفين عنها في الهوية.

وبعد ذلك غابت صورة البرغوتي، وانتقلنا إلى ذكر القوميات في أوروبا، فكانت صورة سمكة ذهبية، وفراشات تغطي العيون! والسمكة الذهبية عند بعض الشعوب ترمز إلى الثروة والازدهار، ولها أيضًا رمزيتها عند المسيحية، وهي الدين الغالب في أوروبا. وتُعتبر الفراشات في الديانة المسيحية أيضًا رمزًا مهمًا للولادة من جديد، والتحول الروحي. لكن الولادة الجديدة للقوميات طمست الأبصار، ولهذا جاءت الفراشة تغطي العينين، وأكثر الوجه. لقد برزت السمكة والفراشة للتعبير عن هذه القوميات التي غيّرت مسار أوروبا، واختصرتها صورةُ نابليون الذي غزا الشرق، وقد قاربت تمثاله جمجمة تهوي، إشارة إلى أنه حمل معه الموت. وظهرت مجموعة جديدة من الجماجم والأسلاك الشائكة، تلتها صورة الأعلام الإسرائيلية الملطخة بالدماء، في إشارة إلى أنّ الطرفين (الغرب والصهاينة) يمثلان العنصرية والهمجية والبطش. وظهرت فورًا البيوت المهدمة والنيران التي تلتهمها، لتؤكد الدلالات السابقة.

وانتقل البرغوثي إلى حضارات المظلومين في البلاد العربية وفي مناطق الزنوج بأفريقيا والولايات المتحدة، ونثر مجموعة صور تعبر عن هذه الحضارات، ووضع خلفها الشمس التي ترمز إلى الإشعاع الحضاري. واستحضر أبرز ما في هذه الحضارات، وهو المساواة بين الشعوب، ولذلك برز الميزان بصورته التقليدية. ثم استحضر أمرًا آخر بارزًا، وهو العلم والمعرفة والفن، ولذلك برز كتاب وريشة وإصطرلاب لمراقبة حركة النجوم وعملة عربية إسلامية قديمة عليها نقوش جميلة.

ثم ظهرت قناطر أندلسية وخلفها الشمس والقمر مجتمعَينِ، والسنابل الشامخة، وكلها تدل على الرقي والازدهار، وأفضل ما فيها الشمس والقمر، إذ اجتمعا معًا، وهما ضدّان، وكان في الأمر إشارة إلى “قبول الآخر” في ثقافتنا وقيمنا، دون أن نقلّده أو نمسح شخصيتنا لأجله.

بعد ذلك يظهر البرغوثي يخاطبنا وعن يمينه الشمس وعن يساره القمر، كأنّه يذكّرنا بمقولة النبي العربي، عليه الصلاة والسلام: “لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونَه”. وهذا يعني أن لا نفرّط بالهوية.

وحين ينتقل البرغوتي إلى ذكر الغزوات الأوروبية في القرن التاسع عشر، يجعل السماء تحمرّ بتسارع، في إشارة إلى الدماء التي سببتها تلك الغزوات المدمرة.

وحين يعلن عن دعوته إلى المساواة بين الشعوب، تصبح السماء زرقاء صافية، وأثناء ذكره لضرورة توحّد المظلومين في وجه الظالمين، ارتفعت قطع الفجل إلى السماء، في إشارة متجددة إلى رقي مفهوم الهوية.

وأخيرًا، كان منطقيًا أن يشير البرغوثي إلى صديقه الذي يحاوره أن بائعة الفجل هذه تخيف رجال السلطة (الرؤساء والجنرالات، والسجّانين في أقبية التعذيب)! وهذا الأمر نجد شبيهًا له في قصيدة البرغوثي “في القدس” حيث قال:

“وسياحٌ من الإفرنجِ شُقْرٌ لا يَرَوْنَ القدسَ إطلاقًا

تَراهُم يأخذونَ لبعضهم صُوَرًا

مَعَ امْرَأَةٍ تبيعُ الفِجْلَ في الساحاتِ طُولَ اليَومْ”

وكنّى بها عن الشعب الفلسطيني المقاوم كلّه، مشيرًا إلى أنّه حاز إعجاب الشعوب.

***

وهكذا نجد أنفسنا أمام نص متعدد الأوجه في التعبير، جاءت المكونات اللغوية لتلقي قدرًا واسعًا من الإبداع، لكنّ الرموز المرئية نافستها إلى حدّ كبير، وبلّغتنا الدلالات المنشودة في إيضاح رؤية متكاملة للهوية. فلنرقَ معًا إلى مستوى هويتنا الحقيقية، ولنحرص على أن نصونها بالفكر والأدب والفن وبكل شيء في وجه الهجمات الواسعة المتتالية.