السبت , فبراير 22 2025
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / الإنتاج وحده خلاصنا – علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

الإنتاج وحده خلاصنا – علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

الإنتاج وحده خلاصنا –
علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

مع أنّي لا أستسيغ جبران خليل جبران ولا أعتبره أيقونة الأدباء اللبنانيين، فهو كان خجِلاً بأصله كإبن عائلة فقيرة، أما أدبه ففيه من الغلاظة الفكرية ما فيه، وهو بالمناسبة يركن إليه للتنظير للأسطورة اللبنانية البالية وللنموذج التكاذبي للعيش المشترك، الذي يدفعنا كل عشرين عام إلى حرب أهليّة دمويّة. ومع ذلك، لست هنا في معرض نقد جبران ولا أدبه، بل على العكس تماماً، لجبران مقولةٌ مأثورةٌ إستحضرتني اليوم إزاء ما يحدث في لبنان في ظل الإنهيار الإقتصادي الإجتماعي، ورعونة وعدم أهلية الطبقة الحاكمة في إختلاق الحلول.

يقول جبران، وأقتبس: “ويلٌ لأمّةٍ تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر …” في هذه العبارة مكمن الداء ومكمن الدواء. بعدما كان أجدادنا يملؤون إهراءات روما بإنتاجهم، عاش شعبنا في الثلاثين عام المنصرمة على الإستيراد. نحن نستورد كل شيء، حرفياً كل شيء، سياراتنا، مواد بناء وأثاث منازلنا، طعامنا، شرابنا، دواءنا، معداتنا الطبية، ملابسنا، هواتفنا، حواسيبنا … وكان هذا الإستيراد يموّل عبر الإستدانة من الخارج أو عبر سلب أموال الناس وأماناتهم في المصارف. واليوم “خلصوا المصريّات” وكان الإنهيار.

لا يحمل الناس كأفراد مسؤولية ما حصل، فالإستيراد كان سياسة الدولة بكلّها وكلكلها، وفي سياق إنفاذ هذه السياسة، غابت الدولة عن دعم أي محاولة للإنتاج فقضت عليه وعلى فرصه، وصُوّر للناس أنّهم عبر وظائف ريعيّة في الدولة أو القطاع الخاص الخدماتي يضمنون حياتهم. وكانت سياسة الإستيراد تقدم للمجتمع في إطارٍ زبائنيٍّ، كرشوة يقدّمها كل زعيم لجماعته بعد حرب ضروس دامت خمس عشرة سنة، أنهكت الناس ودمرت واقعهم وبددت أحلامهم. لكن هذه السياسة كانت لعبة قمار، نعم، لقد قامروا بنا، وراهنوا على تسويات خارجية تمحى خلالها ديون لبنان، لكن لعبة القمار هذه كان مصيرها الخسران المتجلي بالإنهيار الحاصل. طيب، الحل؟ هل نبقى أسرى هذا الواقع المرير، نضع أيدينا على خدودنا ونلطم: وا دولاراه؟

أي حل سياسي تسووي داخلي كان أم خارجي لا يلحظ تغيير جذري لهذه السياسات الإستهلاكية، سيكون بنجاً مؤقتاً يؤجل إنهيارنا القادم. الحل لمشكلتنا البنيوية لا بد أن يكون حلّاً بنيوياً. والحل واضح، دقيق، ومحدد، العودة إلى الإنتاج. الإنتاج الزراعي الذي يحقق أمننا الغذائي، والإنتاج الصناعي الذي يؤمن حاجياتنا المعقولة، والإنتاج التكنولوجي الذي نملك موارده البشرية وهي أساسه، والإنتاج العلمي الذي نملك طاقاته. أمّا نواة هذا الحل، فهي الوعي والإرادة، وهذه مسؤولية فردية، أن نقتنع حقيقةً ألا خلاص لنا إلّا بأن ننتج حاجياتنا. فبدل أن نصارع على علبة حليب، لدينا ما يكفي من الأراضي والمشاعات والموارد البشرية والطبيعية أن نصنع حليب أطفالنا، وبدل الهلع من إنقطاع الدواء، لدينا ما يكفي من الموارد البشرية القادرة على صناعته، وبدل إستجداء الخبز من الأفران، لدينا ما يكفي من العقول والزنود السمراء أن نغرس قمحنا … وعدا ذلك، عود على ذي بدء: “ويلٌ لأمّةٍ تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر …”